الطاعون لألبير كامو

 


 "الطاعون" لألبير كامو

 رائعة الوجودية في مواجهة الوباء

الأدب والتاريخ في الرواية

ظهرت رواية "الطاعون" لألبير كامو عام 1947، بعد ثلاث سنوات فقط من انتهاء الاحتلال النازي لفرنسا. 

تُعد هذه الرواية - المكونة من 396 صفحة - واحدة من أبرز الأعمال الأدبية في القرن العشرين، وحصل كامو بفضلها على جائزة نوبل للآداب عام 1957 عن عمر 44 عامًا فقط. 

تدور أحداث الرواية في مدينة وهران الجزائرية خلال أربعينيات القرن العشرين، وتُصور تفشي وباء الطاعون الدبلي الذي يحول المدينة إلى سجن مغلق. رغم أن كامو رفض تصنيف عمله كرواية وجودية، إلا أنها تُقرأ كاستعارة عميقة لمواجهة الشر المطلق، سواء كان وباءً أو احتلالًا .


 من الجرذان إلى الذروة والانحسار

1.  الغزو الخفي (الفصل 1-2)

تبدأ الرواية بظاهرة غريبة: سقوط الجرذان الميتة في شوارع وهران. يصف الراوي (الذي يُكشف لاحقًا أنه الطبيب ريو) كيف تتساقط القوارض نافقة بأعداد هائلة، مما يثير الاشمئزاز والقلق بين السكان. السلطات تتعامل ببطء وتهمل التحذيرات، لكن مع وفاة حارس العمارة "ميشيل" بعد إصابته بحمى غامضة، يبدأ الطبيب برنار ريو بالشك في كارثة صحية. تحليله مع زميله الطبيب كاستيل يؤكد أن المرض هو الطاعون الدبلي. هنا تظهر أولى إشارات العبث: الموت يضرب عشوائيًا دون سبب مفهوم .

2.  المدينة كسجن كبير (الفصل 3-4)

بعد تأكد تفشي الوباء، تُغلق السلطات مدينة وهران بإحكام. توقف خدمات البريد، ويُفرض حظر تجول صارم، وتتحول الحياة إلى عزلة قاسية. يُمنع السفر خارج المدينة، مما يفصل الأزواج والعائلات. في هذه الأثناء، ينشأ صراع داخلي بين الشخصيات:

  • ريمون رامبير (الصحفي الفرنسي): يحاول الهروب ليلتقي بحبيبته في باريس، لكنه يقرر البقاء لمساعدة ضحايا الوباء.

  • الأب بانلو: يعظ بأن الطاعون "عقاب إلهي" على خطايا السكان، خاصة في خطبته الشهيرة في الكاتدرائية.

  • كوتار: المجرم الذي يستغل الفوضى للتهريب والإثراء على حساب المعاناة العامة .

3. الذروة: العنف واليأس (الفصل 5-6)

مع استمرار الوباء لشهور، ترتفع الوفيات من بضع عشرات إلى مئات يوميًا. تتحول المستشفيات إلى مراكز إيواء مكتظة، وتُدفن الجثث في حفر جماعية. تندلع أعمال عنف بين السكان والشرطة، وتنتشر عمليات النهب. في ذروة الكآبة، تشهد الرواية حدثًا محوريًا: وفاة الطفل "فيليب" ابن قاضي التحقيق بعد معاناة مروعة. مشهد موته يُضعف إيمان الأب بانلو، ويصبح نقطة تحول في نظرته للطاعون كعقاب .

4. المقاومة: التضامن الإنساني (الفصل 7-8)

رغم الظلام، تنبثق أشكال المقاومة عبر فرق التطوع الصحية التي ينظمها:

  • الدكتور ريو: يعمل 20 ساعة يوميًا لعلاج المرضى، رغم علمه أن جهوده قد تكون عديمة الجدوى.

  • جان تارو: الغريب عن المدينة الذي يكرس نفسه لإنقاذ الآخرين كتكفير عن ماضٍ غامض.

  • جوزيف غران: الموظف البسيط الذي يسجل بيانات الضحايا ويحاول كتابة رواية وسط الفوضى.
    هذه الشخصيات تجسد فكرة كامو المركزية: "في مواجهة العبث، يجب التمرد بالأخلاق" .

