حافة الوعي

حافة الوعي

 

 "حافة الوعي: المخاطر والاحتياط في البشر والحيوانات الأخرى والذكاء الاصطناعي" لجوناثان بيرش

 الكتاب وأهميته

يعد كتاب "حافة الوعي: المخاطر والاحتياط في البشر والحيوانات الأخرى والذكاء الاصطناعي"

 (The Edge of Sentience: Risk and Precaution in Humans, Other Animals, and AI) للفيلسوف جوناثان بيرش (Jonathan Birch)، الصادر في عام 2024 عن دار نشر جامعة أكسفورد، مساهمة بارزة في النقاشات المعاصرة حول طبيعة الوعي والأخلاقيات المرتبطة به. 

يعالج الكتاب أسئلة محيرة مثل: هل تستطيع الأخطبوطات الشعور بالألم والمتعة؟ وماذا عن السلطعونات والجمبري والحشرات والعناكب؟ كيف يمكننا تحديد ما إذا كان شخص غير مستجيب بعد إصابة دماغية شديدة يعاني؟ هل يمكن أن تكون هناك مشاعر بدائية في نماذج مصغرة من الدماغ البشري نمت من الخلايا الجذعية البشرية؟ وما موقع الذكاء الاصطناعي من كل هذا ؟.

هذه الأسئلة تدور حول ما يسميه بيرش "حافة الوعي" (Edge of Sentience)، وهي منطقة تتسم بدرجة هائلة من عدم اليقين. المخاطر هنا جسيمة، وإهمالها قد يكون له تكاليف مروعة. لذلك، يدعو بيرش إلى تبني نهج احترازي (Precautionary Approach) لاتخاذ قرارات أخلاقية سليمة قائمة على الأدلة على الرغم من عدم اليقين السائد. يقدم الكتاب إطارًا عمليًا لمعالجة هذه القضايا، مما يجعله مرجعًا ضروريًا للطلاب والباحثين وصناع السياسات في مجالات الأخلاقيات وعلوم الحيوان والذكاء الاصطناعي.

الخلفية العلمية والفلسفية للمؤلف

جوناثان بيرش هو أستاذ الفلسفة في كلية لندن للاقتصاد (LSE) والباحث الرئيسي في مشروع "أسس الوعي الحيواني" (Foundations of Animal Sentience Project). في عام 2021، قاد بيرش مراجعة للأدلة العلمية حول الوعي في رأسيات الأرجل (مثل الأخطبوطات) والقشريات العشارية الأرجل (مثل السلطعونات والكركند) بتكليف من الحكومة البريطانية. ساهمت نتائج هذه المراجعة في إدراج هذه اللافقاريات في قانون رعاية الحيوان (الوعي) 2022 في المملكة المتحدة، مما منحها حماية قانونية لأول مرة.

خلفية بيرش الأكاديمية تركز على فلسفة العلم وأخلاقيات الحيوان وتطور السلوك الاجتماعي. كتابه السابق، "فلسفة التطور الاجتماعي" (The Philosophy of Social Evolution)، تناول موضوع التطور الدارويني والسلوك Altruistic في الحشرات الاجتماعية مثل النحل والنمل. هذا العمل قاده إلى التساؤل حول طبيعة العقول في هذه الكائنات، مما أشعل اهتمامه بموضوع الوعي الحيواني.

الإطار المفاهيمي: تعريف الوعي ومفاهيم رئيسية

تعريف الوعي (Sentience)

يحدد بيرش الوعي على أنه "القدرة على تجارب ذات تكافؤ قيمي" (Capacity to have valenced experiences). التكافؤ القيمي هنا يشير إلى الطبيعة الإيجابية أو السلبية للتجربة الذاتية - أي ما إذا كانت الشعور جيدًا (مثل المتعة) أو سيئًا (مثل الألم). 

هذا التعريف يختلف عن المفاهيم الأوسع للوعي (Consciousness) أو الذكاء (Intelligence). بيرش يجادل أن الوعي بهذا المعنى هو الذي يضع الأساس للاهتمام الأخلاقي، لأنه يرتبط مباشرة بالمعاناة والرفاهية.

