"رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ
أولاً: الشخصيات المحورية والحدث المحرك
قنديل محمد العنابي (ابن فطومة):
بطل الرواية الذي يحمل اسم "قنديل" رمزاً للنور والحكمة. وُلد لوالد ثري في الثمانين تزوج أمه الشابة "فطومة الأزهري"، مما جعل إخوته الأكبر سناً ينكرون نسبه ويطلقون عليه "ابن فطومة" تهكماً .
يتأثر بشيخه "مغاغة" الذي أخبره عن "دار الجبل" (دار الكمال والعدل)، لكن الحرب منعته من إكمال رحلته.
بعد خيبة أمل مزدوجة (زواج أمه من شيخه، وخطيبته "حليمة" من حاجب الوالي بسبب نفوذه)، يقرر الشروع في الرحلة .
الشخصيات الثانوية المؤثرة:
فطومة: الأم التي ترمز للخصوبة والحياة الجديدة.
حليمة: خطيبة البطل التي انتزعها الظلم الاجتماعي، ممثلة فساد سلطة "دار الإسلام" .
عروسة وسامية: زوجتاه في دار المشرق ودار الحلبة، تعانيان من انهيار مجتمعاتهما بسبب الحروب والاستبداد .
ثانياً: محطات الرحلة والرمزية السياسية/الحضارية
تمر رحلة ابن فطومة بست "ديار" تُجسد مراحل تطور المجتمعات البشرية:
دار الإسلام (الوطن الأصلي):
تمثل مجتمعاً إسلامياً في الظاهر، لكنه يعيش تناقضاً جوهرياً:
الظلم الطبقي (إثراء الحكام، تهميش العامة).
انهيار القيم (زواج حليمة قسراً، تبرؤ الإخوة من البطل) .
هنا يكتشف البطل أن "الدين في وادٍ والناس في وادٍ آخر".
دار المشرق (البدائية والوثنية):
مجتمع بدائي يعبد القمر، ويتميز بـ:
العري كعادة اجتماعية.
انعدام الطبابة والتعليم لغير النخبة.
نظام أمومي (الأبناء ينسبون للأم، الزوجة تطرد الرجل متى شاءت) .
يُزوج البطل من "عروسة" التي تشبه حليمة، لكنه يُطرد لمحاولة تعليم أبنائه الإسلام، مما يرمز لصدام الثقافات.
دار الحيرة (الاستبداد والتأليه):
مجتمع يُؤله الملك، حيث:
يُقطع رؤوس المعارضين وتُعلّق على أعمدة.
الثروة والسلطة مركزة في يد "الصفوة" (الملك وحاشيته).
الحرب مع دار المشرق تفضح زيف شعار "تحرير العبيد"؛ إذ تُباع الأسرى (بمن فيهم عروسة) في سوق النخاسة .
يسجن البطل 20 عاماً بعد أن يشتهي كاهن الملك زوجته، مما يمثل فساد السلطة الدينية/السياسية.
دار الحلبة (الحرية الفوضوية):
مجتمع علماني متعدد الأديان، لكنه يعاني من:
الفوضى الأخلاقية (المظاهرات المنحلّة، الجرائم).
النفاق السياسي (انتهاك العهود الدولية لتحقيق المصالح) .
يتزوج البطل من الممرضة "سامية"، لكنه يغادر بعد أن يكتشف أن الحرية المطلقة تؤدي للانحلال.
دار الأمان (الشيوعية الشمولية):
نظام يقمع الحريات تحت شعار المساواة:
التجسس على الأفراد مكافأة وطنية.
منع إبداء الرأي خارج التخصص .
يرى البطل أن النظام يحول البشر لـ"تروس في آلة".
دار الغروب (التصوف والزهد):
محطة أخيرة قبل دار الجبل، تركز على:
تطهير الروح عبر الزهد والعبادة.
التحرر من الماديات استعداداً لـ"الطيران" إلى دار الجبل .
ثالثاً: النهاية المفتوحة وأسئلة اليوتوبيا
عند بوابات "دار الجبل"، تنتهي مخطوطة ابن فطومة فجأة، تاركة مصيره غامضاً: هل دخل الدار؟ أم مات في الطريق؟ .
هذا الغموض يُحيل القارئ لتأمل فكرة "اليوتوبيا" نفسها:
هل المجتمع المثالي ممكن؟
أم أن الرحلة نفسها (السعي نحو الكمال) هي الهدف؟
الإجابة الضمنية لمحفوظ: كل الديار تعاني عيوباً، و"الكمال" حلم غير قابل للتحقق .
رابعاً: السمات الفنية والأدبية
البناء السردي:
السرد بضمير المتكلم (مذكرات ابن فطومة)، مما يخلق تقارباً مع القارئ ويكشف التحولات الداخلية للبطل .
توزيع الأحداث على 7 دور (بما فيها الوطن الأصلي) إيحاءً لتمام الرحلة وكمالها رمزياً .
التناص التراثي:
العنوان يحاكي "رحلة ابن بطوطة"، لكنه يحولها من رحلة واقعية إلى استعارة فلسفية.
استلهام أدب الرحلة العربي (مشاهد الأسواق، القوافل، الحوار مع الحكماء) .
الرمزية متعددة المستويات:
كل دار تمثل مرحلة تاريخية (البدائية، الاستبداد، الرأسمالية، الشيوعية، الروحانية).
الرحلة تعكس تطور البشرية من الوثنية إلى الإيمان، ومن المادية إلى التصوف .
شخصية البطل تجسد "الإنسان الباحث" الذي لا يكتفي بالواقع.
النقد الاجتماعي غير المباشر:
نقد الأنظمة العربية عبر ترميز "دار الإسلام".
تفكيك شعارات الأنظمة (الحرية، المساواة، التحرير) وكشف تناقضاتها .
خامساً: مكانة الرواية في سياق أعمال محفوظ
تُعد الرواية من الأعمال "المهملة نسبياً" مقارنة بالثلاثية أو "أولاد حارتنا"، رغم عمقها الفلسفي .
تميزها عن أعماله الأخرى:
الطابع الكوني (لا تقتصر على مصر).
المزج بين الواقعية والرمزية الصوفية.
النهاية المفتوحة التي تتحدى القارئ .
تُظهر نضج رؤية محفوظ للحياة: "السعي نحو الكمال أهم من تحقيقه" .
الرحلة كاستعارة للحياة الإنسانية
"رحلة ابن فطومة" ليست مجرد قصة مغامرات، بل هي مرآة لتجربة البشرية الجمعية:
الرسالة المركزية: البحث عن العدل والكمال شاق، لكنه ضرورة إنسانية.
التحذير الخفي: اليوتوبيا قد تكون مستحيلة، والخيار الواقعي هو الإصلاح التدريجي.
الإرث الأدبي: تثبت الرواية أن محفوظ لم يكن روائياً محلياً فحسب، بل مفكراً قادراً على تعرية أنظمة الحكم عبر العصور .
"عم تبحث أيها الرحالة؟ أي العواطف يجيش بها صدرك؟ كيف تسوس غرائزك وشطحاتك؟" - نجيب محفوظ
0 تعليقات