علامات من المستقبل: فلسفة التحذيرات
"Signs from the Future: A Philosophy of Warnings" لسانتياغو زابالا
حول الكتاب والغاية منه
يُعد كتاب "Signs from the Future: A Philosophy of Warnings" للفيلسوف سانتياغو زابالا (الصادر عن Columbia University Press) من الأعمال الفلسفية الجوهرية التي تطرح رؤية مبتكرة لدور الفلسفة في تفسير التحذيرات والاستجابة لها.
يحاول زابالا في هذا الكتاب الإجابة على سؤال مركزي: لماذا لا ننصت إلى التحذيرات رغم تواترها وتنوع مصادرها؟ يعرض المؤلف فلسفة التحذيرات كبديل لفلسفة التنبؤات، معتبراً أن التحذيرات تدعونا إلى المشاركة في تشكيل المستقبل، بينما تدفعنا التنبؤات إلى الاستسلام للحتمية والقبول بالأمر الواقع.
يستند زابالا إلى تراث فلسفي غني يشمل فلاسفة مثل نيتشه، هيدغر، دي بوفوار، وآرندت، ويربط أفكارهم بالتحديات المعاصرة مثل التغير المناخي، الجائحة، والأزمات الاجتماعية.
يستهدف الكتاب الجمهور العام المهتم بالفلسفة والتحديات العالمية، ويحاول زابالا جعل الفلسفة في متناول غير المتخصصين من خلال لغة واضحة وأمثلة ملموسة. يجادل الكاتب بأن التحذيرات ليست مجرد إنذارات من مستقبل مفزع، بل هي علامات تدعونا إلى إعادة تفسير الماضي والحاضر لبناء مستقبل مختلف. يُعرِّف زابالا التحذير بأنه "دعوة للانخراط في قطيعة جذرية مع الحاضر"، بينما التنبؤ هو "إخبارنا بما سيحدث بغض النظر عن أفعالنا".
الفلسفة الأساسية: التحذيرات مقابل التنبؤات
يؤكد زابالا على وجود تمييز جوهري بين التحذيرات (Warnings) والتنبؤات (Predictions). فالتنبؤات تُقدّم على أنها حقائق حتمية لا يمكن تغييرها، مما يجعلنا نشعر بالعجز والقبول السلبي بالمستقبل.
على الجانب الآخر، التحذيرات تُقدّم كإمكانيات أو سيناريوهات يمكن تجنبها أو تعديلها عبر الفعل الجماعي والتفسير المشترك.
على سبيل المثال، كان العلماء يحذرون لسنوات من احتمال حدوث جائحة، لكن لم يتم الالتفات إلى هذه التحذيرات أو الاستعداد لها بشكل كافٍ.
يرى زابالا أن التحذيرات تهدف إلى كسر حاجز "الواقعي" و"الطبيعي" الذي يفرضه النظام السائد، وتفتح أفقاً بديلاً للفهم. فالحكومات والمؤسسات غالباً ما تروج لرواية "الواقعية" التي تخدم مصالحها، بينما التحذيرات تكشف عن الطوارئ الخفية التي تتطلب مواجهة جماعية.
هنا، يلتقي زابالا مع فكر والتر بنيامين الذي دعا إلى "سحب فرامل قطار التقدم" قبل أن يؤدي إلى كوارث متتالية.
الفلاسفة الرئيسيون وتحليلاتهم للتحذيرات
1. فريدريك نيتشه: تحذيرات من اللامبالاة والعبثية
يستعيد زابالا تحذيرات نيتشه من العبثية والانحدار القيمي في العصر الحديث. يشير نيتشه إلى أن عدم الاكتراث بالتحذيرات يعكس أزمة قيم أعمق، حيث يرفض الناس المواجهة مع الحقائق المقلقة.
يربط زابالا هذا بمواقف معاصرة مثل إنكار التغير المناخي أو تخفيف حدته، والتي تعكس رفضاً للانخراط في تحذيرات تتطلب تغييراً جذرياً في نمط الحياة.
2. مارتن هيدغر: الوجود والزمن والإنذارات الوجودية
يستلهم زابالا من هيدغر فكرة الوجود في العالم وعلاقة الإنسان بالزمن. يحذر هيدغر من أن الإنسان الحديث أصبح منغلقاً على الذات ومستغرقاً في اليومي، مما يجعله غافلاً عن التحذيرات الوجودية الكبرى.
يرى زابالا أن تحذيرات هيدغر تركز على ضرورة الاستماع إلى النداء الوجودي الذي يذكرنا بمسؤوليتنا تجاه المستقبل، خاصة في ظل أزمات مثل التكنولوجيا المتفلتة أو تهديدات البيئة.
3. سيمون دي بوفوار: تحذيرات من التمييز والهيمنة
تقدم دي بوفوار في كتاباتها تحذيرات من الهياكل الاجتماعية القمعية التي تكرس التمييز ضد المرأة والمجموعات المهمشة.