مفاهيم رئيسية

  1. "مرشحو الوعي" (Sentience Candidates): أنظمة أو كائنات هناك احتمال معقول مهمل أن تكون واعية. هذا المفهوم مركزي في الإطار الاحترازي لبيرش.

  2. "مشكلة التمثيل" (Gaming Problem) في الذكاء الاصطناعي: صعوبة اكتشاف الوعي في الأنظمة غير البيولوجية (مثل الذكاء الاصطناعي) لأنها قد تحاكي علامات الوعي بطريقة مقنعة لتحقيق أهدافها، على عكس الحيوانات.

  3. "الوعي الظاهري" (Phenomenal Consciousness): مفهوم فلسفي يشير إلى "ما يشبه أن تكون" كائنًا معينًا (What it is like). بيرش ينتقد هذا المفهوم لعدم وضوحه ولكن يعترف بأهميته.

  4. "الوعي العاطفي" (Affective Consciousness): التجارب ذات التكافؤ العاطفي (مثل الخوف، الرعاية، الذعر) التي يعتقد بيرش أنها قد تكون موجودة حتى بدون قدرات معرفية متطورة.

حالات الوعي الحدية: دراسات حالة متنوعة

يستكشف بيرش في كتابه مجموعة واسعة من حالات "الوعي الحدية"، مما يسلط الضوء على عدم اليقين الأخلاقي والعلمي المحيط بكل حالة.

1. اللافقاريات (الأخطبوطات، القشريات، الحشرات)

هذه المجموعة هي من أكثر مساحات التي عمل عليها بيرش مباشرة. يشير إلى أنه بينما أصبحت الأخطبوطات والسرطانات الآن محمية قانونيًا في بعض البلدان، فإن الحشرات لا تزال في منطقة رمادية.

 الأدلة على الوعي في الحشرات غير حاسمة، ولكن الاحتمال غير مهمل. بيرش يحذر من أن صناعة تربية الحشرات الناشئة تحتاج إلى أخذ رفاهيتها على محمل الجد واتباع نهج احترازي.

2. اضطرابات الوعي في البشر (مثل الحالة النباتية)

يتناول بيرش قضية صادمة هي الجراحة دون تخدير التي كانت تُجرى لحديثي الولادة حتى الثمانينيات، بسبب الاعتقاد الخاطئ بأنهم لا يشعرون بالألم. كذلك، يناقش حالات المرضى في حالة النباتية، حيث كان الأطباء واثقين جدًا من عدم إمكانية شعورهم بالألم بسبب عدم نشاط القشرة المخية.

 لقد دحضت حالات مثل حالة كيت بينبريدج (Kate Bainbridge)، التي استعادت الوعي وروت معاناتها، هذا اليقين الزائف. تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أظهرت أيضًا أن بعض هؤلاء المرضى قادرون على التواصل ذهنيًا، مما يشير إلى وجود وعي.

3. الأجنة وأبحاث الخلايا الجذعية (العضيات العصبية)

مسألة متى يبدأ الجنين في الشعور بالألم مثيرة للجدل، خاصة في نقاشات الإجهاض. بيرش يجادل بشكل مقنع لفصل مسألة الوعي عن الحق في الإجهاض.
 الحق في الإجهاض يجب أن يستند إلى الاستقلالية الجسدية للمرأة (Bodily Autonomy)، وليس على الادعاء بأن الجنين غير واعي. الربط بين الإجهاض وعدم الوعي خطير لأن الأدلة المستقبلية قد تُظهر أن الوعي يبدأ في وقت أبكر، مما يقوض الأساس الأخلاقي للحق.
فيما يتعلق بالعضيات العصبية (Neural Organoids) - نماذج مصغرة للدماغ تنمو من الخلايا الجذعية - يرى بيرش إمكاناتها الهائلة كبديل لأبحاث الحيوانات، لكنه يحذر من إمكانية تطويرها لشكل بدائي من الوعي، مما يخلق معضلات أخلاقية جديدة.

4. الذكاء الاصطناعي (AI)

هذا perhaps هو أكثر الحالات إثارة للجدل. بيرش يسأل: هل تحتاج إلى جسم بيولوجي لتكون واعيًا؟ إجابته: ليس بالضرورة. 