5.  الانحسار وآثار ما بعد الكارثة (الفصل 9-10)

بحلول يناير، يبدأ الطاعون في الانحسار بعد تطبيق مصل جديد من قبل الدكتور كاستيل. تنخفض الوفيات، وترفع السلطات الحجر الصحي. لكن النصر لا يخلو من خسائر: زوجة ريو تموت في المنفى، وجان تارو يصاب بالطاعون ويفارق الحياة. 

تنتهي الرواية بمشهد احتفال السكان بانتهاء الكابوس، بينما يحذر ريو في الصفحات الأخيرة: "الطاعون لا يختفي إلى الأبد... يمكنه أن يظل خامدًا لعقود ثم يستيقظ ليصيب البشر من جديد" .

مراحل تطور الوباء في الرواية:

المرحلةالمدةالأحداث الرئيسيةالتأثير النفسي على السكان
الإنكارأيامسقوط الجرذان، موت حارس العمارةاللامبالاة، التهكم
العزل2-3 أشهرإغلاق المدينة، انقطاع الاتصالاتالصدمة، الحنين، اليأس
الذروة4-5 أشهرالوفيات الجماعية، أعمال العنفالهستيريا، فقدان الإيمان
المقاومة3 أشهرتشكيل فرق التطوع، تطبيق المصلالتضامن، الأمل المشوب بالشك
الانحسارشهررفع الحجر، عودة الحياة الطبيعيةالفرح المختلط بالصدمة

 وجوه المقاومة والانهيار

1. الدكتور برنار ريو: البطولة الهادئة

طبيب في الخامسة والثلاثين، ملحد وعقلاني، يمثل الضمير الأخلاقي للرواية. رغم إرساله زوجته المريضة إلى مصحة خارج المدينة، يبقى لمواجهة الوباء. فلسفته بسيطة: "المقاومة واجب إنساني حتى لو كانت المعركة خاسرة". سرده الموضوعي للأحداث - الذي يُكشف في النهاية أنه كاتب اليوميات - يعكس رؤية كامو لضرورة "الوضوح" في مواجهة الفوضى .

2. جان تارو: التمرد المتسامي

شخصية غامضة وصلت إلى وهران قبل الوباء بقليل. يكشف تدريجيًا أنه ابن مدعٍ عام، عانى طفولة قاسية بعد انتحار أبيه. مشاركته في فرق الإغاثة هي تكفير عن شعوره بالذنب تجاه ماضيه. موته بالطاعون في لحظة الانتصار يجعله شهيدًا رمزيًا لفكرة التضحية .

3. الأب بانلو: إيمان في مواجهة العبث

كاهن يسوعي يرى الطاعون أولًا كـ"سوط إلهي" لتأديب الخطاة. لكن موت الطفل فيليب يهز يقينه، لأنه لا يمكن تبرير معاناة بريء. تحوله من الخطابة الدينية إلى العمل في المستشفيات يعكس أزمة الإيمان في مواجهة الشر العشوائي .

4. جوزيف غران: البطل العادي

موظف بلدي فقير، يحاول كتابة رواية لا ينتهي منها أبدًا. رغم عدم امتلاكه مهارات طبية، يسجل بيانات الضحايا وينظم إمدادات الأدوية. يمثل بطولة الإنسان العادي الذي يصنع الفارق بالاستمرارية لا بالبطولات الاستثنائية .

 الرموز البشرية في الرواية:

الشخصيةالمبدأ الفلسفيالتحول الدراميالمصير
الدكتور ريوالعقلانية والعلممن الحياد إلى القيادة الأخلاقيةيبقى حيًا، لكنه يخسر زوجته
جان تاروالتكفير عن الذنبمن الغموض إلى التضحية النقيةالموت في لحظة انتصار البشر
الأب بانلوالإيمان الدينيمن التزمت إلى الشك الإنسانييموت بالطاعون بعد تحوله
رامبيرالفردية ثم التضامنمن الهروب إلى المشاركةيلتقي حبيبته بعد العودة

 العبث، التمرد، والتضامن

1. العبثية واللامعنى

يصور كامو الطاعون كقوة شر عشوائية تضرب دون سبب أو غاية. هذا يعكس جوهر فلسفته العبثية:

  • العالم لا يحكمه منطق أو عدالة إلهية.

