صعود الفوضى لبيتر زيهان



 "Disunited Nations" لبيتر زيهان

 صعود الفوضى العالمية في عصر ما بعد الهيمنة الأمريكية

 الإطار النظري للانهيار العالمي

يقدم بيتر زيهان في كتابه "Disunited Nations: The Scramble for Power in an Ungoverned World" (2020) رؤية صادمة لمستقبل النظام العالمي، مُجادلاً بأن الحقبة التي هيمنت فيها الولايات المتحدة على العالم منذ عام 1945 – والتي يسميها "النظام القديم" (The Order) – تتهاوى بسرعة.

 هذا النظام قام على أربعة أركان: الحماية العسكرية الأمريكية للملاحة البحرية العالمية، الدفاع عن الحلفاء، فتح الأسواق الأمريكية، وتوفير السيولة المالية .

 مع انتهاء الحرب الباردة ووصول الولايات المتحدة لاستقلالها الطاقةي (بفضل ثورة النفط الصخري)، لم يعد لدى أمريكا حافز للحفاظ على هذا النظام. النتيجة المتوقعة: عودة العالم إلى "الفوضى" (Disorder)، حيث تتصارع الدول على الموارد والنفوذ في غياب الشرطي العالمي .


 تفكك النظام القديم وأسبابه الجوهرية

1. نهاية الإمبراطورية الأمريكية غير المقصودة

  • التحول من القوة إلى العزلة: بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فقدت الولايات المتحدة العدو المشترك الذي وحّد تحالفاتها. سياسات ترامب الانعزالية ليست شذوذًا بل استمرارًا لمسار بدأ مع كلينتون، حيث تُرك "النظام" بلا استراتيجية واضحة .

  • ثورة الطاقة كعامل حاسم: تحولت أمريكا من مستورد للطاقة إلى مُصدر بفضل النفط الصخري، مما قلل اعتمادها على الشرق الأوسط وحوّل سياستها الخارجية إلى "فوضى تكتيكية" بلا أهداف استراتيجية .

2. الأعمدة الهيكلية لسقوط النظام

  • الجغرافيا كقدر: تُحدد الجغرافيا مصير الأمم وفقًا لزيهان. الولايات المتحدة محمية بالمحيطات، غنية بالأراضي الزراعية والموارد، وقادرة على العزلة دون خسارة. في المقابل، دول مثل الصين – ذات السواحل غير المحمية والحدود المكشوفة – محكوم عليها بالضعف .

  • الديموغرافيا قنبلة موقوتة: روسيا مثال صارخ: معدل وفيات مرتفع (إدمان هيروين، إيدز، سل) ومعدل مواليد منخفض يُقلص جيشها بنسبة 50% بين 2016-2022. الصين واليابان وأوروبا تواجه شيخوخة سكانية تهدد نموها .

 مقارنة بين أركان "النظام القديم" و"الفوضى الجديدة"

ركن النظام القديم (1945-2020)مظهر الفوضى الجديدة (ما بعد 2020)
الحماية البحرية الأمريكية العالميةصراعات إقليمية على الممرات المائية (مثل مضيق هرمز)
تدفق التجارة العالمية الآمنةانهيار سلاسل التوريد العالمية → أزمات غذاء وطاقة
تحالفات عسكرية ثابتة بقيادة أمريكيةتحالفات متغيرة وفق مصالح قصيرة المدى (مثل تركيا وروسيا)
هيمنة الدولار كعملة احتياطيةتفتت النظام المالي → صراعات على الذهب والموارد

 مستقبل القوى العظمى التقليدية – السقوط المفاجئ

1. الصين: الوهم مقابل الواقع

  • الاقتصاد الهش: دين الصين تجاوز 300% من الناتج المحلي (مقابل نمو اقتصادي بـ4.5 أضعاف فقط منذ 2000)، وهو أعلى بثلاث مرات من اقتصادها ككل. هذا الفقاع يعتمد على ائتمان غير مدعوم بإنتاجية حقيقية .

  • القوة العسكرية المبالغ فيها: حاملة الطائرات الصينية الوحيدة (لياونينغ) تمتلك 1/7 قدرة حاملة أمريكية واحدة. حتى اليابان تمتلك 4 حاملات تفوقها تقنيًا .

