الدين: أول 5000 عام" لديفيد غريبر
1. إعادة تعريف الدين وتفكيك الأساطير الاقتصادية
يقدم ديفيد غريبر (أنثروبولوجي وناشط أناركي) في كتابه الثوري تحليلاً غير مسبوق لتاريخ الدين، متحدياً الروايات التقليدية في الاقتصاد. يجادل بأن:
الديون هي أساس العلاقات الاجتماعية قبل أن تكون معاملات مالية.
النقود لم تتطور من المقايضة، بل من أنظمة ائتمانية معقدة.
الديون مرتبطة عضوياً بالعنف والأخلاق والسيادة، وليست مجرد أداة محايدة.
يستند غريبر إلى أدلة أنثروبولوجية وتاريخية من حضارات متنوعة (من سومر إلى إفريقيا المعاصرة)، ليكشف كيف شكَّلت مفاهيم الدين البنى الاجتماعية والقيم الأخلاقية عبر 5000 عام.
2. تفنيد "أسطورة المقايضة"
يهاجم غريبر الفكرة الأساسية في الاقتصاد الكلاسيكي (خاصة آدم سميث) التي ترى أن المقايضة سبقت النقود، والتي بدورها سبقت الائتمان. الأدلة التي يقدمها:
لا وجود لمجتمعات مقايضة خالصة في السجل الأنثروبولوجي: المجتمعات ما قبل النقدية اعتمدت على أنظمة ائتمان غير رسمية ("أنت تعطيني حاجة اليوم، وأردها لك لاحقاً").
المقايضة تحدث فقط مع الغرباء أو في سياقات عدائية (مثل الحرب)، أما داخل المجتمعات فسادت الثقة والالتزام.
أمثلة تاريخية:
قبائل التيف في نيجيريا: يستخدمون "عصي الديون" لتسجيل الالتزامات المتبادلة.
شعوب الكونغو (الليلي): ينظمون العلاقات الاجتماعية عبر "ديون" رمزية لا علاقة لها بالتجارة .
خلاصة غريبر: "الائتمان أسبق من النقود، والمقايضة أسطورة اخترعها الاقتصاديون لتبرير نظام نقدي قائم على الندرة".
3. الدين والعنف: الجذور المظلمة للعلاقة
يكشف الكتاب كيف ارتبطت الديون تاريخياً بالاستغلال والعنف المنظم:
العصر المحوري (800 ق.م - 600 م): ظهور "المجمع العسكري-النقدي-العبودي" في الإمبراطوريات الرومانية والفارسية والصينية:
الجيوش المرتزقة دُفعت بالعملات المعدنية (فضة/ذهب)، مما فرض ضرائب نقدية على الشعوب.
الغزوات العسكرية حولت السكان المقهورين إلى عبيد أو مدينين عبر "ديون التعويض".
مثال: روما فرضت ضرائب نقدية على مستعمراتها، مما أجبر السكان على بيع أنفسهم عبيداً لسداد الديون.
أول كلمة "حرية" في التاريخ (منشورات سومرية) ارتبطت بإلغاء الديون، لا بالتحرير السياسي .
4. تناوب العصور: بين "النقود الائتمانية" و"النقود السلعية"
يحدد غريبر دورة تاريخية متكررة:
عصور النقود الائتمانية (Virtual Money):
تعتمد على الثقة والعلاقات (شهادات دين، سجلات محاسبية).
سادت في فترات السلام (العصور الوسطى الأوروبية، الدول الإسلامية).
مثال: "شيكات" العالم الإسلامي في العصر الذهبي.
عصور النقود السلعية (Hard Currency):
تعتمد على معادن ثمينة (ذهَب/فضة).
تنتشر مع الحروب والإمبريالية (الإمبراطورية الرومانية، الاستعمار الأوروبي).
مثال: نهب إسبانيا لذهب الأمريكتين لتمويل حروبها.
التحول بين العصرين يُحدثه عادة: حرب → عنف → حاجة لتمويل الجيوش → عودة "النقود الصلبة".
5. العفو عن الديون: "يوبيل الديون" كتقليد ثوري
يبرز غريبر ظاهرة تاريخية مهمة: إلغاء الديون الدورية لمنع الانهيار الاجتماعي:
السومريون والبابليون: ملوك يعلنون "تصفير الديون" لتحرير العبيد واستعادة الاستقرار.
الشريعة اليهودية: "عام اليوبيل" (كل 50 سنة) يُلغي الديون ويُحرر العبيد.
الهدف: منع تراكم الثروات بشكل قاتل والحفاظ على التماسك المجتمعي.
الاستثناء الملحوظ: ديون التجار (التي استُثنيت من العفو)، لأنها اعتُبرت ضرورية للاقتصاد → إرهاص مبكر لـ "الأكبر من أن يفلس" .
6. "الشيوعية اليومية": الأساس الخفي للمجتمع
يقدم غريبر مفهومًا مثيراً: الممارسات الشيوعية هي أساس التفاعل الاجتماعي اليومي، وليست نظرية سياسية:
تعريفها: "من كل حسب قدرته، إلى كل حسب حاجته" في المواقف الصغيرة:
طلب إعارة مفك من جار.
