سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون


 

 "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون

 نشأة الكتاب وأهميته التاريخية

 "سيكولوجية الجماهير" (Psychologie des Foules) الصادر عام 1895 هو حجر الزاوية في علم النفس الاجتماعي، حيث أسس المؤلف الفرنسي غوستاف لوبون (1841–1931) لمفهوم علم نفس الجماهير كفرع مستقل. جاء الكتاب في سياق تاريخي حافل شهدته أوروبا خلال القرن التاسع عشر، مثل الثورة الفرنسية، وصعود الحركات الاشتراكية، وانهيار الأنظمة الأرستقراطية، مما دفع لوبون لتحليل تحوُّل السلطة من النخب إلى الجماهير .

 يُعرِّف لوبون في مقدمته "عصر الجماهير" بأنه الحقبة التي حلَّت فيها إرادة الشعوب محل إرادة الملوك، مشيرًا إلى أن هذا التحول يحمل مخاطر تهدد الحضارة الغربية لأن الجماهير "قادرة على الهدم فقط، بينما البناء هو عمل النخب" .

الباب الأول: الأسس النظرية لسيكولوجية الجماهير

1. التعريف النفسي للجمهور

يميّز لوبون بين:

  • التجمع المادي: مجرد وجود أفراد في مكان واحد (كالسوق).

  • التجمع النفسي: اتحاد الأفراد حول فكرة أو عاطفة مشتركة، حتى لو لم يلتقوا جسديًا (كالمؤيدين لحركة سياسية). هنا تتشكل "الروح الجماعية" (Mental Unity) التي تُذيب الشخصية الفردية وتُطلق العنان للاوعي الجمعي .

2. الخصائص النفسية للجماهير

  • تلاشي الشخصية الواعية: الفرد في الجمهور يفقد قدرته على النقد المنطقي، ويصبح "عُرضة للتلقين مثل الشخص تحت التنويم المغناطيسي" .

  • الهيمنة العاطفية: تسيطر المشاعر البسيطة والمتطرفة على الجمهور (كالحب أو الكراهية)، مع نزعة للتعصب ورفض الرأي المخالف .

  • القدرة على الأفعال المتطرفة: قد يرتكب الجمهور جرائم وحشية (كأعمال الشغب)، أو يُظهر تضحيات بطولية (كالمقاومين في الحروب)، لأن الأخلاق التقليدية تختفي لصالح "أخلاقية الجمهور المؤقتة" .

  • اللامنطقية: الجماهير لا تُحاجّ بالعقل، بل بالصور والخيالات. مثال: خطابات الثوار الفرنسيين التي استخدمت رموزًا مثل "الإلهة الحرية" لتحريك المشاعر .

3. آلية التأثير في الجماهير

  • التلقين والعدوى: الأفكار تنتشر في الجمهور كالفيروس عبر آلية التقليد غير الواعي.

  • التكرار: تتحول الفكرة إلى يقين عند تكرارها ببساطة (مثل الشعارات السياسية).

  • التأكيد دون برهان: الجماهير تقبل الأفكار الجاهزة دون تمحيص إذا قدمها قائد مُلهم .

الباب الثاني: العوامل المشكّلة لعقلية الجماهير

1. العوامل البعيدة (المُهيئة)

  • العرق: يرى لوبون أن الخصائص النفسية الموروثة لكل عرق تُحدد ردود أفعال جماهيره (مقارنًا بين "الجماهير اللاتينية" الانفعالية و"الأنجلوساكسونية" الأكثر تحفظًا) .

  • التقاليد: هي "إطار الجمود النفسي" الذي يحافظ على استقرار المجتمعات، لكن الجماهير الثورية تحاول تحطيمه ثم تعود إليه لاحقًا .

  • المؤسسات: مثل النظام البرلماني الذي ينتقده لوبون لتحويله السياسة إلى مسرح لاستعراض المشاعر الجماهيرية.