  • التفكك الداخلي المحتمل: تاريخ الصين يحوي 2000 عام من الانقسامات. الاعتماد على واردات الغذاء (مثل فول الصويا) يجعلها عرضة للمجاعات إذا انهارت التجارة العالمية .

2. روسيا: جثة إمبراطورية تمشي

  • الانهيار الديموغرافي: الجيش الروسي سينكمش بنسبة 50% بحلول 2022 لأسباب ديموغرافية. معدل الوفيات يرتفع بسبب الإيدز والإدمان .

  • الاقتصاد الأحادي: 70% من صادرات روسيا هي موارد طبيعية (نفط، غاز، معادن). العقوبات الغربية حرمتها من التكنولوجيا اللازمة للتحديث .

  • استراتيجية بوتين اليائسة: غزو أوكرانيا 2022 كان محاولة لاستعادة النفوذ في وجه انهيار لا مفر منه، لكنه كشف ضعف الآلة العسكرية الروسية .

3. أوروبا: صعود فرنسا وسقوط ألمانيا

  • ألمانيا: اعتمادها على التصدير (40% من اقتصادها) يجعلها ضحية لانهيار التجارة العالمية. افتقارها لسلطة مركزية قوية (كنظام رئاسي) يعيق قدرتها على التكيف .

  • فرنسا: تمتلك جيشًا قويًا قادرًا على التدخل السريع (expeditionary force)، واقتصادًا متنوعًا، وتاريخًا استعماريًا في أفريقيا يوفر لها موارد بديلة. زيهان يتوقع أن تصبح القوة المهيمنة في أوروبا .


الجزء الثالث: القوى الصاعدة في عصر الفوضى – مفاجآت جيوستراتيجية

1. اليابان: العودة إلى عصر الساموراي

  • التكنولوجيا كبديل للجغرافيا: رغم نقص الموارد والسكان، تمتلك اليابان ثاني أقوى بحرية عالميًا وتقنيات متطورة في الزراعة العمودية وتحلية المياه، مما يمكنها من تأمين الغذاء دون الاعتماد على الخارج .

  • تحالفات غير تقليدية: علاقاتها القوية مع دول الخليج (مثل السعودية وقطر) تضمن تدفق النفط حتى في غياب الحماية الأمريكية .

2. تركيا: إمبراطورية عثمانية جديدة؟

  • القبضة على الممرات الاستراتيجية: مضيق البوسفور وبحر مرمرة يمنحانها سيطرة على الوصول بين البحر الأسود والمتوسط، مما يُضعف روسيا ويعزز نفوذها .

  • التوسع المحتمل: زيهان يتوقع أن تضم تركيا أجزاء من سوريا وشمال العراق (كردستان) لأمنها المائي والطاقي. قد تجذب دولًا مثل رومانيا وبلغاريا إلى فلكها مجددًا .

3. الأرجنتين: عملاق أمريكا اللاتينية النائم

  • ثروة زراعية هائلة: تمتلك الأرجنتين 1.9 فدان صالح للزراعة لكل فرد (أعلى من المتوسط العالمي)، مع إمكانية تصدير فائض غذائي هائل عند انهيار النظام العالمي .

  • عزلة تحميها: موقعها النائي في الجنوب يبعدها عن صراعات الشمال، مما قد يجعلها "ملاذًا آمنًا" غذائيًا .


 التحديات العالمية المشتركة في عصر الفوضى

1. أزمة الغذاء: المجاعة كسلاح جيوسياسي

  • انهيار الزراعة المعولمة: 90% من الأسمدة العالمية تعتمد على الوقود الأحفوري. توقف التجارة يعني انهيار الإنتاج الزراعي في دول مثل مصر (تعتمد على واردات القمح بنسبة 80%) .

  • الصراع على الأراضي الخصبة: أوكرانيا – سلة خبز أوروبا – ستكون ساحة حرب دائمة بين روسيا والقوى المجاورة .

2. الطاقة: لعبة الملوك الجدد

  • نهاية عصر النفط الرخيص: انهيار الأمن البحري سيرفع تكاليف نقل النفط، مما يفقر دولًا مستوردة مثل الهند واليابان .

  • المفارقة الأمريكية: أمريكا ستكون الدولة الكبرى الوحيدة المكتفية طاقيًا، مما يعمق انعزالها .

