"لوكاندة بير الوطاويط" لأحمد مراد
عالم أحمد مراد الغامض
تعتبر "لوكاندة بير الوطاويط" (2018) للروائي المصري أحمد مراد، عملاً استثنائياً في مسيرته الأدبية، يمزج بين الواقعية القاسية والغرائبية الساحرة، بين التاريخ السياسي المضطرب لمصر الحديثة وأساطير قديمة تتعلق بالمكان والهوية.
ليست مجرد رواية بوليسية أو اجتماعية، بل هي لوحة فسيفسائية معقدة تصوّر سقوط الفرد والمجتمع في دوائر من العنف والغموض والبحث المستحيل عن الخلاص.
(1) الإسكندرية كشخصية رئيسية
بير الوطاويط: قلب الرواية النابض. لوكاندة (فندق) قديم، مهجور، آيل للسقوط، يقع في منطقة شعبية بالإسكندرية. ليس مجرد مبنى، بل كائن حي تنبعث منه أسرار الماضي وأصوات الأشباح وهمسات الوطاويط (الخفافيش) التي تسكنه. يمثل الثقل التاريخي، الذاكرة المنسية، والجروح التي لم تندمل.
الإسكندرية: مدينة السحر والغموض، تتخذ هنا بعداً قاتماً. شوارعها الضيقة، مقاهيها القديمة، سككها الحديدية، وميناؤها تشكل مسرحاً للأحداث. هي مدينة التناقضات: جمال البحر ووحشة الأزقة، أناقة الماضي وبؤس الحاضر، التنوع الثقافي والانقسامات الطبقية. الزمن الحاضر (عقب ثورة 25 يناير بسنوات) يتداخل باستمرار مع أزمنة مضت (حقبة السبعينيات تحديداً).
(2) الشخصيات المحورية: ضياع في متاهات الماضي والحاضر
يحيى علام (الراوي الرئيسي الأول): مصور صحفي شهير يعود من كندا إلى مصر بعد سنوات من الغياب، مدفوعاً بذكرى والده وصراعه مع السرطان. شخصية منهكة نفسياً وجسدياً، تعاني من الكوابيس والهلوسات. مهمته الظاهرية هي تصوير اللوكاندة لتوثيقها قبل هدمها، لكنها تتحول إلى رحلة استكشافية داخل ذاكرته المكبوتة وفي دهاليز المبنى المخيف. يمثل جيلاً عايش التحولات العنيفة لمصر وحمل عبء صدماتها.
عبد الله البربري (الراوي الرئيسي الثاني): رجل أمن سابق (مباحث أمن دولة) من حقبة السبعينيات. سجين سابق، يعيش في شقة مقابل اللوكاندة، مراقباً لها بوسواس. يحمل أسراراً ثقيلة عن ماضٍ دموي مرتبط باللوكاندة وبأحداث سياسية خطيرة (فترة ما بعد حرب أكتوبر وصراعات اليسار). سرده يكمل ويصطدم بسرد يحيى، مكشفاً زوايا مظلمة من التاريخ. يمثل وجه الدولة القمعي والإنسان الذي سحقته آلة العنف.
سوسن (زوجة يحيى السابقة): حب يحيى القديم، تظهر كشبح في ذاكرته وفي كوابيسه. تمثل الماضي الجميل الضائع، الحلم الذي لم يكتمل، والندم الذي لا يفارق يحيى.
والد يحيى (المناضل اليساري): شخصية غائبة حاضراً بشدة. كان مناضلاً يسارياً في السبعينيات، اختفى في ظروف غامضة. علاقته المضطربة بيحيى وغيابه يشكلان جرحاً نازفاً في نفس البطل. يمثل جيل الثورة والإحباط والتضحيات المجهولة.
رفيق والد يحيى (الشيوعي القديم): يحتفظ ببعض أوراق والديحيى، ويكون جسراً بين يحيى وبعض حقائق الماضي، رغم تحفظه.