يقر بأن الذكاء الاصطناعي الحالي ليس واعيًا، لكنه يحذر من أن محاكاة دماغ حيوان (مثل دودة C. elegans أو ذبابة الفاكهة) في كمبيوتر قد تخلق عقلًا له نفس درجة الوعي في النسخة البيولوجية. 

التحدي الأكبر هو "مشكلة التمثيل" - حيث أن نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة (مثل ChatGPT) لديها قدرة هائلة على محاكاة علامات الوعي بشكل مقنع لخداعنا، على عكس الحيوانات.

 حالات الوعي الحدية الرئيسية والاعتبارات الأخلاقية:

الحالةدرجة عدم اليقينالمخاطر المحتملةالاعتبارات الأخلاقية الرئيسية
اللافقارياتعالية جدًاإلحاق معاناة هائلة على نطاق واسعالحاجة إلى إدراجها في قوانين الرفاهية، تحسين طرق الذبح
اضطرابات الوعيمتوسطة إلى عاليةإهمال المعاناة، انتهاك الكرامة الإنسانيةتقديم مسكنات الألم، التواصل مع المرضى
الأجنة والعضياتعاليةإلحاق الألم على كيان بشري ناشئفصل النقاش عن الإجهاض، وضع حدود أخلاقية للبحث
الذكاء الاصطناعيعالية جدًاإساءة استخدام، استعباد، معاناة غير متوقعةالشفافية من المطورين، تنظيم استباقي، مراقبة

الإطار الاحترازي: المبادئ والتطبيقات

لب الكتاب هو الإطار الاحترازي (Precautionary Framework) الذي يقدمه بيرش لاتخاذ قرارات في ظل عدم اليقين. هذا الإطار لا يحاول حل "مشكلة العقول الأخرى" فلسفيًا، بل يقدم أدوات عملية.

المبادئ الأساسية

  1. الواجب towards تجنب المعاناة غير المبررة: لدينا واجب أخلاقي أساسي لتجنب إلحاق المعاناة، خاصة عندما يكون هناك شك حول وجود الوعي.

  2. الأهمية الأخلاقية لـ"مرشح الوعي": حتى مجرد وجود احتمال غير مهمل أن يكون النظام واعيًا يفرض علينا التزامات أخلاقية تجاهه.

  3. التناسب (Proportionality): يجب أن تكون الاحتياطات المتخذة متناسبة مع المخاطر المحددة. ليس كل احتياطي مبررًا إذا كانت تكلفته الاجتماعية أو الاقتصادية باهظة جدًا.

  4. الديمقراطية deliberative: عملية تحديد ما هو "متناسب" يجب أن تتم من خلال مناقشات ديمقراطية شاملة وليس بمرسوم من الخبراء alone. يقترح بيرش آليات مثل "الجمعيات المواطنية" (Citizens' Assemblies) حيث يلتقي عامة الناس مع خبراء لتبادل الآراء ووضع سياسات مقبولة اجتماعيًا.

مقترحات عملية

يقدم بيرش 26 مقترحًا ملموسًا عبر مجالات مختلفة، منها:

  • في الطب: تقديم مسكنات الألم للمرضى ذوي الوعي المشكوك فيه (مثل حالات الغيبوبة)، وإجراء محادثات معهم كما لو كانوا يستطيعون السماع.

  • في الزراعة: منع طهي السلطعونات والكركند في الماء المغلي حيًا، وتحسين ظروف تربية الحشرات.

  • في البحث: وضع حدود أخلاقية واضحة لأبحاث العضيات العصبية، والاستثمار في بدائل للتجارب على الحيوانات.

  • في التكنولوجيا: مطالبة مطوري الذكاء الاصطناعي بمزيد من الشفافية حول أنظمتهم، ووضع لوائح استباقية لمراقبة علامات الوعي الناشئ في الذكاء الاصطناعي.