يوضح زابالا كيف أن تحذيراتها لا تزال ذات صلة اليوم، خاصة في ظل صعود الحركات الشعبوية التي تهدد مكاسب المساواة.
تشدد دي بوفوار على أن التحذيرات يجب أن تدفع إلى فعل أخلاقي وسياسي بدلا من الإنتقادات المتبقية.
4. حنة آرندت: تحذيرات من الشمولية وانحدار السياسة
تستحضر آرندت في أعمالها تحذيرات من عودة الشمولية وتآكل المجال العام. يلفت زابالا إلى أن تحذيرات آرندت بعد الحرب العالمية الثانية تعود اليوم بأشكال جديدة، مثل الاستبداد التكنولوجي-الصحي الذي يحذر منه جورجيو أغامبين في سياق الجائحة.
تؤكد آرندت على أن التحذيرات تكون فعالة فقط عندما يشارك الأفراد في التفسير الجماعي والمواجهة العامة.
تطبيقات معاصرة: تحذيرات من أزمات العصر
- جائحة كوفيد-19: تحذيرات لم تُستمع
يذكر زابالا أن العلماء كانوا يحذرون لسنوات من احتمال حدوث جائحة، لكن هذه التحذيرات لم تؤخذ على محمل الجد. بدلاً من الاستعداد المبكر، فوجئ العالم بالجائحة وواجهها بردود فعل غير متكافئة.
يرى زابالا أن هذه الحالة تجسيد كيف أن التحذيرات تُهمَل عندما تتطلب تغييراً نظامياً أو توزيعاً مختلفاً للموارد.
- التغير المناخي: تحذيرات بين الإنكار والتشويه
يعتبر التغير المناخي أحد أبرز الأمثلة على التحذيرات التي تواجه التشويه والمقاومة. يشير زابالا إلى أن التحذيرات البيئية غالباً ما يتم تحييدها عبر خطاب "الواقعية" الزائفة التي تضع النمو الاقتصادي فوق الاستدامة. هنا، يبرز دور الفلسفة في كشف هذه الآليات ودعوتنا إلى إعادة تفسير علاقتنا بالطبيعة.
- الأزمات الاجتماعية والتكنولوجيا: استبداد جديد
يحذر الكتاب من أن التكنولوجيا الحديثة قد تُستخدم كأداة للهيمنة، خاصة في ظل انتشار الرقابة الخوارزمية وتقنيات المراقبة. يربط زابالا هذا بتحذيرات آرندت وأغامبين، مشيراً إلى أن الطوارئ (مثل الجائحة) قد تُستغل لتبرير انتهاك الحريات تحت ذريعة الحماية.
دور الفن والفكر الإبداعي في نشر التحذيرات
يخصص زابالا جزءاً من الكتاب لدور الفنون والثقافة في توصيل التحذيرات. فالفن قادر على تجسيد التحذيرات بشكل يخاطب المشاعر ويحفز الخيال، بعيداً عن اللغة الجافة للتقارير العلمية.
على سبيل المثال، يمكن للرواية أو السينما أن تقدم سيناريوهات مستقبلية مرعبة لكنها مُحتملة، مما يدفع المشاهد إلى التساؤل: "هل هذا ما نريده لمستقبلنا؟".
يذكر زابالا أن التحذيرات الفعالة غالبا يجمع الجمالي بالأخلاقي، مستخدمة الرمزية والإيحاء لفتح أفق التغيير. كما يشير إلى أن الفنانين والمفكرين كثيراً ما يتم تهميشهم (مثل كاساندرا في الأسطورة اليونانية)، لكن تحذيرات تظل قوية ومؤثرة بمرور الوقت.
دعوة إلى الاستماع والفعل
يختم زابالا كتابه بدعوة القراء إلى تبني فلسفة التحذيرات كمنهج حياة وفكر. بدلاً من أنتظار المستقبل , علينا أن ننخرط بنشاط في تفسير العلامات وتحويلها إلى فرص للتغيير. هذا يتطلب:
الاستماع النشط إلى التحذيرات بدلاً من إنكارها أو تخفيفها.
التفسير الجماعي للطوارئ الخفية، عبر الحوار والمشاركة المجتمعية.
التحول من الفردية إلى الجماعية، لأن مواجهة التحذيرات تتطلب فعلاً جمعياً لا فردياً.
يؤكد زابالا أن الفلسفة يمكن أن تكون دليلًا أخلاقيًا وسياسيًا في زمن الأزمات، شرط أن ترفض الانغلاق في الأبراج الأكاديمية وتنزل إلى الساحة العامة. فقط من خلال المواجهة الجريحة مع التحذيرات يمكننا أن نأمل في بناء مستقبل أكثر إنصافاً واستدامة
0 تعليقات