سكان الحي: شخصيات ثانوية لكنها عميقة الدلالة، تعكس واقع الإسكندرية الشعبي بكل تناقضاته: البائسون، الحالمون، المنتهزون، المقهورون. يشكلون خلفية حية للصراع الرئيسي.
(3) الحبكة: شبكة من الأسرار والكوابيس
تدور الحبكة حول محورين متداخلين:
المحور الأول (الحاضر - يحيى): عودة يحيى المريض إلى الإسكندرية، استئجاره شقة مقابل اللوكاندة، بدء مشروع التصوير. سرعان ما تغزوه كوابيس مرعبة عن طفولته، عن والده، وعن اللوكاندة نفسها. تظهر له أشباح (سوسن، والده، شخصيات غريبة). تتدهور صحته النفسية والجسدية. يحاول البحث عن حقيقة اختفاء والده، فيتتبع خيوطاً تقوده إلى عبد الله البربري وإلى أرشيفات قديمة. يكتشف تدريجياً ارتباط والده باللوكاندة وبأحداث خطيرة في السبعينيات.
المحور الثاني (الماضي - عبد الله البربري): من خلال مذكرات عبد الله أو سرده المباشر، نغوص في حقبة السبعينيات المضطربة. نعيش تجربته كضابط مباحث أمن دولة مكلف بمراقبة ومطاردة اليساريين والمناضلين (بمن فيهم والد يحيى). نعرف عن عملية خطيرة مرتبطة باللوكاندة (اعتقالات، تعذيب، اختفاء قسري لشخصيات). نكتشف أن عبد الله نفسه كان جزءاً من هذه الأحداث الدموية، لكنه أيضاً وقع ضحية للنظام لاحقاً وسجن. يعيش الآن حياة الخوف والندم، مراقباً اللوكاندة خوفاً من عودة أشباح ماضيه أو كشف أسراره.
التقاطع: تتلاقى خطوط الحكايتين في اللوكاندة. يصبح يحيى مهووساً بالمكان وبعبد الله، ويربط عبد الله بين وصول يحيى واستدعاء الماضي. تبدأ أحداث غريبة تحدث داخل اللوكاندة وفي حياة يحيى، وكأن المكان يستجيب لوجوده أو يحذره. البحث عن حقيقة اختفاء الوالد يقود يحيى للاصطدام بالحقيقة المرعبة لدور الدولة (التي يمثلها عبد الله) في اختفاء والده ورفاقه، وربما موتهم تحت التعذيب أو إعدامهم سراً. يصبح يحيى وعبد الله مرآتين تعكسان وجهي الصراع: الضحية والجلاد، وكلاهما محطم.
(4) الثيمات الرئيسية: ثقل التاريخ وصراع الهوية
ثقل الماضي والذاكرة المكبوتة: الرواية تؤكد أن الماضي لا يموت. الجرائم السياسية، الصدمات الشخصية، الأسرار العائلية - كلها تطفو على السطح مثل جثث في البحر. اللوكاندة هي تجسيد لهذا الماضي الذي يرفض الاندثار ويطارد الحاضر. محاولة يحيى الهروب إلى كندا فشلت في محو ذاكرته.
العنف ودوائره المفرغة: العنف السياسي (التعذيب، الاختفاء القسري، القمع) هو أصل الداء. هذا العنف لا يمحو نفسه، بل يولد عنفاً مضاداً (الانتقام، اليأس، الجنون) ويدمر حياة منفذيه (كما في حالة عبد الله) وضحاياهم (يحيى ووالده) على حد سواء. العنف يلوث المكان (اللوكاندة) والنفس.
الغموض واللايقين: ترفض الرواية تقديم إجابات سهلة أو حقيقة واحدة مطلقة. الواقع يمتزج بالهلوسة، الحقيقة بالأسطورة، الذاكرة بالكذب. من المسؤول الحقيقي؟ ما الذي حدث بالضبط في اللوكاندة؟ هل الأشباح حقيقية أم هي تجسيد للأوهام والذكريات؟ هذا الغموض يعكس حالة الاضطراب والضياع التي تعيشها الشخصيات والمجتمع.