  • التربية: يحذر من تعليم الجماهير دون توجيه، لأنه يمنحهم أوهام المعرفة دون مهارات التفكير النقدي .

2. العوامل المباشرة (المُفعّلة)

  • الصور والكلمات: تُستغل لخلق أوهام جماعية (مثل شعار "الحرية والإخاء والمساواة" في الثورة الفرنسية).

  • الخبرة: الجماهير لا تتعلم إلا من التجارب الملموسة (كالحروب أو الأزمات الاقتصادية).

  • العقل: دوره هامشي، لأن "الجماهير تُحكم بعواطفها، لا بعقولها" .

3. دور القادة في توجيه الجماهير

يصف لوبون القادة بأنهم "مُروّضو الجماهير" الذين يمتلكون:

  • الإيمان الراسخ: لخلق هالة من القداسة حول أفكارهم.

  • الإرادة القوية: لفرض الرؤية دون تردد.

  • فن الخطابة: باستخدام لغة بسيطة، وتكرار، واستثارة الخيال عبر صور درامية.
    ويشير إلى أن هتلر وموسوليني درسا نظرياته لاحقًا .

الباب الثالث: تصنيف الجماهير وتطبيقات عملية

1. أنواع الجماهير

  • جماهير متجانسة: كالجيوش أو الطوائف الدينية، تخضع لتسلسل هرمي.

  • جماهير غير متجانسة: كالحشود الثورية أو المحاكم الشعبية.

  • الجماهير "المجرمة": التي ترتكب فظائع باسم فكرة (كعمليات الإعدام أثناء الثورة الفرنسية) .

2. نماذج عملية لتحليل الجماهير

  • المحلفون القضائيون: يتأثرون بالعواطف أكثر من الأدلة (مثال: تبرئة متهم بسبب تعاطفهم مع مظهره).

  • المجالس النيابية: تتحول إلى "جمهور نفسي" يسقط في شِدّة التعصب الحزبي.

  • الجماهير الانتخابية: تصوّت بناءً على الصور النمطية عن المرشحين (كجاذبيتهم أو خطاباتهم العاطفية) .

النقد والتأثير التاريخي للكتاب

1. الانتقادات العلمية

  • اختزالية العرق: اُنتقد لاستناده لنظريات عنصرية في تصنيف الشعوب .

  • تشاؤميته: تجاهل قدرة الجماهير على الإبداع (كالثورات العلمية).

  • تعميماته: لم يُميّز بين أنواع التجمعات (السلمية والعنيفة) .

2. الإرث الفكري والتطبيقي

  • علم النفس: أثر في سيغموند فرويد الذي طور مفهوم "اللاوعي الجمعي".

  • السياسة: استخدمه الديكتاتوريون (كالنازيين) لتطوير آليات الدعاية، بينما استفاد منه الديمقراطيون لفهم الرأي العام.

  • التسويق: تُطبق نظرياته في الإعلانات عبر التكرار والاستثارة العاطفية .

 دروس مستفادة للعصر الحديث

رغم كتابته قبل 130 عامًا، يظل كتاب لوبون مرجعًا لفهم ظواهر معاصرة مثل:

  • الشعبوية السياسية: تحوُّل الخطاب السياسي إلى عروض تلفزيونية تستهدف عواطف الناخبين.

  • الإعلام الرقمي: دور منصات مثل "فيسبوك" في خلق "جماهير افتراضية" تخضع للتلقين عبر التكرار .

  • الأزمات العالمية: كجائحة كورونا، حيث انتشرت الشائعات كالنار في الهشيم، وظهرت "هستيريا جماعية" حول اللقاحات .
    يختتم لوبون بتحذير: "حين تُسقط النخبُ الفكرَ وتستسلم للعواطف، تصبح الجماهيرُ سيدة المشهد، وهذا هو بداية أفول الحضارات




إرسال تعليق

0 تعليقات