التواريخ لهيرودوت

 


 "التواريخ" لهيرودوت

 تأسيس علم التاريخ الغربي

الأب المؤسس للتأريخ

يُعد كتاب "التواريخ" (Ἱστορίαι) لهيرودوت (نحو 430 ق.م) حجر الزاوية في الكتابة التاريخية الغربية. جمع هيرودوت، المولود في هاليكارناسوس (تركيا الحديثة)، بين السرد القصصي والتحقيق النقدي لتوثيق الصراع بين الإمبراطورية الفارسية والدويلات اليونانية، مع تسجيل ثقافات البحر المتوسط والشرق الأدنى. رغم انتقاده أحيانًا لانحيازه أو اعتماده على الأساطير، يظل العمل مصدرًا لا غنى عنه لفهم العالم القديم .


السياق التاريخي والدوافع

  • الهدف المعلن: "منع طمس أحداث البشر بفعل الزمن، والحفاظ على إنجازات الإغريق وغير الإغريق"، مع التركيز على جذور الصراع اليوناني-الفارسي .

  • المنهجية الثورية: اعتمد على:

    • الرحلات الميدانية من مصر إلى البحر الأسود.

    • جمع الروايات الشفوية والمقابلات.

    • التحقق المحدود من المصادر (رغم إدراجه لخرافات مثل "النمل الذهبي" في الهند).

  • الإطار الأيديولوجي: قدم الصراع كمعركة بين الحرية اليونانية والاستعباد الفارسي، مؤطرًا الحرب كمقاومة للطغيان .


الهيكل: الكتب التسعة وأسماء ربات الفنون (الميوزات)

قسّم العمل لاحقًا إلى تسعة كتب، سُميت كل منها باسم إحدى ربات الفنون:

الكتاباسم الإلهامالموضوع الرئيسيأحداث/شخصيات محورية
الأولكليو (التاريخ)صعود الإمبراطورية الفارسيةكروسوس، سولون، معركة هاليس (585 ق.م)
الثانييوتيربي (الموسيقى)جغرافيا وتاريخ مصرنهر النيل، الأهرامات، الفرعون سيزوستريس
الثالثثاليا (الكوميديا)حكم قمبيز وصراعات الخلافةبوليكراتس، تمرد المغتصبين، صعود داريوس
الرابعميلبوميني (التراجيديا)السكيثيون وشعوب البحر الأسودمقاومة السكيثيين لغزو داريوس
الخامستيربسيكوري (الرقص)الثورة الأيونية ضد الفرسأريستاغوراس، بداية الحروب اليونانية-الفارسية
السادسإراتو (الشعر الغزلي)معارك ماراثون و لاديميلتيادس، الهزيمة الفارسية الأولى
السابعكاليوبي (الملحمة)غزو زركسيس لليونانمعركة ثيرموبيلاي، خيانة إفيالتيس
الثامنأورانيا (الفلك)معارك بحرية حاسمةسلاميس، تدمير الأسطول الفارسي
التاسعبوليهيمنيا (الترانيم)تحرير اليونانبلاتيا، ميكال، نهاية التهديد الفارسي

تحليل

الكتاب الأول: كليو (صعود فارس)

  • حكمة سولون وكروسوس: ملك ليديا كروسوس (أغنى رجل في العالم) يسأل الحكيم سولون عن "السعادة الحقيقية"، فيجيب: "لا تحكم على حياة إنسان قبل موته" – نبوءة تتحقق بسقوط كروسوس أمام كورش الفارسي .

  • مفارقات القدر: تنبؤ أوراكل لكروسوس: "إذا هاجمت فارس، ستدمر إمبراطورية عظيمة" (لم يحدد أنها إمبراطوريته!).

  • الاستعارات الثقافية: يسجل أصل الشعب التيراني (الإتروسكان) من ليديا، ويصف آليات بناء بابل .

