"حكايات حارتنا" لنجيب محفوظ
سيرة الحارة المصرية بعيون طفل
تمييز العمل وسياقه الأدبي
"حكايات حارتنا" (1975) هي رواية مميزة في مسيرة نجيب محفوظ، تُعرَض غالبًا في ظلِّ روايته الأكثر إثارة للجدل "أولاد حارتنا". لكنَّ العملين مختلفان جوهريًّا: بينما تقدِّم "أولاد حارتنا" رؤية رمزية لتاريخ الأنبياء، فإن "حكايات حارتنا" هي سيرة ذاتية أدبية، تسرد حياة حارة مصرية عبر 78 حكاية مترابطة، يرويها طفلٌ شاهدٌ على تفاصيلها . نُشرت الرواية مجانًا عبر مؤسسة هنداوي عام 2023 بموجب اتفاق قانوني مع أسرة محفوظ، مما سهل انتشارها .
البنية السردية: حكايات متشابكة كفسيفساء إنسانية
تتألف الرواية من 78 حكاية قصيرة، تبدو منفصلة للوهلة الأولى، لكنها تشكِّل نسيجًا واحدًا يرسم تاريخ الحارة وشخوصها. السارد طفلٌ يستخدم ضمير "أنا" ليروي الأحداث بعينٍ بريئة تختلط فيها الذاكرة بالخيال:
الوحدة والترابط: كل حكاية تُقدِّم شخصيةً أو حدثًا (مثل "أم زكي"، "زوجة المأمور"، "بنات القيرواني"، "مشهد كسوف الشمس")، لكنها تتقاطع عبر تَكرار الأماكن والشخصيات، لترسم في النهاية خريطة كاملة للحارة .
المنظور الطفولي: يصف السارد العالمَ بانبهارٍ ساذج، كقوله: "أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة... نسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل" . هذه النظرة تحوِّل التفاصيل العادية إلى أساطير صغيرة.
الإطار الحكائي: يدَّعي الراوي أن هذه الحكايات مرويات شفهية سمِعها في مقاهي الحارة، وهو أسلوب يربط العمل بتراث الحكايات الشعبية .
جغرافيا الحارة: الأمكنة كشخصيات حية
المكان في الرواية ليس خلفيةً فقط، بل فاعلًا رئيسيًّا يتحكم في مصائر الشخصيات. أهم الأمكنة:
1. التكية: رمز الغموض والقداسة
وصفها: مبنى منغلق يشبه "قلعة صغيرة"، تُحيط به حديقة أشجار توتٍ يعجز الأطفال عن قطف ثمارها. يُصوِّرها السارد: "التكية غارقة في البعد والانطواء... تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر" .
دلالتها: تمثل عالم الروحانيات والمنزلة العالية (الشيخ المتصوف المقيم فيها). غموضها يثير فضول الأطفال، لكن الأهالي يمنعونهم من الاقتراب، مما يعزز هالتها القدسية .
2. القرافة (المقبرة): موطن الأسرار والموت
العلاقة بالحياة: رغم أنها مكان للموتى، إلا أنها مسرح لأحداث الحياة: لقاءات العشاق، اختباء اللصوص، واحتفالات أهل الحارة. يقول السارد: "تمتد أيدينا إلى سورها كما إلى سور التكية"، مؤكدًا اندماج المقدس والمدنس .
3. القبو: عالم الظلام والخوف
الرمزية: يمثل الجانب المظلم من النفس البشرية والحارة. يُذكر في الرواية كمكانٍ للاختباء أو ارتكاب الأفعال المشبوهة، مثل تهريب السلع أو الهروب من الفتوات .
الشخوص: نسيج المجتمع المصري المصغَّر
شخصيات الرواية تنتمي إلى شرائح اجتماعية متعددة، تُقدَّم من خلال عيون الطفل السارد:
أهل التكية: يمثلون الزهد والروحانية، لكنهم غائبون عن مشاكل الحارة اليومية.
النسوة القويات: مثل "أم زكي" و"زوجة المأمور"، اللتين تتحديان القيود الاجتماعية بذكاءٍ وحزم.
الفتوات: رجال العصابات الذين يفرضون سلطتهم بالعنف، لكنهم أحيانًا يظهرون تعاطفًا غريبًا.
