"المذهب في فلسفة برجسون" لمراد وهبة

 

 "المذهب في فلسفة برجسون" لمراد وهبة

١.  الإطار العام للكتاب ومؤلفه

مراد وهبة (1925-2020) فيلسوف مصري مرموق، مؤسس الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير، وأستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس.

 يُعد كتابه "المذهب في فلسفة برجسون" (1960) عملاً تأسيسياً في دراسة فلسفة هنري برجسون (1859-1941)، الفيلسوف الفرنسي الحائز على نوبل الآداب 1927. 

يقدم الكتاب تحليلاً نقدياً لأسس المذهب البرجسوني، مركزاً على إشكالية التناقض بين فكرة "المذهب المغلق" و"الفتح الفلسفي" التي أثارها يوسف مراد (معلم وهبة) في تقديمه للكتاب. يقع العمل في 178 صفحة، وينقسم إلى خمسة فصول رئيسية تتبع تطور المفهوم البرجسوني للمذهب عبر مراحله الفلسفية .

٢. الإطار الفلسفي: برجسون في سياقه التاريخي

يُعرِّف وهبة برجسون كـ "فيلسوف الحياة الباطنية" الذي ثار على الفلسفات المادية والعقلانية السائدة في القرن التاسع عشر. تمثل فلسفته رد فعل على:

  • المادية الداروينية: التي اختزلت الحياة في آلية صماء.

  • العقلانية الكانطية: التي جمدت الواقع في مقولات ثابتة.

  • الحتمية العلمية: التي تجاهلت دور الإرادة والزمن.

يبرز وهبة تأثر برجسون بـ الروح اليهودية-المسيحية والفلسفة اليونانية، خاصة أفكار هيراقليطس حول التغير الدائم. كما يشير إلى أن برجسون، رغم يهوديته، طور رؤية فلسفية تتجاوز الأطر الدينية الضيقة .

٣. مفهوم "المذهب الفلسفي" عند برجسون: تحليل نقدي

يكشف وهبة أن برجسون يرفض المذاهب الفلسفية التقليدية القائمة على:

  • الروح الرياضية: التي تفرض مسلمات مسبقة.

  • مبدأ الهوية (أ=أ): الذي يحذف الاختلاف ويؤسس للمساواة التامة بين الأشياء.

  • النسق المغلق: الذي يختزل الواقع في تصورات جامدة.

هذه العناصر تشكل -حسب برجسون- "أدوات تجميد للحركة"، إذ تحول الديمومة الحية إلى أشياء ثابتة. يوضح وهبة أن هذا يشبه تحويل النهر الجاري إلى قناة اصطناعية مستقيمة .

جدول: مقارنة بين المذهب المغلق والمذهب المفتوح عند برجسون

المعيارالمذهب المغلقالمذهب المفتوح
المنهجالعقل والتحليلالحدس والتجربة الباطنية
الزمنخطي (مقسم إلى وحدات)ديمومة (سيولة لا تنقسم)
الحريةمحدودة بالحتمياتإبداع متجدد
المعرفةتصورية سطحيةاختراقية للجوهر
نماذج تاريخيةأفلاطون، كانط، الماديةالصوفية، الفنانون العباقرة

٤. نقد المذاهب الفلسفية السائدة: العقلانية والمادية

أ. نقد العقلانية

يشرح وهبة كيف يكشف برجسون أوهام العقل:

  • اختزاله الزمن الحقيقي (الديمومة) إلى زمن فيزيائي قياسي.

  • تحويل الكيفيات إلى كميات: كقياس الشعور باللون بوحدات الضوء.

  • اعتماده على اللغة: التي تجمد السيولة في كلمات ثابتة.

يستشهد وهبة بمقولة برجسون: "التصور ينمو بطريقة مصطنعة، ولا ينفذ إلى الأشياء بل يلتصق بها فحسب" .

ب. نقد المادية

يفند برجسون -عبر وهبة- المادية من خلال:

  • إثبات وجود الروح: الكائن الحي "يدوم" ديمومة حقيقية تنمو وتهرم، بخلاف المادة الجامدة.

  • تفنيد الصدفة العمياء: الحياة لا تنشأ من تفاعلات فيزيوكيميائية عمياء.

  • نقد الحتمية: الإنسان ليس آلة تخضع لقوانين صارمة .

٥. المنهج البرجسوني: الحدس كبديل للعقل

يُعد الحدس قلب فلسفة برجسون، ويحلله وهبة كـ "منهج ديناميكي" يقوم على:

  • المعرفة بالدخول إلى الداخل: معرفة الشيء من خلال التعاطف معه.

  • التجربة المباشرة: تخطي الحواجز المفاهيمية المسبقة.

  • التركيز على الكيفيات: بدلاً من الكميات.

مثال توضيحي: معرفة "البرتقالة" ليست بتحليل لونها أو حجمها، بل بتذوقها وتجربة عصيرها. هذا المنهج يتجلى في:

  • الفن: الفنان يختبر الجوهر لا المظهر.

  • التصوف: الصوفي يتحد بالموضوع معرفياً .

٦. مفهوم الديمومة: جوهر الوجود

الديمومة (Duration) ليست زمناً فيزيائياً، بل هي:

  • سيولة الوجود: تدفق لا يتكرر ولا ينقسم.

  • الوعي بالذات: إدراك النفس كتيار متجدد.

  • الذاكرة المحضورة: الماضي يحيا في الحاضر ويُشكل المستقبل.