الكتاب الثاني: يوتيربي (عجائب مصر)

  • نهر النيل: يحلل نظريات فيضانه (الرياح الموسمية؟ ذوبان الثلوج؟)، ويرفض التفسيرات الخارقة.

  • الممارسات الدينية:

    • التضحية بالثيران للآلهة، تحنيط الحيوانات (القطط مقدسة!).

    • عادات الزواج والجنازات المخالفة للتقاليد اليونانية.

  • الفراعنة البنائين: شيد خوفو الهرم الأكبر "بقسوة" (جعل العمال يعملون بالسخرة)، بينما اشتهر ميكيرينوس بالعدل .

الكتاب الرابع: ميلبوميني (السكيثيون: برابرة أم أبطال؟)

  • الجغرافيا كسلاح: يصف السكيثيين (شمال البحر الأسود) الذين هزموا داريوس بـ "حرب الأرض المحروقة": دمروا المراعي وهربوا للسهول، مما أجبر الفرس على الانسحاب جوعًا .

  • عالم ما وراء السكيثيا: يسجل أساطير عن:

    • الأريمسبي: شعب بعين واحدة!

    • الهيبيربوريين: شعب يعيش في "جنوب الشمال" حيث تسقط الشمس!

الكتب 7-9: الملحمة اليونانية (زركسيس وولادة البطولة)

  • زركسيس وجسر الهيليسبونت: أمر بجلد البحر عقابًا للأمواج التي دمرت جسره! .

  • ثيرموبيلاي (480 ق.م):

    • ليونيداس: قاد 300 إسبرطي و700 ثيسبياني ضد 200,000 فارسي.

    • الخيانة: إفيالتيس يدل الفرس على طريق خلفي.

    • الخطاب الخالد: "تناولوا الفطور؛ فسنأكل العشاء في العالم السفلي!".

  • سلاميس: أثينا تقود الأسطول اليوناني لتدمير الفرس في مضيق سالاميس باستراتيجية الكمين.

  • بلاتيا (479 ق.م): الهزيمة البرية الحاسمة للفرس بقيادة سپارتا.


 الإنجازات والانتقادات

الجوانب الثوريةالمحددات والانتقادات
جمع الروايات المتعددةتضمين أساطير (مثل "فينكس" بمصر)
تمييز بين المشاهدة والإشاعةانحياز لليونان ضد "البرابرة"
تحليل الأسباب (اقتصادية، دينية)أخطاء جغرافية (مثل مصادر النيل)
تسجيل ثقافات غير يونانيةمبالغات رقمية (جيش زركسيس 5 ملايين؟)

التأثير

  • حفظ الثقافات المندثرة: دون عادات الشعوب التي قضت عليها الإمبراطوريات (مثل السكيثيين).

  • نموذج للتاريخ الشمولي: جمع بين السياسة، الدين، الجغرافيا، والأنثروبولوجيا.

  • تأثير أدبي: سرد درامي ألهم أعمالًا مثل "الإلياذة" الحديثة.

  • التحدي الأخلاقي: طرح أسئلة عن "العدالة الإلهية" (مصير الطغاة) و"التوازن بين الحضارات" .


 بين الأسطورة والعقلانية

خلق هيرودوت عملاً أبعد من كونه سجلاً حربيًّا: لقد كان رحلة في عقلية الإنسان القديم، حيث تختلط القصص بالحقائق، والآلهة بالبشر، والحرية بالاستبداد. رغم هفواته، أسس مبدأًًا لا يزال أساسيًّا: التاريخ ليس انتصار المنتصرين فقط، بل هو صوت المنسيين أيضًا. كما كتب:

"يُظهر هذا البحث أن قوى البشر العظيمة تزول سريعًا، بينما أعمال التواضع الخفية تخلدها الأقدار".

يظل "التواريخ" مرآة للحضارة الإنسانية – تعكس أبهتها، وحماقتها، وصراعها الأبدي من أجل الكرامة

إرسال تعليق

0 تعليقات