"عندما نتوقف عن فهم العالم" لبنجامين لاباتوت
طبيعة الكتاب
يُعد كتاب "عندما نتوقف عن فهم العالم" (بالإسبانية: Un Verdor Terrible، وتعني "اخضرارٌ مُريع") للكاتب التشيلي بنجامين لاباتوت ظاهرة أدبية فريدة، حظيت باهتمام عالمي منذ صدور ترجمتها الإنجليزية عام ٢٠٢١. اختاره باراك أوباما لقائمته الصيفية للقراءة ، ورُشح للقائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية، وصُنف كواحد من أفضل ١٠٠ كتاب في القرن الحادي والعشرين من قبل نيويورك تايمز .
يجمع العمل بين السرد التاريخي والخيال الأدبي لاستكشاف حياة علماء غيروا مسار البشرية باكتشافاتهم، مع التركيز على الثمن الإنساني والفلسفي لتلك الاكتشافات.
البنية والأسلوب: بين الحقيقة والخيال
يقدم لاباتوت نصّاً هجيناً يتحدى التصنيفات التقليدية:
"رواية غير خيالية" (Nonfiction Novel): كما وصفها جون بانفيل في الغارديان، حيث تستند الشخصيات والأحداث إلى وقائع تاريخية، لكن الكاتب يضيف طبقات خيالية لتعميق الدلالات النفسية والأخلاقية .
فصول مترابطة عبر موضوعات لا عبر حبكة: ينتقل الكتاب عبر سير علماء من حقب مختلفة، يرتبطون بموضوعات مثل "السموم" (الغازات السامة، الزرنيخ) و"اللامعقول" (الثقوب السوداء، ميكانيكا الكم) .
أسلوب غوثيكي: يستخدم لاباتوت لغةً شعريةً قاتمةً لوصف الاكتشافات العلمية، محولاً إياها إلى كوابيس وجودية. على سبيل المثال، يصف معادلات فيزياء الكم بأنها "أشباح تطارد من أبدعها" .
جدول: تطور بنية الكتاب
الفصل المحوري | الشخصيات الرئيسية | المحور العلمي | التشويه الخيالي |
---|---|---|---|
الأزرق البروسي | فريتز هابر، هيرمان غورينغ | الغازات السامة، الأسمدة الاصطناعية | هابر يُهاجَم من قبل نباتات متحولة بسبب ذنبه البيئي |
القلب الرياضي | ألكسندر غروتينديك، شينيتشي موتشيزوكي | الهندسة الجبرية، نظرية الأعداد | غروتينديك "يسمع" الرياضيات كأصوات في رأسه |
وحدة اللايقين | هايزنبرغ، شرودنغر، بور | ميكانيكا الكم، معادلة الموجة | هايزنبرغ يُهلوس ذرات كأشباح أثناء اكتشافه مبدأ اللايقين |
الشخصيات والاكتشافات: العبقرية على حافة الهاوية
يركز الكتاب على خمس شخصيات تاريخية رئيسية:
فريتز هابر (الكيميائي الألماني):
الحقيقة التاريخية: حاز نوبل الكيمياء لاكتشافه طريقة تصنيع الأمونيا (الأسمدة الاصطناعية)، أنقذ بذلك مليارات من المجاعة، لكنه طور الأسلحة الكيميائية في الحرب العالمية الأولى، ما تسبب بموت آلاف الجنود وانتحار زوجته .
التشويه الخيالي: يصاب هابر بجنون العظمة، ويتوهم أن النباتات تنتقم منه لاختلال التوازن البيئي الذي تسببت به أسمدته .
كارل شفارزشيلد (الفلكي الألماني):
الحقيقة التاريخية: حلّ معادلات آينشتاين للنسبية العامة عام ١٩١٥ بينما كان في خنادق الحرب، مكتشفاً مفهوم "الثقوب السوداء" .
التشويه الخيالي: تظهر تقرحات جلدية قاتلة على جسده بالتزامن مع اكتشافه، كأن الرياضيات "تأكل جسده من الداخل" .
ألكسندر غروتينديك (الرياضي الفرنسي):
الحقيقة التاريخية: غيّر وجه الرياضيات الحديثة بأعماله في الهندسة الجبرية، ثم تخلّى عن العلوم وعاش متوحشاً في الغابات حتى مماته .
التشويه الخيالي: يصوره لاباتوت ككاهنٍ للرياضيات، يكتشف "قلب القلب" (جوهر الرياضيات)، لكن هذا الكشف يدفعه للجنون عندما يدرك أن المعادلات قد تُستخدم لتدمير العالم .
فيرنر هايزنبرغ وإرفين شرودنغر (فيزيائيَا الكم):
الصراع التاريخي: تنافس الرجلان على تفسير عالم الكم: شرودنغر بمعادلة الموجة، وهايزنبرغ بمبدأ اللايقين الذي ينفي الحتمية الفيزيائية .
البعد التراجيدي: يُظهر الكتاب كيف دمّر هذا الصراع صداقتهما، وكيف عانى كلاهما من انهيارات عصبية بسبب استحالة التوفيق بين نظريتيهما .
