"مشكلة الثقافة" لزكي نجيب محمود

 


 "مشكلة الثقافة" لزكي نجيب محمود

 الأصالة والمعاصرة في الميزان

 المؤلف وأفكاره

وُلد زكي نجيب محمود (1905-1993) في قرية ميت الخولي عبد الله بمحافظة دمياط، وتلقى تعليمه بين مصر والسودان قبل أن يبتعث إلى إنجلترا حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن عام 1947. عُرف بأنه "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة" كما وصفه العقاد، وجمع بين العمق الفلسفي والبيان الأدبي الرشيق .

عاصر محمود تحولات كبرى في العالم العربي، من الاستعمار إلى محاولات النهضة، وشهد الهزيمة العربية عام 1967 التي شكلت صدمة دفعت كثيرين لإعادة تقييم البنى الثقافية والفكرية. تأثر بمدارس الفلسفة الوضعية المنطقية خلال دراسته في الغرب، لكنه ظل منشغلاً بإشكالية الهوية العربية .

الإطار المفاهيمي: الثقافة بين الثابت والمتحول

يقدم الكتاب تحليلاً لثنائية محورية:

  • الثقافة العربية: تُعلي شأن المبادئ الثابتة، وتستند إلى التراث كمرجعية مطلقة، وتخلط بين مجالات الدين والعلم والفن.

  • الثقافة الغربية: تقوم على النظرة العلمية التحليلية، وتفصل بين مجالات المعرفة، وتتبنى مبدأ التطور الدائم .

يرى محمود أن هذه الاختلافات أنتجت "مذاقين مختلفين للحياة":

"الاختلاف بين الثقافتين أدى إلى وجود مذاقين مختلفين لحياة الإنسان... فكرة المبادئ لعمق موضعها في البيان الثقافي" .

الإشكاليات الأساسية في الثقافة العربية

  1. الجمود تجاه التراث:
    انتقاد التقديس الأعمى للماضي، واعتباره أن "التحول هو طبيعة الأشياء وصميمها"، فالماضي لا يموت لكنه "خيوط تدخل في نسيج جديد" مع كل عصر . كما يرى أن المشكلات القديمة (كخلق القرآن) لا تطابق مشكلات العصر، مما يستوجب إعادة صياغة المفاهيم.

  2. الانتقائية في التعامل مع الغرب:
    نقد ظاهرة الأخذ بمنتجات الحضارة الغربية (التقنية والفنية) ورفض أسسها المنهجية:

    "نأخذ بكل بدعة غربية في الأدب والفن... لكننا نتردد ألف مرة في الأخذ بمنهجيتهم العقلية العلمية" .

  3. الخلط بين مجالات المعرفة:

    • العلم: يقوم على العقل والاستدلال المنطقي.

    • الدين: يقوم على الإيمان المباشر.

    • الفن: يقوم على التذوق الجمالي.
      الفشل في تمييز هذه الحدود يؤدي إلى صراعات عقيمة .

  4. الغموض المفاهيمي:
    استخدام مصطلحات كـ"الحرية" و"العلم" دون ضبط دلالي:

    "لا حرية لجاهل في الميدان الذي هو جاهل بحقائقه" .

الحلول المقترحة: نحو ثقافة متجددة

  1. نموذج "الإطار والمضمون":

    • الإطار الثابت: العقيدة الدينية، التقاليد الأسرية، ملامح الذوق الفني.

    • المضمون المتحول: تطبيقات التراث في سياقات العصر:

      "نحافظ على الهيكل العام لكننا نملأه بمضمون حي حسب تغيرات الظروف" .

  2. الترجمة الحضارية للتراث:
    تحويل نصوص التراث إلى صيغ معاصرة مع الحفاظ على روحها، عبر انتقاء "المعقول" (مثل عقلانية المعتزلة وابن رشد) ورفض "اللامعقول" (كالخرافات الميتافيزيقية) .

  3. تبني المنهج العلمي:
    الدعوة إلى جعل "الكلمة الفاصلة" للعلم في شؤون الحياة المادية، مع فصلها عن مجال الإيمان الروحي .

  4. التوازن بين العقل والوجدان:
    رؤية أن الثقافة العربية مؤهلة للتوفيق بين النزعة الصوفية الشرقية والعقلانية الغربية:

    "النظرة الصوفية والنظرة العلمية التقتا في أمة جعلها الله أمة وسطاً" .

نقد وتأثير الكتاب

  • تطور فكر المؤلف: من دعوته المبكرة لاستبعاد التراث (في "خرافة الميتافيزيقا") إلى التمييز بين معقوليه ولامعقوليه (في "المعقول واللامعقول") .

  • انتقادات واجهتها أفكاره:

    • اتهامه بعدم الإلمام الكافي بتراث الإسلام .

    • تركيزه المفرط على الجانب المنطقي على حساب الأبعاد الوجودية.

  • إسهاماته الباقية:

    • التأكيد على أن الثقافة "ليست تحصيلاً أكاديمياً بل عملية هاضمة تنتج قيماً جديدة" .

    • ربط النهضة بالتحديث الثقافي لا التقني فقط.

 الثقافة كأداة للفعل الحضاري

يختتم محمود برسالة مفادها أن الثقافة ليست "زينة فكرية"، بل هي:

"أداة فعل حقيقي على أرض الواقع... تمهد السبيل نحو الصحة والقوة والعزة" .

الكتاب يمثل مرآة نقدية لواقع الثقافة العربية في مواجهة تحديات العصر، ويبقى سؤال التوفيق بين الأصالة والمعاصرة الذي أثاره محمود – رغم مرور عقود – من أكثر الأسئلة إلحاحاً في فكرنا المعاصر

إرسال تعليق

0 تعليقات