المرض والموت كاستعارات: مرض يحيى (السرطان) ليس عضوياً فقط، بل هو مرض نفسي وروحي ناتج عن صدمات الماضي وصراعات الحاضر. الموت يهدد الشخصيات جسدياً (يحيى) وروحياً (عبد الله الميت داخلياً). اللوكاندة نفسها مريضة وآيلة للموت (الهدم).
البحث عن الهوية والأب: رحلة يحيى هي في جوهرها بحث عن حقيقة أبيه، وبالتالي عن حقيقة نفسه وأصله. اختفاء الأب رمز لانقطاع الصلة بالماضي وفقدان البوصلة في الحاضر. اكتشافه لدور الدولة في اختفاء والده يمزق أي وهم بالانتماء أو الهوية الوطنية الموحدة.
الخيانة والثقة المنكسرة: خيانة الدولة لمواطنيها (الذين قاتلوا من أجلها ثم عذبهم نظامها)، خيانة الأصدقاء، خيانة الأحباب (كما في علاقة يحيى وسوسن)، خيانة الذات (عبد الله الذي خان مبادجه أولاً ثم خانه النظام). الثقة مستحيلة في هذا العالم القاسي.
الأسطورة والواقع: تنسج الرواية خيوطاً من الأساطير المصرية والإسكندرانية (خاصة تلك المتعلقة بالخفافيش ككائنات مرعبة أو حارسة للموتى) في نسيج الواقع. اللوكاندة نفسها تتحول إلى مكان أسطوري، وهمسات الوطاويط وأصوات الأشباح تخلق جواً من الواقعية السحرية القاتمة، تعبيراً عن غرائبية الواقع المصري وعمق الجذور الثقافية التي تتخلله.
(5) الأسلوب والبناء الفني: سرد متعدد الأبعاد
تعدد الأصوات السردية: التناوب بين سرد يحيى (بضمير المتكلم) وسرد عبد الله البربري (بضمير المتكلم أحياناً أو بضمير الغائب في مذكراته) يمنح الرواية زوايا نظر متعددة، ويكشف التناقضات في الذاكرة ووجهات النظر. هذا يعمق الغموض ويجعل القارئ شريكاً في عملية البحث والتأويل.
الزمن المتداخل: الماضي (السبعينيات) والحاضر يتداخلان باستمرار في ذاكرة الشخصيات وفي بنية السرد. الفلاش باك ليس مجرد استرجاع، بل هو غزو للماضي على الحاضر. هذا يعكس فكرة أن الماضي حاضر دائماً.
اللغة الشعرية والوصف الدقيق: مراد معروف بلغته البديعة. يصف الإسكندرية واللوكاندة والأحوال النفسية بعين مصور وبإحساس شاعر. يستخدم الاستعارات والمجازات القوية (مقارنة اللوكاندة بجثة، الخفافيش بأشباح، السرطان بالذاكرة الآكلة). الوصف الحسي (الأصوات، الروائح، الألوان) مكثف ويخلق أجواءً غامرة.
بناء الجو المشحون بالرعب النفسي: لا يعتمد مراد على الرعب الجساني التقليدي بقدر ما يعمق الرعب النفسي. يستخدم الكوابيس، الهلوسة، التلميحات الغامضة، الأصوات غير المبررة، وطبيعة المكان الموحشة لخلق شعور دائم بالقلق والتوجس والتهديد الوشيك. القارئ يشعر بالضيق والغموض الذي يعانيه يحيى.
التشويق الفلسفي: الرواية مشوقة بحبكتها البوليسية (بحث عن الحقيقة) وأجوائها الغامضة، لكن التشويق الأعمق هو تشويق فكري. الأسئلة الوجودية حول الذاكرة، المسؤولية، الشر، الهوية، وعبثية العنف هي ما يدفع القارئ للتأمل العميق بعد الانتهاء من القراءة.