3. الديموغرافيا والهجرة: موجات بشرية لا تُحتمل

  • شيخوخة الشمال، فورة الشباب في الجنوب: أفريقيا ستشكل 40% من سكان العالم بحلول 2100، بينما أوروبا ستضم 7% فقط. هذا الخلل سيُنتج هجرات جماعية غير مسبوقة .

  • الأمراض كقاتل صامت: في المناطق الاستوائية (مثل البرازيل)، تطور الحشرات مقاومة للمبيدات أسرع بمرتين إلى ثلاث من المناطق المعتدلة، مما يهدد المحاصيل .


 انتقادات الرؤية الزيهانية وتحدياتها

1. إهمال عامل التغير المناخي

  • الكارثة المنسية: نقد رئيسي للكتاب هو تجاهله تأثير الاحتباس الحراري. بحلول 2075، قد تصبح درجات الحرارة في المناطق الاستوائية غير قابلة للحياة البشرية (35° مئوية مع رطوبة 100%). بنغلاديش وجنوب فلوريدا ستغرقان، بينما تصحر كاليفورنيا يهدد الزراعة الأمريكية .

  • تأثيرات غير محسوبة: انهيار النظام العالمي سيتزامن مع كوارث مناخية، مما قد يجعل تنبؤات زيهان "متفائلة أكثر من اللازم" .

2. المبالغة في الحتمية الجغرافية

  • دور الأيديولوجيا والإرادة البشرية: زيهان يقلل من قدرة الدول على تجاوز حدود جبروت الجغرافيا. الصين قد تستخدم الذكاء الاصطناعي لتعويض نقص العمالة، وأفريقيا قد تستثمر في الطاقة المتجددة لتخطي مرحلة التصنيع .

  • النقد الثقافي: بعض المراجعات تتهم زيهان بـ"المركزية الغربية"، خاصة في تحليله للإسلام كعامل توحيد (مثل إمكانية صعود خلافة عثمانية جديدة) .

3. التفاؤل الأمريكي المفرط

  • هل أمريكا محصنة حقًا؟: تراجع الطبقة الوسطى، الانقسام السياسي (تفكك التحالفات الحزبية)، وتآكل البنية التحتية قد يجعل أمريكا غير جاهزة للعزلة .

  • مفارقة القوة البحرية: تقلص الأسطول الأمريكي من 550 سفينة عام 1946 إلى 300 اليوم، مع 10 حاملات فقط. هل يكفي هذا لردع الصين في المحيط الهادئ؟ .


 عالم 2040 – فوضى خلاقة أم جحيم مظلم؟

يتنبأ زيهان بحلول عام 2040 بمشهد جيوسياسي يشبه القرن الثامن عشر أكثر من القرن الحادي والعشرين:

  • الولايات المتحدة: تعيش في "عزلة رائعة" (Splendid Isolation)، تستفيد من مواردها دون تدخل خارجي، لكنها تفقد نفوذها الأخلاقي .

  • أوروبا: تنقسم إلى دويلات متصارعة، فرنسا تهيمن غربًا، تركيا تتوسع في البلقان، روسيا تتحول إلى دولة غازية يائسة .

  • آسيا: اليابان تؤسس منطقة نفوذ تقني، الصين تنقسم إلى أقاليم متحاربة، الهند تكافح ضد مجاعة جماعية .

  • الدول "الفائزة": الأرجنتين، كندا، فرنسا – دول ذات اكتفاء غذائي وطاقي، وبُعد عن خطوط الصراع .

الكتاب ليس نبوءة محتومة، بل تحذير من أن "النظام العالمي ليس ينهار – بل يُدفع نحو الانهيار" . رغم صدمة الرؤية، يظل العمل مرجعًا لا غنى عنه لفهم تحولات القوى في القرن الحادي والعشرين، خاصة مع أحداث مثل غزو أوكرانيا 2022 التي سبق أن توقعها زيهان في طيات كتابه.

"العالم الذي نعرفه ينهار... في عالم الندرة، السؤال هو: ماذا تحتاج الدول لتبقى؟ من سيطلق الرصاص ليحصل على حاجته؟ ومن سيُطلق عليه الرصاص؟" – بيتر زيهان

مصادر 

Disunited Nations


إرسال تعليق

0 تعليقات