يقدم وهبة تشبيه برجسون الشهير: "الديمومة كنهر يجري، تحمل مياهه رواسب الماضي، وتتشكل بانحناءات الحاضر، وتنفتح على بحر المستقبل". هذا يفسر لماذا يرفض برجسون الفصل الحاد بين الماضي والحاضر والمستقبل .

٧. الحرية والإرادة: قلب الفلسفة البرجسونية

في تحليل وهبة، تتحقق الحرية عند برجسون عبر:

  • تجاوز الحتمية: عبر الفعل التلقائي غير المحسوب.

  • الإرادة الخلاقة: كفنان يبدع لوحة من العدم.

  • الانفعال الباطني: الذي يختلف عن الغريزة الحيوانية.

يذكر وهبة مثالاً من كتاب "الضحك" لبرجسون: "الحرية تظهر عندما يتصرف الإنسان ككل متجانس، لا كترس في آلة" .

٨. الأخلاق والدين: المجتمع المغلق vs المفتوح

أ. الأخلاق

يميز وهبة بين نوعين للأخلاق عند برجسون:

  • أخلاق مغلقة: قائمة على الإلزام الاجتماعي (مثل قوانين المرور).

  • أخلاق مفتوحة: تنبع من الحب والتعاطف مع الإنسانية (مثل تضحية القديسين).

ب. الدين

ينقسم الدين عند برجسون إلى:

  • دين سكوني (ثابت):

    • وظيفة أسطورية: يخترع آلهة لحماية المجتمع.

    • يرتبط بالمجتمعات المغلقة.

  • دين حركي (متحرك):

    • تجربة صوفية: اتحاد مع "الدفعة الحيوية" الكونية.

    • يرتبط بالمجتمعات المفتوحة.

يؤكد وهبة أن برجسون يرى في التجربة الصوفية ذروة التطور الروحي للإنسان، حيث يتحرر من الأنا الضيقة .

جدول: مقارنة بين خصائص العقل والحدس عند برجسون

الوظيفةالعقلحدس
المصدرالتطور البيولوجيالطاقة الروحية الكونية
الهدفالسيطرة على المادةاختراق جوهر الحياة
المنهجالتحليل والتقسيمالتماهي والتجربة الباطنية
النتيجةعلوم تقنيةفنون وحكمة
المجال الأمثلالصناعة والاقتصادالأخلاق والتصوف

٩. الدفعة الحيوية: محرك التطور

الدفعة الحيوية (Élan Vital) مفهوم مركزي يحلله وهبة كـ "قوة دفع حياتية داخل الكون":

  • ليست قوة إلهية خارجية، بل طاقة كامنة في الوجود.

  • تظهر في النبات كسبات، وفي الحيوان كغريزة، وفي الإنسان كعقل وحدس.

  • تفسر التنوع التطوري: لا بالصدفة (كما عند داروين)، ولا بحتمية آلية.

يقدم برجسون تشبيهاً: "كالنافورة المائية التي تصعد خطاً كثيفاً ثم تتحول إلى قطرات متناثرة"، حيث تمثل القطرات تنوع الكائنات .

١٠. تأثير فلسفة برجسون: من الواقع إلى الإرث

يرصد وهبة تأثير برجسون في:

  • الوجودية: خاصة عند سارتر بفكرة الحرية.

  • التحليل النفسي: عند يونغ في مفهوم "اللاوعي الجمعي".

  • الفكر العربي: في أيديولوجية حزب البعث (مزج بين برجسون وفشته).

  • الفيزياء الحديثة: تأثر هايزنبرغ بفكرته عن الزمن .

١١.  برجسون في منظور وهبة النقدي

ينتهي وهبة إلى أن برجسون أنقذ الفلسفة من:

  • جمود المذاهب: بفتحها على التجربة الحيَّة.

  • اختزال العلم: بإعادة الاعتبار للكيفيات والروح.

  • مادية العصر: بالتأكيد على الحرية والإبداع.

لكنه ينتقد برجسون في:

  • غياب التوازن: بين العقل والحدس.

  • الغموض: في مفهوم "الدفعة الحيوية".

  • إهماله التصوف الإسلامي: رغم تناوله تصوف المسيحية والهندوسية.

خلاصة رؤية وهبة: برجسون ليس فيلسوفاً للماضي، بل "نبيٌّ للزمن الحاضر" الذي يحتاج إلى إحياء البعد الروحي والإبداعي في مواجهة آليات العولمة المادية .

١٢. ملحق: هيكل كتاب "المذهب في فلسفة برجسون"

الفصلالمحاور الرئيسية
١. سمات المذهب الفلسفينقد المذاهب التقليدية - الروح الرياضية - مبدأ الهوية
٢. المنهج عند برجسونالحدس vs العقل - المعرفة بالدخول إلى الداخل
٣. رؤية الديمومةالزمن النفسي - سيولة الوجود - الذاكرة المحضورة
٤. الحركة الموجهةالدفعة الحيوية - التطور الخلاق - الحرية كإبداع
٥. مضمون المذهبالأخلاق - الدين - المجتمع المفتوح - التصوف

يظل كتاب مراد وهبة مرجعاً حياً لفهم برجسون، ليس كفيلسوف تاريخي، لكن كصاحب رؤية تستفزنا لاختراق قيود العقل والانفتاح على إبداع الوجود


المصادر

إرسال تعليق

0 تعليقات