الموضوعات الرئيسية: المعرفة كأفعى ذات ذيل مزدوج
١. ثنائية الخلاص والدمار
كل اكتشاف في الكتاب يحمل وجهين:
الأسمدة الاصطناعية تُنقذ البشر من الجوع، لكنها تُفسد التوازن البيئي.
معادلات الكم تتيح تطوير التكنولوجيا (مثل الهواتف)، لكنها أيضاً تُستخدم في القنابل الذرية.
يقتبس لاباتوت مقولة لغروتينديك تلخص هذه الفكرة:
"الذرات التي مزقت هيروشيما وناغازاكي لم تُشطر بأصابع جنرال، بل بمجموعة من الفيزيائيين مسلحين بحفنة من المعادلات" .
٢. الجنون كثمن للمعرفة المطلقة
يُصوّر العلماء ككهنة في معبد المعرفة، يدفعون ثمناً نفسياً فادحاً:
غروتينديك يهجر الحضارة ويعيش في غابة.
موتشيزوكي (تلميذه) ينعزل عن العالم بعد اكتشافه "نظرية التيكمولر بين العوالم" .
هايزنبرغ يُصاب بذهانٍ مؤقت أثناء صياغة مبدأ اللايقين.
هنا يستعير لاباتوت استعارة البحر اللامتناهي: فكما أن التحديق في المحيط يُشعر الإنسان بضالته الكونية، فإن التحديق في أعماق الرياضيات يُفقد العقل توازنه .
٣. حدود العقل البشري أمام الكون
يناقش الكتاب فكرة أن بعض الحقائق الكونية تفوق إدراكنا:
ميكانيكا الكم: بحسب تفسير كوبنهاغن (هايزنبرغ وبور)، لا يمكن فهم سلوك الجسيمات دون الرياضيات المجردة، لأنها تتحدى المنطق البشري .
الثقوب السوداء: يشير شفارزشيلد إلى أن اكتشافه يعني أن "العالم قد بلغ ذروة المعرفة، وما بقي له إلا الانهيار" .
في هذا الصدد، يصبح الكتاب تأملًا في مقولة فيتغنشتاين: "حدود لغتي تعني حدود عالمي" .
الاستقبال النقدي: لماذا أثار الكتاب ضجة؟
١. الابتكار الأجناسي: أشاد النقاد باختراقه حدود الرواية والتاريخ والعلم، مقارناً إياه بأعمال ف. ج. زيبالد وأولجا توكارتشوك .
٢. الترجمة المغناطيسية: أداء المترجم أدريان ناثان ويست في نقل النص من الإسبانية للإنجليزية حظي بإشادة خاصة .
٣. الجمالية القوطية: وصفه سام ساكس في وول ستريت جورنال بأنه "تألق قاتم" يربط الرعب بالجمال .
٤. التأثير على القارئ: لاحظت كونستانس غرادي من فوكس أن القراء يشعرون بـ "الرعب الكوني" كمن يواجهون سمواً لا يُحتمل .
جدول: جوائز وتكريمات الكتاب
الجائزة | العام | المركز | الجهة المانحة |
---|---|---|---|
البوكر الدولية | ٢٠٢١ | القائمة القصيرة | مؤسسة البوكر |
جائزة سايدنباوم للرواية الأولى | ٢٠٢١ | نهائي | لوس أنجلوس تايمز |
أفضل ١٠٠ كتاب في القرن الـ٢١ | ٢٠٢٤ | المرتبة ٨٣ | نيويورك تايمز |
قائمة أوباما الصيفية | ٢٠٢١ | مُختار | البيت الأبيض |
هل يجب أن نتوقف عن الفهم؟
يختتم لاباتوت برمزٍ مروع: حكاية البستاني الليلي الذي يروي للراوي كيف تموت أشجار الليمون:
"في النهاية، تنتج الشجرة محاصيل شيطانية، تنضج كل ثمارها دفعةً واحدة... فتتكسر الأغصان من ثقلها، وبعد أسابيع تُغطى الأرض بليمونٍ متعفن. إنه مشهدٌ غريب: ذلك الإفراط الذي يسبق الموت" .
هذه الاستعارة تلخص فكرة الكتاب: السعي المحموم لفك أسرار الكون قد يكون بذرة دمارنا. فالعلم، كشجرة الليمون، قد ينتج معرفةً "فائضة" تُعجل بنهاية البشرية. لكن لاباتوت لا يدعو إلى الجهل، بل إلى التواضع المعرفي. فكما يقول البستاني:
"الرياضيات – وليس الأسلحة النووية أو الحواسيب – هي ما يغير عالمنا إلى حد أننا سنصبح عاجزين عن فهم معنى أن نكون بشرًا" .
الكتاب تحذيرٌ من أن بعض الحقائق أشبه بـ صندوق باندورا: فضولنا يدفعنا لفتحه، لكننا لا نستطيع تحمل عواقبه. ربما لهذا اختار لاباتوت للنسخة الإسبانية عنواناً أكثر دلالة: Un Verdor Terrible – اخضرارٌ مروعٌ يسبق الفناء.
1 تعليقات
326
ردحذف