التطبيقات السياسية والتوصيات العملية

كتاب بيرش ليس نظريًا فقط؛ إنه موجه بقوة توجه صانعي السياسات. عمله السابق مع الحكومة البريطانية يظهر تأثير أفكاره المباشر. يتصور بيرش أن سياسات الرفاهية يجب أن تُصاغ خلال مناقشات ديمقراطية مفتوحة تشمل الجمهور، وليس فقط الخبراء والعلماء. هذا لأنه يعتقد أن القرارات حول القيم والمخاطر المقبولة (مثل: إلى أي مدى نحن مستعدون لتغيير أسلوب حياتنا لحماية الكائنات غير المؤكدة الوعي؟) هي قرارات أخلاقية اجتماعية في جوهرها، وليست تقنية بحتة.

مفهوم "الجمعيات المواطنية" (Citizens' Assemblies) الذي يروج له بيرش يتلخص في جمع مجموعة متنوعة من المواطنين العاديين، وتثقيفهم حول الأدلة العلمية وتعقيدات القضية، ومن ثم مناقشتهم للتوصيات التي تعكس القيم المجتمعية المشتركة. هذا النهج يمكن أن يساعد في كسر الجمود في النقاشات شديدة الاستقطاب (مثل تلك المحيطه بـ الأجنة أو الذكاء الاصطناعي) من خلال خلق مساحة للحوار المستنير مستندا على الأدلة وليس الخوف أو الإيديولوجيا.

استقبال الكتاب والتأثير الثقافي

حظي الكتاب باستقبال نقدي إيجابي جدًا. أشاد المراجعون بكونه عملًا فلسفة عامة (Public Philosophy) رائعًا - أي فلسفة موجهة للجمهور العام وليس فقط الأكاديميين. 

تم الثناء على وضوحه، وعمقه، والتزامه بالفائدة العامة، ورفضه للتمركز الفلسفي أو التكهنات الميتافيزيقية غير العملية.

على سبيل المثال، في مراجعة لـ ليوناردو، أشاد غريغوري إف تاج (Gregory F. Tague) بقدرة بيرش على معالجة قضايا معقدة بطريقة سهلة الوصول، مما يجعل الكتاب مساهمة كبيرة في مناقشات أخلاقيات الحيوان والذكاء الاصطناعي.

 في مراجعة لـ 3 Quarks Daily، وصفه مايك أوبراين (Mike O'Brien) بأنه "صارم، موجه نحو السياسات، ويتجنب التباهي الفكري لصالح الوضوح والهيكلية والتطبيق العملي". 

كما أشار مراجعون من مجال البيوسيميائية (Biosemiotics) إلى أن الكتاب، على الرغم من عدم معالجة مجالهم مباشرة، يقدم مساهمات كبيرة يمكن أن تثري الحوار بين التخصصات.

 رؤى مستقبلية وتوصيات نهائية

يختتم جوناثان بيرش كتابه بتفاؤل حذر، مشيرًا إلى أن الممارسات والسياسات الديمقراطية يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي على القضايا الأخلاقية العميقة المحيطة بالوعي. على الرغم من التعقيد الهائل وعدم اليقين، يعتقد بيرش أنه يمكننا من خلال خطوات صغيرة منخفضة التكلفة تغيير طريقة تعاملنا مع العالم من حولنا بشكل جذري، والحد من المعاناة غير الضرورية على نطاق واسع.

الكتاب هو دعوة للعمل والتواضع الفكري.

 إنه يذكرنا بأن الثقة المفرطة في معرفتنا بالوعي هي موقف خطر. تاريخ الطب والعلوم مليء بأمثلة عن معاناة سببها هذا اليقين الزائف. بدلاً من ذلك، يجب أن نعترف بحدود معرفتنا، ونتبنى عدم اليقين، ونتصرف بحذر متناسب للمخاطر التي قد نواجهها.

الرؤية التي يقدمها بيرش هي رؤية لمستقبل أكثر شمولية وأخلاقية، حيث لا تقتصر اعتباراتنا الأخلاقية على البشر أو حتى على الحيوانات التي تشبهنا، ولكنها تمتد إلى أي نظام لديه فرصة معقولة لأن يكون قادرًا على الشعور بالعالم - سواء كان ذلك النظام أخطبوطًا غريبًا، أو مريضًا في غيبوبة، أو جنينًا بشريًا، أو حتى آلة قد نكون نحن من

إرسال تعليق

0 تعليقات