"ما الفن؟" لليو تولستوي
تحليل نقدي لفلسفة الفن والأخلاق
I. التموضع التاريخي والفكري للكتاب
الخلفية الزمنية: كُتِب الكتاب عام 1897 بعد 15 عامًا من التفكير المكثف، ونُشر أولاً بالإنجليزية بسبب الرقابة الروسية .
دوافع التأليف: انطلق تولستوي من تساؤل جوهري: "هل تُقاس قيمة الغذاء بما يمنحه من لذة أم بما يقدمه من فائدة لأجسادنا؟" لينقل هذا المنطق إلى عالم الفن .
السياق الفني: جاء الكتاب ردة فعل على:
انتشار النزعات النخبوية في الفن الأوروبي
انفصال الفن عن هموم العامة
هيمنة مفاهيم "الفن لأجل الفن" .
II. النقد الجذري لمفهوم الجمال
أ) تفكيك الأسس التقليدية
يرفض تولستوي الربط بين الفن والجمال، معتبرًا أن "الجمال" مفهوم:
نسبي: يختلف باختلاف الأفراد والثقافات
غامض: لا يوجد تعريف متفق عليه عبر التاريخ
خادع: يُستخدم لتبرير فنون لا أخلاقية .
يسخر من تعريف الفن كـ"تجلّي الجمال" بسؤاله: "أين الحد بين باليه ممتع وآخر غير ممتع؟ ولماذا لا يُعدّ عمل الخياط أو مصمم الأزياء فنًا؟" .
ب) إشكالية اللغة
يشير إلى أن كلمة "جمال" (krasota) في الروسية:
كانت تقتصر تاريخيًا على "ما يسر العين"
لم تُستخدم لوصف السلوك الأخلاقي (حيث تُستبدل بكلمات مثل "طيب" أو "صالح")
مما يدل على انفصال المفهوم الجمالي عن القيم الأخلاقية .
III. التواصل العاطفي والعدوى الروحية
أ) جوهر الفن الحقيقي
يقدم تولستوي تعريفًا مزدوجًا:
"يبدأ الفن عندما يعيد الإنسان، بهدف إيصال شعور اختبره، استحضاره في نفسه ثم التعبير عنه عبر علامات خارجية" .
"الفن نشاط إنساني يقوم على نقل المشاعر التي عاشها الفنان إلى الآخرين عبر إشارات محسوسة" .
ب) شروط العدوى الفنية
يحدد ثلاثة معايير لنجاح العمل الفني:
شدة المشاعر: عمق التجربة العاطفية عند الفنان.
وضوح التعبير: قدرة الوسيط الفني على نقل المشاعر بدقة.
صدق الفنان: أصالة التجربة وخلوها من التزييف .
ج) اتساع المفهوم
الفن ليس حكرًا على النخبة: يشمل:
أغاني المهد والنكات
زينة البيوت والملابس
الطقوس الدينية والجنائزية .
"العمارة والتماثيل والشعر والرواية ليست سوى جزء ضئيل من هذا الفن الواسع" .
IV. معايير الفن الجيد: البساطة، الصدق، الوظيفة الأخلاقية
أ) نقد الفن الزائف
يحدد أربع سمات للفن المنحط:
السمة | التعريف | أمثلة |
---|---|---|
الاقتراض | إعادة تدوير عناصر من أعمال أخرى | "عذارى، محاربون، أسود، أضواء قمر" |
التقليد | الوصف المفرط للتفاصيل على حساب المشاعر | لوحات تشبه الصور الفوتوغرافية |
الفعالية | الاعتماد على صدم المشاهد بالتناقضات | "مزج الفظيع مع العطيف، الجميل مع القبيح" |
التحويل | إرباك المتلقي بالتعقيدات الفكرية | روايات تخلط الخيال بالوثائقية تعسفًا |
ب) صفات الفن الأصيل
الوضوح والبساطة: "يجب أن يفهمه الخادم والفلاح" .
الصدق العاطفي: أن يعبر الفنان عن مشاعر اختبرها حقًا.
الوظيفة الأخلاقية: "تطهير المشاعر الدنيا واستبدالها بأخرى أنبل" .
V. الفن المسيحي والفن العالمي: رؤية إنسانية متسامية
أ) أسس الفن المسيحي
يقوم على مبدأين:
البنوة لله: كرامة كل إنسان
أخوة البشر: المساواة في القيمة الإنسانية .
أمثلته:
روايات: البؤساء لهوجو، كوخ العم توم لستو
لوحات: أعمال "ميليت" التي تمثل العمال باحترام .
ب) مفهوم الفن العالمي
يوحّد البشر عبر نقل:
المشاعر اليومية الأساسية (فرح، حزن، حنان)
التجارب الإنسانية المشتركة .
أمثلته:
موسيقى: شوبان، موزارت
أدب: سرفانتس، جوجول، بوشكين .
VI. أسباب فساد الفن: تحليل تاريخي
أ) دور الكنيسة وعصر النهضة
المسيحية المبكرة: فن نابع من حب المسيح والإنسان.
مسيحية الكنيسة: حوّلت الفن إلى:
عبادة لشخصيات دينية
أداة طقسية خاضعة لهيمنة الكهنوت .
عصر النهضة: استبدال القيم المسيحية بقيم وثنية:
تمجيد المتعة
الترف النخبوي
انفصال عن هموم الشعب .
ب) عوامل معاصرة
النخبوية: احتكار النقاد لتحديد "الفن الجيد".
الفصل بين الفن والأخلاق: نظرية "الفن لأجل الفن".
تمويل الطبقات الحاكمة: يجبر الفنانين على التملق .
VII. تأثير الكتاب وجدل النقد
أ) ردود الفعل المتباينة
الهجوم: وصفه "الانحطاطيون" بأنه "مصيدة للحمقى" .
الإشادة: قال الرسام ريبين: "يشعر المرء بالسرور وهو يقرأ هذا العمل الهائل"، وأجابه تولستوي: "إذا وضّح الكتاب الفن لفنان مثل ريبين، فجهدي لم يضع سدى" . وصفه البعض بـ"اكتشاف أمريكا في مجال الفن" .
ب) الإرث المستمر
تأثير مباشر: أثر في حركات:
الواقعية الاشتراكية
الفن الثوري
الفن الشعبي .
أهمية معاصرة: يشكل مرجعًا في نقاشات:
وظيفة الفن في المجتمع
علاقة الفن بالأخلاق
معايير تقييم الأعمال الفنية .
VIII. الفن كأداة تواصل إنساني
الخلاصة المركزية: الفن ليس ترفًا جماليًا، بل "وسيلة للتواصل الروحي بين البشر، شرط من شروط الحياة الإنسانية، مثل اللغة تمامًا" .
الرؤية التقدمية: الفن الحقيقي يجب أن:
يوحد البشر عبر المشترك الإنساني
يرتقي بالمشاعر الأخلاقية
يكون في متناول كل الناس .
المفارقة التاريخية: رغم هجوم تولستوي على روائع مثل شكسبير وفاغنر ، يظل كتابه نفسه تحفة فنية تنقل شعورًا صادقًا بالقلق على مصير الإنسانية.
"الفن الأصيل يوسع مشاعرنا، فيحررنا من قيود الزمان والمكان، ويجعلنا نشعر باتحادنا مع كل البشر" - تولستوي .
يظل "ما الفن؟" نصًا ثوريًا يتحدى أسس نظرية الجمال، ويقدم بديلاً أخلاقيًا وإنسانيًا لا يزال يثير الجدل والتأمل بعد أكثر من قرن على صدوره
0 تعليقات