"رسالتان في الحكم المدني" لجون لوك


 

 الأسس الفلسفية للحكومة الشرعية والحقوق الطبيعية

الإطار الفكري للكتاب

  • الخلفية السياسية: كُتِب العمل بين عامي 1679-1680 خلال أزمة الإقصاء (Exclusion Crisis)، التي حاول فيها البرلمان منع جيمس الثاني الكاثوليكي من وراثة العرش الإنجليزي. نُشِر عام 1689 بعد الثورة المجيدة (Glorious Revolution) التي أطاحت بجيمس الثاني وجلبت وليام الثالث وماري الثاني البروتستانت إلى الحكم .

  • الهدف الرئيسي: تقديم تبرير فلسفي لإطاحة الشعب بالحكام الطغاة، ودعم شرعية حكم وليام الثالث القائم على موافقة المحكومين وليس الحق الإلهي .

  • التطور الفكري للوك: على عكس أعماله المبكرة (مثل "أطروحتان عن الحكومة" 1660) التي دافع فيها عن مواقف محافظة، يمثل هذا الكتاب تحولاً جذرياً نحو الليبرالية ورفض السلطة المطلقة .


الرسالة الأولى: تفنيد نظرية الحق الإلهي للملوك

تهاجم هذه الرسالة كتاب "بطريركا" (Patriarcha) لـروبرت فيلمر (Robert Filmer)، الذي يزعم أن:

  1. السلطة الملكية مُستمدة من آدم كأب للبشرية وأول ملك by divine appointment.

  2. هذه السلطة تنتقل بالوراثة عبر السلالات الذكورية.

  3. الملك يملك سلطة مطلقة على رعاياه كما يملك الأب سلطة على أبنائه .

حجج لوك في الرد:

  • عدم إمكانية تحديد وريث آدم: لا توجد طريقة عملية أو تاريخية لإثبات الانتقال الوراثي لسلطة آدم عبر آلاف السنين .

  • السلطة الأبوية ≠ السلطة السياسية: حتى لو سلمنا بسلطة الآباء على الأبناء، فهذه سلطة مؤقتة تزول ببلوغ الأبناء، بينما السلطة السياسية دائمة. كما أن السلطة الأبوية مشتركة بين الأب والأم، بينما الملكية فردية .

  • التناقض المنطقي: إذا كان فيلمر محقاً، فكل الحكومات الحالية غير شرعية إلا إذا حكمت بواسطة وريث آدم الوحيد، وهو مستحيل. وهذا يفتح الباب للطغاة لادعاء الشرعية .

خلاصة النقد: نظرية فيلمر "تتعارض مع العقل السليم" وتبرر الاستبداد باسم الدين، وقد قُبِلت تفنيدات لوك كـضربة قاضية لنظرية الحق الإلهي بعد 1688 .


الرسالة الثانية: نظرية الحكومة المدنية القائمة على الحقوق الطبيعية

1. حالة الطبيعة والقانون الطبيعي

  • حالة الطبيعة: حالة من الحرية والمساواة الكاملة، يحكمها "قانون الطبيعة" (Natural Law) الذي يفرض:

    • الحفاظ على الذات والآخرين (عدم الانتحار أو القتل).

    • حماية الحقوق الأساسية: الحياة، الحرية، الملكية .

  • الفرق عن هوبز: رغم تأثره بهوبز، يرفض لوك وصف حالة الطبيعة بأنها "حرب الكل ضد الكل". بدلاً من ذلك، هي حالة سلام وتعاون إلا عندما ينتهك أحد القانون الطبيعي .

  • الإشكالية الرئيسية: غياب سلطة قضائية محايدة لتفسير القانون الطبيعي، مما يؤدي إلى "تحيز الأفراد" عند معاقبة المنتهكين .

2. نظرية الملكية: العمل كمصدر للملكية

  • أصل الملكية: الأرض ومواردها مملوكة للبشرية جمعاء، لكن الفرد يكتسب حق التملك بـخلط عمله بالموارد:

    "عندما يجني الشخص ثماراً من شجرة، أو يحرث الأرض، يصبح هذا الثمر أو المحصول ملكاً له" .

  • الشروط الأخلاقية:

    • عدم الإضرار بالآخرين: لا يجوز تخزين فائض يفسد (مثل الفواكه) بينما يحتاجه آخرون للبقاء.

    • دور النقود: اختراع النقود (التي لا تفسد) سمح بتراكم الثروة دون انتهاك الشرط السابق، مما مهد لظهور عدم المساواة الاقتصادية بشكل مشروع .

