مدن الملح لعبد الرحمن منيف
إضاءة
"مدن الملح" هي سلسلة روائية ضخمة تتكون من خمسة أجزاء، كتبها الأديب السعودي عبد الرحمن منيف بين عامي 1984 و1989. تعتبر هذه السلسلة من أهم الأعمال الأدبية العربية في القرن العشرين، حيث تتناول التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مرت بها المنطقة العربية بعد اكتشاف النفط.
عبد الرحمن منيف، المولود في الأردن عام 1933 لأب سعودي وأم عراقية، عاش في عدة بلدان عربية وعالمية، مما أثرى رؤيته النقدية للواقع العربي. في "مدن الملح"، يقدم منيف رؤية شاملة لتأثير النفط على المجتمعات الخليجية، من خلال سرد حكائي عميق يجمع بين الواقعية التاريخية والرمزية الأدبية.
تتألف السلسلة من الأجزاء التالية:
التيه (1984)
الأخدود (1985)
تقاسيم الليل والنهار (1989)
المنبت (1989)
بادية الظلمات (1989)
الجزء الأول: التيه (1984) – سقوط الفردوس البدوي
الأحداث الرئيسية:
تبدأ الرواية في "وادي العيون"، قرية بدوية تعيش في انسجام مع الطبيعة، حتى تصل بعثة أجنبية للتنقيب عن النفط.
مبارك الحافي، الراعي البسيط، يشهد تدمير الآبار والمراعي بسبب التلوث النفطي، بينما يُجبر الأهالي على العمل لدى الشركات الأجنبية.
الأمير خالد يحاول التفاوض مع الأجانب، لكنه يفقد سلطته لصالح "المشايخ الجدد" الذين يبيعون الأرض مقابل الثراء السريع.
تنتهي الأحداث باختفاء القرية تحت الرمال، ومبارك يهرب إلى الصحراء في إشارة إلى "التيه" الحضاري.
التحليل الرمزي:
وادي العيون: تمثيل للجنة البدائية التي تُفقد بسبب الحداثة المدمرة (إشارة إلى سقوط الجنة التوراتية).
النفط: ليس مجرد ثروة، بل "لعنة" تذيب الهوية (الملح يذوب كما تذوب القيم).
مبارك الحافي: "الراوي الشاهد" الذي يمثل الضمير الجمعي، لكنه يُستبعد لأنه لا ينتمي إلى عالم النفط الجديد.
النقد الاجتماعي:
منيف يهاجم الاستعمار الجديد (Neo-colonialism) الذي يستبدل الجيوش بالشركات متعددة الجنسيات.
يُظهر كيف أن السلطة التقليدية (المشايخ) تتحول إلى طبقة وسطى تابعة للغرب.
الجزء الثاني: الأخدود (1985) – ولادة مدينة الملح
الأحداث الرئيسية:
تُبنى "مدينة الملح" فوق أنقاض القرى القديمة، كرمز للدول النفطية الحديثة.
فان مور، المهندس الأجنبي، يكتشف أن مشروعه جزء من آلة فساد كبرى.
حسن العليم، الموظف المثالي، يُقتل عندما يحاول فضح الفساد.
تشهد المدينة انتفاضة شعبية تُقمع بوحشية.
التحليل الرمزي:
المدينة: نموذج لمجتمع "مزيف" بُنِيَ على أنقاض الماضي (مثل بابل أو سدوم).
حسن العليم: شهيد الحقيقة في عالم يقدس المال (إشارة إلى شخصيات ديستويفسكي المتمردة).
الأخدود: يشير إلى قصة "أصحاب الأخدود" في القرآن، حيث يُعذب المؤمنون بسبب معارضتهم للظلم.
النقد السياسي:
الرواية تكشف عن الدولة الريعية (Rentier State) التي تُبقي الشعب في حالة استهلاك سلبي.
القمع يُمارس ليس فقط بالعنف، بل أيضًا بخلق "وهم الرفاهية" عبر الإعلام والاستهلاك.
الجزء الثالث: تقاسيم الليل والنهار (1989) – تفكك النسيج الاجتماعي
الأحداث الرئيسية:
يركز هذا الجزء على تحول العائلات القديمة إلى عائلات "نفطية" تنهار قيمها.