  • المعاناة البشرية غير مبررة (كما في موت الطفل فيليب).

  • محاولات تفسير الكارثة (دينيًا أو علميًا) تظل قاصرة .

2. التمرد الإنساني كخلاص

رغم العبث، تقدم الرواية فعل المقاومة نفسه كمعنى:

  • ريو يعالج المرضى رغم علمه أن الموت قد ينتصر.

  • تارو يختار البقاء لـ"إيجاد السلام الداخلي" عبر خدمة الآخرين.

  • كامو يرفض هنا الانتحار الفلسفي (الذي ناقشه في "أسطورة سيزيف") ويقدم التمرد الأخلاقي بديلًا .

3. التضامن في مواجهة العزلة

إغلاق المدينة يخلق عزلة مزدوجة: جسدية (بين السكان والعالم) ونفسية (بين الأفراد). الرواية تظهر كيف:

  • الكارثة تحطم الحواجز الطبقية (الطبيب والمجرم والكاهن يعملون معًا).

  • المعنى يُبنى عبر "الروابط التي يخلقها البشر فيما بينهم" (كما يقول تارو) .


 الطاعون كاستعارة للمقاومة ضد النازية

عند نشر الرواية عام 1947، قرأها النقاد كـرمز للمقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال النازي (1940-1944):

  • الطاعون = النازية: قوة شر تستعمر المدينة/البلد دون سابق إنذار.

  • الجرذان = الجنود النازيون: جحافل غازية تدمر النظام القديم.

  • العزل = عزلة فرنسا المحتلة عن العالم الحر.

  • فرق المقاومة = الأبطال المجهولون الذين حاربوا من الداخل.

كامو نفسه - الناشط في المقاومة السرية - أكد هذه القراءة بقوله:

"الشر الذي في العالم يأتي دومًا من الجهل... لو عرف الناس أكثر لارتفع الظلم قليلًا" .


الأسلوب الأدبي: الموضوعية كفن

تميز أسلوب كامو في "الطاعون" بـ:

  1. الراوي الشاهد: ريو يسرد الأحداث بموضوعية طبيب، متجنبًا العاطفة المباشرة.

  2. الجمل القصيرة: لغة متقشفة تتناسب مع فظاعة الوصف ("كانت الجثث تتراكم مثل الحطب").

  3. البنية الوثائقية: الرواية مبنية كـ"تقارير يومية" تُحاكي السجلات الطبية.

  4. الرمزية المفتوحة: الطاعون يمكن أن يقرأ كأي شر (احتلال، ديكتاتورية، وباء حقيقي) .


التأثير الثقافي والصراع مع جائحة كوفيد-19

أثناء جائحة كورونا (2020-2023)، عادت الرواية إلى واجهة الاهتمام:

  • تصدرت قوائم أكثر الكتب مبيعًا في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا.

  • صحف مثل "لو موند" الفرنسية نشرت مقارنات بين عزل وهران والحجر الصحي الحديث 1 .

  • العلماء استشهدوا بمقولة ريو: "ليس هناك بطولات في هذا، فقط الصدق... فكرة قد تساعد على النجاة" كتذكير بأهمية التواضع في مواجهة الوباء .


 ملخصا؟

بعد 78 عامًا على نشرها، تقدم الرواية دروسًا لا تنتهي:

  1. الشر يعود دائمًا: سواء كوباء أو حرب أو استبداد، لكن المقاومة الأخلاقية هي الخيار الوحيد.

  2. البطولة الحقيقية: ليست في الانتصار، بل في المحاولة رغم اليقين بالفشل (كما في صراع سيزيف).

  3. الوباء مرآة: يكشف طبيعة البشر حين تسقط الأقنعة (الأنانيون مثل كوتار، والمضحون مثل تارو).

كامو يختتم روايته بتحذير مروع:

"عندما يخرج الطاعون من مدينتنا، عندما يعود إلى مخبئه في غرف الأدوات والثياب القديمة... قد يأتي اليوم الذي يثير فيه الشقاء للبشرية من جديد".

في هذا التذكير، دعوة دائمة لليقظة الأخلاقية أمام شر قد يستيقظ في أي لحظة


إقراء أيضا 

ملخص لكل أعمال ألبير كامو الروائية والفلسفية

 

إرسال تعليق

0 تعليقات