العنف والمقدس لرينيه جيرار



 "العنف والمقدس" لرينيه جيرار

 تحليل الأنثروبولوجيا الدينية والرغبة المحاكاتية

 السياق الفكري والمفاهيمي

يُمثل كتاب "العنف والمقدس" (1972) للفيلسوف والأنثروبولوجي الفرنسي رينيه جيرار (1923-2015) أحد الأعمال المؤسسة في فهم العلاقة الجوهرية بين العنف البشري وتشكُّل المقدس الديني.

 انطلاقاً من تحليل مقارن للأدب والأساطير والطقوس الدينية عبر حضارات متنوعة (اليونانية، الأفريقية، الآسيوية)، يطرح جيرار نظريةً شاملةً تُفسر أصل الدين ووظيفة التضحية في المجتمعات البشرية. يعتمد هذا الملخص على قراءات نقدية للكتاب ، مع استخلاص الأفكار المحورية وتقديم نقدٍ موضوعي.


 الرغبة المحاكاتية كمحرك للعنف

1.1 جوهر الرغبة البشرية

يرى جيرار أن الرغبة الإنسانية ليست تلقائية أو نابعة من الذات، بل هي "رغبة محاكاتية" (Mimetic Desire):

  • المحاكاة كنموذج: يحذو الفرد حذو "نموذج" (Model) يرغب في ما يملكه الآخر. مثال: دون كيشوت يحاكي فرسان الروايات ، وإيما بوفاري تستمد رغباتها من القصص الرومانسية.

  • الندّية والتنافس: حين يصبح "النموذج" منافساً (عند التطلع لامتلاك نفس الشيء)، تتحول المحاكاة إلى صراع مزدوج: الرغبة في الشيء + الرغبة في هزيمة المنافس. مثال: قصة باولو وفرانشيسكا في "الكوميديا الإلهية" لدانتي، حيث يُلهبهما قراءة رواية غرامية فيتبادلان القبلات محاكاةً لأبطالها .

1.2 العنف كنتاج حتمي

  • انتشار العنف: الصراع على "موضوع غير قابل للتقسيم" (كزوجة أو سلطة) يولِّد دوامة عنف تتصاعد عبر آلية الثأر، مما يهدد بانهيار المجتمع .

  • الأزمة التضحية (Sacrificial Crisis): حين يفشل المجتمع في احتواء العنف المتبادل، يدخل في حالة فوضى تشبه الوباء (كما في طاعون طيبة بمسرحية "أوديب ملكاً") .

"الرغبة المحاكاتية تُولِّد العنف، والعنف يُولِّد العنف، فيصبح سلسلة لانهائية تهدد بخراب الجماعة" .


 كبش الفداء وآلية الخلاص المجتمعي

2.1 الضحية البديلة: من اللعنة إلى التقديس

لتفادي الانهيار، تلجأ الجماعات إلى آلية الضحية البديلة (Scapegoating Mechanism):

  • اختيار الضحية: تُختار ضحية هامشية (يتيم، غريب، معاق) لا يُخشى ثأر عشيرتها .

  • العنف الجامع (Unanimous Violence): يتوحد المجتمع ضد الضحية، فيتحول العنف المتبادل (بين الأفراد) إلى عنف موحَّد (ضد واحد)، مما يُعيد الاستقرار .

  • تقديس الضحية: بعد قتلها، تُصبح "مقدسة" لأن دمائها أوقفت العنف. هنا يولد المقدس من رحم العنف .

2.2 الطقوس التضحوية: خداع العنف

لإحياء ذكرى "الخلاص الأولي"، تُبتكر طقوس تضحوية:

  • وظيفة الطقس: توجيه العنف نحو بدائل رمزية (حيوانات، تماثيل) بدلاً من البشر .

  • الخداع المزدوج: تُخدع الجماعة بأنها "تكرر العنف المؤسس" دون إراقة دماء حقيقية، بينما يُخدع العنف بأنه مُوجَّه لضحية مقبولة .

تطور مفهوم الضحية في نظرية جيرار

المرحلةالوصفالوظيفة المجتمعية
الأزمة التضحيةعنف متبادل يهدد بفناء المجتمع (مثل الوباء أو الحرب الأهلية)تفكيك الروابط الاجتماعية
العنف الجامعقتل ضحية واحدة يتوافق عليه الجميع (كبش الفداء)تحويل العنف إلى قوة توحيدية
التقديس اللاحقتحويل الضحية إلى كائن مقدس (إله أو بطل أسطوري)تأسيس النظام الديني والاجتماعي
الطقوس الدوريةتكرار رمزي للتضحية باستخدام بدائل (حيوانات، نباتات)منع عودة الأزمة واحتواء العنف


 المقدس كنتاج للعنف

3.1 الدين: إخفاء الحقيقة المؤسسة

يؤكد جيرار أن الديانات التقليدية تقوم على:

  • أسطرة العنف: تحويل قصة قتل الضحية إلى "أسطورة تأسيسية" تُصورها كحدث إلهي (مثل أسطورة أوزيريس في مصر) .