المهمشون: المجانين، المتسولون، والأطفال المشردون الذين تكشف حكاياتهم عن قسوة النظام الاجتماعي.
الموضوعات المركزية: الفلسفة مغلفة بالبساطة
1. الصراع بين البراءة والفساد
يوثق السارد تحولَ الحارة من فضاءٍ بريء إلى مكانٍ تغزوه الرذيلة. في الحكاية الأولى، التكية هي مركز الأمل، لكن بحلول الحكاية الأخيرة، تصبح الحارة فضاءً للخيانة والجريمة المنظمة .
2. الذاكرة والنسيان كآفتين
تكرر الرواية سؤالًا مركزيًّا: "فلماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟!" . النسيان هنا يشير إلى تنازل المجتمع عن قيمه الأصلية، بينما الذاكرة تصبح أداةً لمقاومة الانحدار.
3. العدالة الاجتماعية والثورة
من خلال حكايات مثل "مشهد كسوف الشمس"، ينتقد محفوظ الظلم الطبقي. ثورة 1919 التي عاشها في طفولته (وهو في الثامنة) تُلمح إليها الرواية كحدثٍ غيَّر وعيَ الحارة دون أن يحقق العدالة الحقيقية .
4. الدين كسلاح ذي حدين
التكية تمثل الجانب الروحي الإيجابي، لكن الرواية تنتقد أيضًا استخدام الدين لقمع الأسئلة. إحدى الحكايات تصور شيخًا يستخدم "اللعنة" كتهديد لمن يعترضون على سلطته .
الجدل: لماذا كانت أقل إثارة من "أولاد حارتنا"؟
بخلاف رواية "أولاد حارتنا" التي أثارت سجالًا دينيًّا وسياسيًّا حادًّا ، فإن "حكايات حارتنا" لم تواجه حظرًا أو هجومًا واسعًا، وذلك لأن:
الرمزية المباشرة غائبة: لا تحمل الشخصيات إسقاطاتٍ على الأنبياء أو الذات الإلهية.
الطابع السيرذاتي: اعتمد محفوظ هنا على ذكرياته في حي الجمالية بالقاهرة، مما منح العمل مصداقيةً إنسانية بعيدة عن التجريد الفلسفي المثير للجدل .
الأساليب الفنية: من الواقعية إلى الترميز الشعبي
اللغة: تمتزج الفصحى بالعامية في حوار الشخصيات، مما يعكس التنوع الاجتماعي.
الزمن غير الخطي: تنتقل الحكايات بين الماضي والحاضر، محاكيةً طبيعة الذاكرة البشرية.
الخرافة كأداة سردية: حكايات مثل لقاء "نؤنؤ المجنون" بحبيبته عند سور التكية تخلط بين الواقع والأسطورة، لتكشف كيف يصنع الفقراء عوالمهم الموازية .
الإرث الثقافي: من الرواية إلى خشبة المسرح
تحولت الرواية إلى عمل مسرحي عام 1990، مؤكدةً مرونتها السردية وقدرتها على تجسيد العالم المصري المصغَّر عبر المشاهد الحية . كما تُعد وثيقةً أنثروبولوجية عن حياة القاهرة الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث تعكس:
تأثير الثورات (كثورة 1919) على الوعي الجمعي.
تحولات العائلات المصرية من النظام البطريركي إلى محاولات التحرر.
دور المقاهي والحارات كفضاءات للتكوين الثقافي .
لماذا تظل "حكايات حارتنا" ضرورية؟
هذه الرواية هي رثاءٌ لبساطة العالم الطفولي، ونقدٌ لانحراف المجتمع عن قيمه الأولى. في مشهدها الختامي، يعود السارد إلى التكية بعد رحلة الحكايات، ليكتشف أن أسوارها ما زالت مغلقة، لكنها تظل رمزًا للأمل الذي لا ينطفئ. كما قال محفوظ:
"الطفولة منحَتني اتساع الخيال وجمال الصورة... فبدأت بالتكية كقلب الحارة، وأنهيتُ بها كقلب العالم" .
بهذا تثبت الرواية أنها ليست مجرد سردٍ لماضٍ شخصي، بل استعارةٌ كونية عن صراع الإنسان بين نور الروح وظلام المادة، بين ذاكرة البراءة ونسيان الخيانة
0 تعليقات