3. العقد الاجتماعي وتأسيس الحكومة

  • الانتقال من حالة الطبيعة: يوافق الأفراد طوعياً على الدخول في "مجتمع سياسي" لحل مشكلات حالة الطبيعة، عبر:

    • التخلي عن حق العقاب الفردي.

    • تفويض السلطة لحكومة تحمي الحقوق .

  • شروط الشرعية:

    • الموافقة الصريحة أو الضمنية: من يعيش على أرض الدولة ويعتمد على قوانينها يُعتبر موافقاً ضمنياً.

    • حكم الأغلبية: القرارات تُتخذ بأغلبية الأصوات كتعبير عن "إرادة المجتمع".

    • الفصل بين السلطات: التشريعية (تسن القوانين) والتنفيذية (تنفذها) لمنع الاستبداد .

4. حق الثورة: مقاومة الطغيان

الحكومة تفقد شرعيتها إذا:

  • انتهكت الحقوق الطبيعية (الحياة، الحرية، الملكية).

  • علقت السلطة التشريعية أو غيرت نظام الحكم دون موافقة الشعب.

  • سلمت السلطة لحاكم أجنبي.
    في هذه الحالات، يصبح للشعب حق مقاومة الطغيان، بما في ذلك الثورة المسلحة .


نظرية التسامح الديني

  • الفصل بين الدين والدولة: تختص الحكومة بـ"حماية المصلحة المدنية" (الصحة، المال، الأمن)، أما الكنائس فهي "جمعيات تطوعية" لا يجوز لها استخدام القوة .

  • استثناءات: لا يُمنح التسامح لمن:

    • يخضعون لسلطة أجنبية (كالبابا).

    • ينكرون وجود الله (الإلحاد).

    • يهددون النظام العام .


الإرث والتأثير التاريخي

  • الثورات الدستورية: شكلت أفكار لوك العمود الفقري لإعلان الاستقلال الأمريكي (1776) ("الحياة، الحرية، السعي وراء السعادة") ودستور الولايات المتحدة (الفصل بين السلطات) .

  • الثورة الفرنسية: ألهمت "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (1789) .

  • الاقتصاد السياسي: نظرية "العمل كمصدر للملكية" أثرت في آدم سميث وكارل ماركس (نظرية فائض القيمة) .

  • التقييم المعاصر: وصف جورج واشنطن لوك بأنه "أعظم رجل عاش على الإطلاق" .

جدول مقارن: حالة الطبيعة مقابل المجتمع السياسي عند لوك

المعيارحالة الطبيعةالمجتمع السياسي
الحقوقالحياة، الحرية، ملكية محدودةحقوق مضمونة بقوانين مكتوبة
السلطة القضائيةالأفراد يطبقون القانون الطبيعيقضاء محايد ينظر في النزاعات
المخاطرالتحيز في العقاب، صعوبة التنفيذاستقرار بفضل احتكار الدولة للعقاب
الحريةمطلقة لكن غير مضمونةمقيدة بقوانين لكن محمية

انتقادات وتحديات للنظرية

  1. العبودية والسكان الأصليين: شارك لوك في صياغة "الدساتير الأساسية لكارولينا" (1669) التي أجازت العبودية والرق، مما يتناقض مع شمولية حقوق الإنسان في "الرسالتين" .

  2. الغموض في مفهوم الموافقة: كيف تُكتسب "الموافقة الضمنية"؟ وهل يكفي السكوت لاعتبارها موافقة؟ .

  3. إشكالية الملكية: كم من "العمل" مطلوب لتملك الأرض؟ هل يكفي وضع سياج؟ أم يجب الحرث والزراعة؟ .

  4. النزعة الفردية: ركز لوك على حقوق الأفراد دون واجبات اجتماعية كافية، خاصة تجاه الفقراء .


 استمرارية الصلة المعاصرة

رغم الانتقادات، تظل "الرسالتان" حجر الزاوية في الفكر الليبرالي، حيث قدمت:

  • أول تنظير شامل لـحكومة مقيدة بموافقة المحكومين.

  • تأسيس الحقوق الطبيعية كحدود لا تجوز للحكومة تخطيها.

  • شرعية المقاومة الشعبية كضمان أخير ضد الطغيان.
    في عالم يشهد صعود أنظمة استبدادية وتآكلاً للحريات، تبقى أفكار لوك مرجعاً لإحياء فكرة "الشرعية السياسية" القائمة على خدمة الحكومة للإنسان، لا العكس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق