الانضباط والعقاب لميشيل فوكو

 


الانضباط والعقاب

 ولادة السجن

 لميشيل فوكو (1975)

 التحوّل الجذري في آليات العقاب

 "الانضباط والعقاب" (1975) عباره عن تحفة فلسفية-تاريخية يكشف فيها ميشيل فوكو عن التحوّلات الجوهرية في أنظمة العقاب الغربية منذ القرن الثامن عشر حتى العصر الحديث. لا يقدّم فوكو مجرد تاريخ للسجون، بل يحلل تشكّل أنظمة السلطة والمعرفة التي حوّلت المجتمع إلى فضاء للرقابة والضبط. يبدأ الكتاب بمشهدين صادمَين: التعذيب العلني للمحكوم "داميان" عام 1757، وجدول يومي صارم في سجن "ميتري" عام 1837، ليُظهر كيف انتقلت العقوبة من التأثير على الجسد إلى السيطرة على الروح في أقل من قرن .


الجزء الأول: التعذيب كطقس للسلطة (من الاقتصاد العلني إلى إخفاء الجسد)

1. طقس التعذيب العلني:

  • الوظيفة السياسية: كان التعذيب العلني تعبيرًا عن انتقام السيادة (الملك) التي تُعتبر جسدها امتدادًا للقانون. العقوبة الجسدية كانت وسيلة لـإعادة هيبة السلطة بعد انتهاكها .

  • الديناميكية غير المتوقعة: رغم هدف الترهيب، تحوّل المشهد أحيانًا إلى مسرح تعاطف مع المحكوم عليه، حيث يُحتفي بشجاعته أو تُنظم أعمال شغب لإنقاذه، مما كشف هشاشة سلطة السيادة .

2. إخفاء الجسد:

  • تحوّل جوهري: بحلول القرن الثامن عشر، اختفى التعذيب العلني لصالح عقوبات "إنسانية" كالأشغال الشاقة. لكن فوكو يؤكد أن الدافع لم يكن إنسانيًا، بل رغبة الدولة في تجنّب عدم الاستقرار السياسي الناجم عن المشاهد العلنية .


الجزء الثاني: ولادة السجن وتقنيات الانضباط (الهندسة الخفية للسلطة)

1. تقنيات الانضباط الثلاث:

  • المراقبة الهرمية: تحويل المؤسسات (مدارس، ثكنات، مصانع) إلى "مراصد بشرية" تُراقب الأفراد دون انقطاع. المثال الأبرز: سجن البانوبتيكون (فكرة جيرمي بنثام) حيث يُراقب السجّان الجميع دون أن يُرى، فيخلق شعورًا دائمًا بالمراقبة الذاتية .

  • الأحكام المعيارية: ابتكار مفهوم "الطبيعي/الشاذ" لقياس الأفراد. هنا تُستخدم العقوبات الصغيرة (كالخصومات في الأجور) لـتصحيح الانحرافات اليومية عن المعيار .

  • الامتحان: دمج المراقبة والتقييم في طقوس مثل الامتحانات المدرسية أو الفحوص الطبية، مما يحوّل الفرد إلى "حالة" تُدرس وتُوثّق في أرشيفات .

2. إنتاج "الجسد الطيع":

  • الهندسة الدقيقة: تقسيم الزمان والمكان (جداول، خلايا، تمارين) لتحقيق:

    • الخلايا: توزيع الأجساد في فضاءات مغلقة.

    • العضوية: جعل الأنشطة "طبيعية" للجسد.

    • التكوينية: التحكم في تطور الفرد زمنيًا.

    • التوليفية: دمج قوى الأفراد في كتلة إنتاجية .

  • الفردانية كأداة سلطة: الانضباط لا يقمع الفرد بل يخترعه كـ"ذرة وظيفية" قابلة للتدجين والاستغلال .


الجزء الثالث: السجن كآلة لإنتاج الجنوح (الوظيفة الخفية للفشل)

1. إخفاق السجن الظاهر:

يُنتقد السجن منذ نشأته لأنه:

  • لا يقلّص الجريمة.

  • ينتج العودية للإجرام.

  • يدمّر أسر النزلاء.

  • يشكّل شبكات إجرامية .

2. النجاح الخفي: صنع "الجنوح"

يكشف فوكو أن "فشل" السجن وهمي، فوظيفته الحقيقية هي:

  • عزل فئة "المنحرفين" (الجنوح) عن باقي المجتمع.

  • تحويلها إلى تهديد مُراقَب يُستخدم لـ:

    • تبرير توسع أجهزة الشرطة.

    • توظيف الجنح كمخبرين.

    • توجيههم لأعمال خطرة (كالاستعمار) .

3. النظام الحبسي: دائرة لا تنتهي

السجن جزء من "نظام مراقبة" أوسع (المدرسة، المستشفى، المصنع) يقوم على:

  • التفاوت الطبقي: إخفاء هيمنة البرجوازية خلف قوانين "متساوية".

  • الاقتصاد السياسي للمخالفات: السجن يُنظّم الجريمة لا يلغيه، بحيث تخدم التوازنات الطبقية .


الجزء الرابع: السلطة والمعرفة (الإبستمولوجيا الخفية خلف العقاب)

1. "الميكروفيزياء" للسلطة:

  • السلطة ليست ملكًا: لا تُختَزَل في الدولة أو الطبقة الحاكمة، بل تنتشر في شبكات دقيقة (المعلم/التلميذ، الطبيب/المريض) .

  • السلطة تُنتج المعرفة: كل علاقة سلطة تُنتج خطابًا "علميًا" (علم النفس، علم الإجرام) لشرعنة نفسها. مثال: الطب النفسي كأداة لوصم "الشاذ" .

2. المعرفة كأداة سيطرة:

  • الأرشيف كسلاح: توثيص الفرد (سجلات مدرسية، ملفات شرطة) يحوّله إلى كائن مُعرّف بالانحراف .

  • السلطة لا تُرفَض بل تُمارَس: تحرير "المنحرف" وهمي، لأن خطاب التحرير نفسه جزء من آليات الضبط .


الخاتمة: النظام الحبسي ومجتمع المراقبة

1. من السجن إلى المجتمع:

  • المجتمع الانضباطي: تقنيات السجن (المراقبة، التقييس، التوثيق) امتدت لكل مؤسسات المجتمع، محوّلة إياه إلى "سجن كبير" .

  • السلطة غير المرئية: لم تعد السلطة تحتاج للعنف العلني، بل تكفي الإمكانية النظرية للمراقبة (ككاميرات المراقبة اليوم) .

2. إرث الكتاب النقدي:

  • تفكيك الخطاب الإصلاحي: الإصلاحات السجنية تكرّر نفس المبادئ (العزل، العمل، التعليم) منذ 150 عامًا، مما يؤكد أن "الفشل" وظيفي .

  • نقد الليبرالية الحديثة: المساواة القانونية واجهتها لا مساواة انضباطية في المدارس والمصانع، حيث تُنتج الهيراركيات عبر "المعايير" .


جدول تلخيصي: تحوّلات العقاب عند فوكو

العصر/الآليةالقرن 18 (العقاب الجسدي)القرن 19 (المجتمع الانضباطي)
هدف العقابانتقام السيادةتصحيح "الانحراف"
فضاء العقابالساحات العامةالسجون، المدارس، المصانع
أداة السلطةالتعذيب العلنيالمراقبة المستمرة
نوع المعرفةقوانين السيادةعلوم "الإصلاح" (طب نفسي، إجرام)
النتيجة الاجتماعيةتمرد شعبي محتملإنتاج "منحرفين" قابليـن للمراقبة

تقييم نقدي: حدود وأثر الكتاب

1. الإسهامات الثورية:

  • كشف الوظيفة السياسية للمؤسسات "المحايدة" (المدرسة، المستشفى).

  • ربط السلطة بالمعرفة في مشروع تفكيكي أثر على الدراسات الثقافية والنقدية.

2. الانتقادات:

  • تعميم النموذج الفرنسي: اعتماده على وثائق فرنسية قد لا تنطبق على كل السياقات .

  • إهمال المقاومة: تركيزه على سلطة المؤسسات قد يُقلّل من شأن أشكال التمرد اليومي.


 لماذا ما زال الكتاب ضروريًا؟

في عصر التتبع الرقمي والبيومترية، يقدّم فوكو مفتاحًا لفهم كيف تحوّلت المراقبة إلى نظام غير مرئي يخترق الحياة عبر الهواتف ووسائل التواصل. السجن لم يعد استثناءً، بل نموذجًا لمجتمع يُنتج "الطاعة" عبر آليات تُظهر "الإصلاح" بينما تُعمّق الهيمنة. الكتاب ليس تاريخًا للسجون، بل مرآة لواقعنا الذي صار سجنًا ناعمًا، حيث نراقب أنفسنا قبل أن يراقبنا الآخرون

المصادر

١. Discipline and Punish - Wikipedia
٢. Discipline and Punish: Full Work Summary - SparkNotes
٣. Discipline and Punish: Study Guide - SparkNotes
٤. Discipline and Punish by Michel Foucault - EBSCO
٥. Discipline And Punish (Summary) By Foucault - PureSociology
٦. Discipline & Punish Summary, Review PDF - LifeClub


إرسال تعليق

0 تعليقات