د. صالح، الطبيب المثالي، يُطرد لأنه يرفض الرشاوى.
منيرة، المرأة المتمردة، تُجبر على الزواج من رجل ثري ثم تنتحر.
المجتمع ينقسم بين "المتغربين" و"المتشددين دينيًا".
التحليل الرمزي:
الليل والنهار: رمز للانقسام بين الماضي (النور الأصيل) والحاضر (الظلام الاستهلاكي).
منيرة: تمثيل لقمع المرأة في مجتمع يُباع فيه كل شيء، حتى المشاعر.
النقد الثقافي:
منيف يتنبأ بظهور الصراع بين الحداثة والتقليد الذي سيهز العالم العربي لاحقًا.
ينتقد الانحدار الأخلاقي الناتج عن الثراء المفاجئ دون بناء مؤسسات حقيقية.
الجزء الرابع: المنبت (1989) – اغتراب المثقف
الأحداث الرئيسية:
يهاجر البطل إلى بلد عربي آخر، حيث يعاني من الاغتراب.
يكتشف أن "النفط العربي" خلق طبقة من المنتفعين في كل مكان.
يفقد إيمانه بكل الأيديولوجيات (القومية، الاشتراكية، الدينية).
التحليل النفسي:
المنبت: هو الإنسان الذي لا جذور له، كناية عن المثقف العربي الذي لم يعد ينتمي إلى أي مكان.
الهجرة: ليست جغرافية فقط، بل اغتراب عن الذات.
النقد الفلسفي:
الرواية تسائل: هل يوجد مخرج من النظام النفطي؟
تُظهر فشل المشاريع القومية واليسارية في مواجهة الرأسمالية المتوحشة.
الجزء الخامس: بادية الظلمات (1989) – العودة إلى الصفر
الأحداث الرئيسية:
تنهار "مدينة الملح" بسبب الأزمات الاقتصادية.
الناجون يعودون إلى الصحراء، حيث يموت آخرهم (مبارك الحافي) وحيدًا.
النهاية مفتوحة: هل هي نهاية العالم، أم بداية جديدة؟
التحليل الأسطوري:
العودة إلى الصحراء: إشارة إلى "التطهير بالخراب" (مثل طوفان نوح).
الظلمات: ترمز إلى الجهل الذي يعود بعد فشل التجربة "المدنية".
الرؤية النهائية:
منيف يشكك في أسطورة التقدم، ويقول إن النفط لم يُحدث تنمية حقيقية، بل دمر المجتمعات.
لكنه يترك بصيص أمل: ربما البداية الجديدة ستأتي من "الهامش" (الصحراء، البسطاء).
"مدن الملح" كمرآة للعالم العربي
1. الرواية كنقد جذري للرأسمالية:
تُظهر كيف يحوّل النفط البشر إلى "مستهلكين" بدلًا من "مواطنين".
تكشف عن التحالف بين السلطة المحلية والشركات الدولية لنهب الثروات.
2. سردية الانهيار:
البنية الدائرية (من الصحراء إلى الصحراء) تُشير إلى أن التاريخ يعيد نفسه إذا لم نتعلم من الأخطاء.
3. لماذا ما زالت الرواية مهمة اليوم؟
لأنها تنطبق على أي بلد يعتمد على "اقتصاد الريع" (مثل الجزائر، العراق، ليبيا).
لأنها تتنبأ بأزماتنا الحالية: الفساد، التطرف، انهيار الهوية.
4. حدود الرواية:
يُنتقد منيف لـ "تشاؤميته"، وعدم تقديمه بديلًا واضحًا.
بعض الشخصيات تبدو "أحادية" (الشرير فاسد، البطل ضحية)، مما يقلل من تعقيدها.
ملخصا:
"مدن الملح" ليست مجرد رواية، بل نبوءة عن مصير المجتمعات التي تبيع تراثها مقابل الثراء السريع. عبد الرحمن منيف، ببراعة السارد وعمق الناقد، يخلق عملاً يُقرأ كـ "تاريخ مضاد" للرواية الرسمية عن "النفط والتنمية". ربما هذا ما جعل الرواية ممنوعة في بعض الدول الخليجية، وما يجعلها، بعد 40 عامًا، أكثر واقعيه من أي وقت مضى
0 تعليقات