(6) النهاية: اللغز الأبدي والموت كتحرر؟
لا تقدم الرواية نهاية مغلقة أو حلولاً مريحة:
تتفاقم حالة يحيى الصحية والنفسية إلى حد الانهيار التام تقريباً.
تتصاعد المواجهة بينه وبين عبد الله البربري، لكنها مواجهة محبطة مليئة بالاتهامات والندم أكثر من كونها انتصاراً.
مصير اللوكاندة (الهدم) يصبح حتمياً، وكأنه طي نهائي لصفحة مروعة، لكنه أيضاً محو للأثر والمكان الحامل للذاكرة.
الموت: تختتم الرواية بمشهد موتي يحيى المحتمل (ربما انتحار أو هلاك في البحر) وهو يطارد شبح سوسن أو حلم الخلاص. يمكن تفسير هذا على أنه:
الهروب النهائي من الألم والمرض وثقل الماضي.
التحرر من عبء البحث المستحيل عن الحقيقة والعدالة.
اتحاد نهائي مع الماضي والأشباح التي طاردته.
هزيمة نهائية للإنسان أمام جبروت التاريخ وآلة العنف.
تبقى أسئلة كثيرة دون إجابة قاطعة. حقيقة بعض الأحداث، مصير بعض الشخصيات، طبيعة بعض الظواهر الغريبة – كلها تترك للقارئ ليغوص في تأويلاته الخاصة. النهاية تعكس جوهر الرواية: الحياة لغز مؤلم، والموت قد يكون اللغز الأكبر أو الحل الوحيد الممكن في عالم تسيطر عليه أشباح الماضي.
(7) رمزية اللوكاندة والوطاويط
اللوكاندة (بير الوطاويط):
جسد مصر: عتيقة، متآكلة، مليئة بالجروح والأسرار، آيلة للسقوط، لكنها صامدة بشكل ما.
الذاكرة الجماعية: تخزن في طياتها أحداثاً دموية وأصوات الضحايا التي ترفض الصمت.
اللاوعي الجمعي: مكان تخرج منه الكوابيس والرغبات والصراعات المكبوتة.
الحد الفاصل: بين الماضي والحاضر، بين الواقع والهلوسة، بين الحياة والموت.
قبر الجميع: ضحايا التعذيب والاختفاء، أحلام اليائسين، طفولة يحيى، حب سوسن، حياة عبد الله المهترئة.
الوطاويط (الخفافيش):
حراس الموتى والأسرار: كائنات الليل التي تسكن الظلام وتحمي ما بداخل اللوكاندة (الأسرار، الجثث الرمزية).
الأشباح: تجسيد لأرواح الضحايا أو للذكريات المؤلمة التي تطارد الأحياء.
الخوف والرعب: رمز تقليدي للشر والغموض، يعكس الجو النفسي للرواية.
العمى (المجازي): تشير إلى عجز الشخصيات عن رؤية الحقيقة كاملة، أو عن رؤية طريق الخلاص.
رواية الوجع المصري
"لوكاندة بير الوطاويط" ليست رواية للترفيه الخفيف. هي رحلة شاقة إلى أعماق النفس البشرية المنكسرة وأعماق تاريخ وطن مثقل بالصراعات والعنف.
أحمد مراد يقدم عملاً أدبياً جريئاً ومعقداً، يمسّ الجرح العصبي لمصر الحديثة، ويكشف عن دوائر العنف الموروثة التي تلتهم الجميع: الجلاد والضحية، الأب والابن، الماضي والحاضر.
بلغتها الشعرية القاسية، بنائها المتقن متعدد الأصوات والأزمنة، وأجوائها الغامضة المليئة بالرعب النفسي والرمزية العميقة، تثبت الرواية نفسها كواحدة من أهم الأعمال الأدبية العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، شاهدة على زمن من الاضطراب والوجع والبحث المستحيل عن اليقين والخلاص.
إنها صرخة مدوية في صمت المقابر الجماعية للتاريخ
أقرأ أيضا
ملخص لكل أعمال أحمد مراد الروائية
0 تعليقات