  • التحريمات الدينية: منع ما يُذكِّر بالأزمة التضحية (كالزواج من الأقارب، لارتباطه بصراع المحاكاة) .

3.2 الفرق بين المسيحية والديانات الوثنية

يُبرز جيرار تميُّز الكتابات المسيحية:

  • كشف آلية كبش الفداء: قصة صلب المسيح تُظهر براءة الضحية (يسوع) وتُدين العنف الجماعي، بعكس الأساطير التي تُبرر القتل .

  • نهاية التضحية: المسيحية تدعو إلى التخلي عن العنف، لا إلى تكريسه .



 نقد النظرية وتأثيرها

4.1 إسهامات ثورية

  • تفسير موحِّد للثقافة: ربط الأدب (مثل تراجيديات سوفوكليس ويوربيديس) بالأنثروبولوجيا (طقوس الزابوتيك في المكسيك) .

  • نقد التحليل النفسي: رفض "عقدة أوديب" الفرويدية، مؤكداً أن الصراع ليس بسبب رغبة الابن في الأم، بل بسبب محاكاة رغبة الأب .

  • تأثير متعدد التخصصات: أثَّر الكتاب في الأنثروبولوجيا (مقارنته بأعمال والتر بوركيرت)، اللاهوت، والنقد الأدبي .

4.2 انتقادات جذرية

  • اختزالية مفرطة: اتهامه بـ"اختزال كل الثقافة في العنف"، وإهماله عوامل كالاقتصاد والبيئة .

  • تعميم غير تاريخي: تطبيق نموذج "كبش الفداء" على جميع المجتمعات دون تمييز زمني أو جغرافي .

  • تحيّز مسيحي: اتهامه بتقديم المسيحية كـ"دين متفوق" يكشف الحقيقة، بينما يُصور الديانات الأخرى كأوهام عنفية .

4.3 مقارنة مع نظريات مشابهة

  • فرويد (القتل البدئي): اتفق مع فكرة "القتل التأسيسي" في الطوطم والتابو، لكنه رفض تفسيره البيولوجي .

  • والتر بوركيرت (التضحية كصيد): في كتاب Homo Necans، يربط التضحية بطقوس الصيد، بينما جيرار يربطها بإدارة العنف .


 إرث الكتاب وتحديات الحداثة

5.1 العنف المعاصر: كبش فداء بلا طقوس

يرى جيرار أن المجتمعات الحديثة، بفعل العلمانية وانهيار المقدس التقليدي:

  • فقدان آلية التنفيس: اختفاء الطقوس التضحوية يُعيد إنتاج العنف بشكل غير مُتحكَّم فيه (حروب، إبادة جماعية) .

  • أشكال جديدة للضحايا: يُستبدل "كبش الفداء" التقليدي بـ"أعداء" مجردين (الرأسمالي، الإرهابي، المهاجر) .

5.2 راهنية النظرية في العالم العربي

  • تفسير العنف الطائفي: الصراع المذهبي كمثال على "المحاكاة العدائية" في التطلع للهوية والسلطة .

  • نقد خطاب التقديس: كيف تُستخدم الرموز الدينية لتبرير العنف ضد "الآخر" (مسيحيون، أقليات) .


 بين التشاؤم والأمل

يختتم جيرار بأن العنف ليس قدراً محتوماً، بل هو ناتج عن آلية قابلة للكشف:

  • دور الفن والأدب: الأعمال العظيمة (كمسرحيات شكسبير) تُظهر حقيقة الرغبة المحاكاتية وتنقذنا من "الكذب الرومانسي" .

  • الخلاص بالإدراك: معرفة آلية كبش الفداء تُضعف سلطتها، وهذا وحده قد يُحدث تحولاً أخلاقياً .

"حين تبدأ هذه الأشياء (الكشف عن الحقيقة).. قد نجد طريقاً للخروج من متاهة العنف" – رينيه جيرار .


ملحق: جدول أعمال جيرار الرئيسية

العنوانالسنةالفكرة المحورية
الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية1961نقد الرغبة "الأصيلة" في الأدب الرومانسي
العنف والمقدس1972التضحية كآلية لحماية المجتمع من عنفه الداخلي
أشياء خفية منذ تأسيس العالم1978المسيحية ككاشف لآلية الضحية
كبش الفداء1982قراءة أنثروبولوجية للاضطهاد في التاريخ

يتجلّى في "العنف والمقدس" جهدٌ فكريٌ جريءٌ يربط بين تراجيديات الإغريق وطقوس الهنود الحمر وصَلب المسيح، ليقدّم تحذيراً: "المجتمع الذي لا يُدرك آلية عنفه، يُكرّسها"

رغم انتقادات الاختزالية، يظل الكتاب مرجعاً لإعادة قراءة تواطؤ المقدس مع العنف، خاصة في عالمنا المشحون بالصراعات الهوياتية



إرسال تعليق

0 تعليقات