رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني
تنويه
رواية "الزيني بركات" للأديب المصري جمال الغيطاني، الصادرة عام 1974، تُعدّ واحدة من أبرز الأعمال الأدبية العربية في القرن العشرين، والتي تندرج ضمن ما يُعرف بـ "الرواية التاريخية"، لكنها تتجاوز السرد التقليدي لتقدم تحليلًا عميقًا للسلطة والفساد والرقابة في المجتمع. تستمد الرواية أحداثها من الواقع التاريخي للعصر المملوكي في مصر، لكنها تعكس في الوقت نفسه أوضاعًا معاصرة، خاصةً في ظل حكم الرئيس جمال عبد الناصر، حيث يُرى "الزيني بركات" كرمز لآلة القمع البوليسية.
تتناول الرواية قصة "الزيني بركات"، الموظف الذي يرتقي إلى منصب "محتسب القاهرة"، فيتحول إلى أداة قمعية في يد السلطة، مستخدمًا شبكة جواسيسه لمراقبة الناس وقمع أي معارضة. من خلال هذا العمل، يطرح الغيطاني أسئلة جوهرية حول السلطة، الخيانة، الخوف، والانتهازية، وكيفية تحول الإنسان إلى وحش عندما يُمنح سلطة مطلقة.
السياق التاريخي والاجتماعي
1. الخلفية التاريخية
تدور أحداث الرواية في مصر المملوكية، وتحديدًا في عهد السلطان قانصوه الغوري (آخر سلاطين المماليك قبل الغزو العثماني). لكن الغيطاني لا يهدف إلى تقديم سرد تاريخي دقيق بقدر ما يستخدم التاريخ كمرآة تعكس الواقع المعاصر. فالرواية، وإن كانت تبدو وكأنها تعيد سرد حقبة ماضية، إلا أنها تنتقد الأنظمة الشمولية وأجهزة الأمن القمعية في القرن العشرين، خاصةً في ظل حكم عبد الناصر.
2. الصلة بالواقع المعاصر
كتب الغيطاني الرواية في فترة السبعينيات، حيث كانت مصر لا تزال تعاني من آثار حكم عبد الناصر وتداعيات هزيمة 1967. من خلال شخصية الزيني بركات، يُجسّد الغيطاني دولة المخابرات والرقابة التي سادت في تلك الفترة، حيث تحوّل الأفراد إلى مجرد أدوات في آلة السلطة، سواء كانوا ضحايا أو جلادين.
الشخصيات
1. الزيني بركات
المحتسب الجديد: بطل الرواية الذي يصل إلى منصب محتسب القاهرة (وهو منصب يشبه وزير الداخلية أو رئيس الشرطة في العصر الحديث). يبدأ كموظف عادي، لكنه يتحول إلى طاغية يستخدم الجواسيس والعيون لمراقبة الشعب.
الوجه المزدوج: يُظهر بركات الوداعة والزهد أمام العامة، لكنه في الخفاء قاسٍ، متسلط، ولا يرحم.
رمز الفساد: يمثل بركات انعدام الضمير والانتهازية، حيث يضحّي بكل المبادئ من أجل البقاء في السلطة.
2. السلطان قانصوه الغوري
الحاكم الضعيف: يُصوَّر السلطان كشخصية ضعيفة، غير قادرة على السيطرة على الفساد المستشري في الدولة، مما يسمح لبركات بالتمدد.
السلطة الشكلية: يرمز الغوري إلى الحكام الذين يفقدون السيطرة الفعلية لصالح الجهاز البيروقراطي والأمني.
3. ابن إياس (الراوي)
المؤرخ الشاهد: يروي الأحداث من وجهة نظر المؤرخ ابن إياس، الذي يسجل تفاصيل الحقبة لكنه يبدو عاجزًا عن تغييرها.
الصوت الناقد: يمثل الضمير الذي يشهد على الفساد دون أن يستطيع مواجهته.
4. الشخصيات الثانوية
الجواسيس والعيون: مثل علي الجوان وشمس الدين بن الفراش، الذين يجمعون المعلومات لصالح بركات.
الضحايا: مثل التجار والعامة الذين يُقمعون بلا رحمة.