إغاثة غريق في الشارع.
مشاركة سجائر مع غريب.
وظيفتها: تبني الثقة وتُجنب المجتمع التعقيد البيروقراطي.
مثال: في شركة، لا يسأل الموظفون "ماذا سأستفيد؟" عند طلب مساعدة عاجلة .
التناقض الجوهري: الرأسمالية نفسها تعتمد على "شيوعية" مصغرة داخل وحداتها الإنتاجية!
7. الدين والأخلاق: من الخطيئة إلى القانون
يحلل الكتاب كيف شكَّلت مفاهيم الدين اللغة الأخلاقية والقانونية:
المصطلحات الدينية: "ذنب" (Guilt)، "خطيئة" (Sin)، "فداء" (Redemption) – جميعها مشتقة من دين مالي.
تحول الدين المادي إلى دين وجودي:
الديون المُستحقة للآلهة (في الديانات القديمة) → دين الإنسان لـ "الوجود نفسه".
هذه الفكرة استُغلت لتبرير السخرة وتكريس الطبقية.
إلغاء الدين في المسيحية: "اغفر لنا ديوننا كما نغفر نحن للمدينين لنا" (الصلاة الربانية) – تأكيد على ربط المغفرة المالية بالأخلاقية.
8. العصر الحديث: الدين في ظل الرأسمالية العالمية
يربط غريبر التاريخ بالأزمات المعاصرة:
انهيار معيار الذهب (1971): عودة إلى "النقود الائتمانية" (الدولار كعملة ورقية).
الدين كأداة هيمنة:
صندوق النقد الدولي يفرض "برامج تقشف" على دول مثقلة بالديون (مثل اليونان).
الديون الوطنية تُستخدم لفرض سياسات تخدم النخب المالية .
مقارنة بالتاريخ: الضرائب الإمبريالية القديمة ≈ ديون دول الجنوب اليوم.
نبوءة غريبر: النظام الحالي سيؤدي إلى أزمة ديون عظمى تتطلب "يوبيلاً حديثاً".
9. انتقادات رئيسية للكتاب
رغم تأثيره، واجه الكتاب انتقادات حادة:
تجاهل ديون التجارة:
ينتقد غريبر لتركيزه على "ديون الاضطهاد" وتجاهله ديون التجار التي حافظت على استقرار الاقتصادات (مثل الاعتمادات المستندية في بابل) .
تحيز أيديولوجي واضح:
اتهامه بـ معاداة السوق وتقديم "الشيوعية" كبديل رومانسي، رغم فشلها التاريخي .
تعميمات أنثروبولوجية:
بعض أمثلته (مثل الـ "تزامالاغ" في أستراليا) لا تُطبَّق على المجتمعات المعقدة .
سوء فهم الاقتصاد الحديث:
الديون الاستهلاكية ≠ ديون استثمارية تُنشئ بنى تحتية .
10. تأثير الكتاب
رغم الانتقادات، يبقى الكتاب عملاً مؤسساً:
إعادة تعريف المال: ليس سلعة محايدة، بل علاقة اجتماعية قائمة على الثقة والقوة.
فتح حوار عابر للتخصصات: بين أنثروبولوجيا، اقتصاد، تاريخ، وفلسفة.
تأثير سياسي: ألهم حركات مثل "احتلوا وول ستريت" التي رفعت شعار "نحن الـ 99%" ضد طغيان الديون.
دعوة لأخلاق جديدة: فصل الدين عن الإذلال، واستعادة فكرة "اليوبيل" كحق إنساني.
كلمات غريبر الخالدة: "لو كان للدين تاريخ، فذلك يعني أن الأوضاع الحالية ليست حتمية... ويمكن تغييرها".
تناوب عصور النقود عبر التاريخ:
العصر/المكان | نوع النظام النقدي | السمات الرئيسية | الأدوات المستخدمة |
---|---|---|---|
سومر (3500 ق.م) | ائتماني | سجلات طينية للديون، "يوبيل" دوري | ألواح طينية |
الإمبراطورية الرومانية | سلعي (صلب) | عملات فضية، تمويل جيوش، استعباد بالدين | ديناريوس فضي |
العصور الوسطى الإسلامية | ائتماني | الشيكات، الصكوك، الاعتمادات التجارية | سندات دين (صكوك) |
الاستعمار الأوروبي | سلعي (صلب) | نهب ذهب الأمريكتين، تجارة الرقيق | عملات ذهبية (دبلون) |
النظام الحديث (ما بعد 1971) | ائتماني | دولار كعملة ورقية، ديون سيادية | عملات إلكترونية، سندات خزينة |
أهم المصطلحات في الكتاب:
اقتصادات إنسانية (Human Economies): أنظمة تتعامل مع البشر كقيمة غير قابلة للتحويل إلى نقود.
ديون لا تُسدد (Eternal Debts): دين رمزي للآلهة أو الطبيعة (كُيِّف لاحقاً لخدمة السلطة).
عنف منهجي (Systematic Violence): آلية إجبار على سداد الديون عبر الدولة أو الجيش.
أسطورة المقايضة (Myth of Barter): سردية اقتصادية يرفضها غريبر لانعدام أدلتها التاريخية
0 تعليقات