الأحداث
1. صعود الزيني بركات
تبدأ الرواية باختيار الزيني بركات لمنصب المحتسب بعد وفاة سلفه. يُظهر بركات في البداية التقوى والزهد، لكنه سرعان ما يُنشئ شبكة جواسيس تعمل لصالحه، حيث يجبر الناس على التبليغ عن بعضهم البعض.
2. نظام الرقابة والقمع
نظام الجواسيس: يُجند بركات العيون في كل مكان، من الأسواق إلى المساجد، لضمان السيطرة على المعلومات.
العقوبات الوحشية: يُنفذ بركات عقوبات قاسية على من يخالف الأوامر، مثل الجلد، السجن، والمصادرة.
الخوف كأداة حكم: يصبح الخوف سيد الموقف، حيث لا يثق أحد بأحد.
3. الانهيار الداخلي
جنون العظمة: مع الوقت، يصبح بركات أكثر ارتيابًا وعنفًا، حتى تجاه مقربيه.
الخيانة: يخونه أعوانه عندما يشعرون بأنه لم يعد قويًا كما كان.
4. نهاية الزيني بركات
السقوط: مع اقتراب الغزو العثماني، يفقد بركات نفوذه، ويُهرب أمواله قبل أن يختفي.
المصير المجهول: لا يُعرف ما إذا مات أو فرّ، لكن إرهابه يظل عالقًا في الأذهان.
المحاور الرئيسية
1. السلطة والفساد
إفساد السلطة: تظهر الرواية كيف تفسد السلطة المطلقة الإنسان، حيث يتحول بركات من موظف عادي إلى طاغية.
الفساد كمنظومة: الفساد ليس فرديًا، بل هو نظام كامل يشمل الجواسيس، القضاة، والحكام.
2. الرقابة والخوف
دولة المخابرات: تنتقد الرواية فكرة التجسس على المواطنين كأداة للسيطرة.
ثقافة الخوف: يصبح الناس عبيدًا للخوف، مما يقتل أي محاولة للمقاومة.
3. الخيانة والانتهازية
خيانة المبادئ: يتخلى الجميع عن مبادئهم من أجل البقاء.
الانتهازية السياسية: حتى المثقفين والعلماء يصبحون جزءًا من آلة القمع.
4. التاريخ يعيد نفسه
النقد السياسي المبطّن: من خلال العصر المملوكي، ينتقد الغيطاني الأنظمة العربية الحديثة التي تستخدم القمع.
الأساليب الفنية
1. السرد التاريخي بأسلوب معاصر
يستخدم الغيطاني لغةً تقترب من السجلات التاريخية، لكنها تحمل إيحاءات معاصرة، مما يجعل القارئ يشعر بأن الأحداث تتكرر عبر العصور.
2. تعدد الأصوات
يتم سرد الرواية من وجهات نظر متعددة، مثل ابن إياس، الجواسيس، والضحايا، مما يخلق رؤية شاملة للفساد.
3. الرمزية
الزيني بركات: رمز لـ رجل الأمن القمعي في أي عصر.
المحتسب: يمثل الدولة العميقة التي تتحكم في الشعب.
4. الواقعية السحرية
يمزج الغيطاني بين الواقعي والتخييلي، حيث تظهر أحداثٌ غريبةٌ لكنها تعكس حقائق عميقة.
الرواية وقراءاتها النقدية
نقد الأنظمة الشمولية: تعتبر الرواية هجاءً لاذعًا للديكتاتوريات.
المقارنة مع "1984" لجورج أورويل: يشبه البعض "الزيني بركات" برواية أورويل بسبب تصويرها لـ دولة المراقبة.
الرواية كمرآة للمجتمع: لا تزال الرواية ذات صلة بالواقع العربي المعاصر، حيث لا تزال آليات القمع موجودة.
"الزيني بركات"
رواية "الزيني بركات" ليست مجرد عمل أدبي، بل هي تحذير من استبداد السلطة، سواء في الماضي أو الحاضر. عبر شخصية بركات، يكشف الغيطاني عن الوجه القبيح للسلطة عندما تتحول إلى أداة قمع. الرواية تطرح سؤالًا أبديًا:
هل الفساد صفة في الأنظمة أم في البشر أنفسهم؟
تبقى "الزيني بركات" واحدة من أهم الروايات العربية لأنها تخلّد صراع الإنسان بين الخضوع والمقاومة، وتذكّرنا بأن التاريخ يعيد نفسه عندما ننسى دروسه
0 تعليقات