"في محراب الفن" ليحيى حقي

 


 "في محراب الفن" ليحيى حقي

 رؤية نقدية في الموسيقى والتشكيل والعمارة

 المؤلف والمؤلف

يُعد يحيى حقي (1905-1992) أحد أعمدة الأدب والنقد في مصر والعالم العربي، حيث جمع بين الإبداع القصصي (كما في "قنديل أم هاشم") والرؤية النقدية الثاقبة. يُقدم كتاب "في محراب الفن" (الصادر عام 1977) خلاصة أفكاره حول الفنون عبر 33 مقالاً موزعة على ثلاثة أقسام: الموسيقى (17 مقالاً)، التشكيل (12 مقالاً)، والعمارة (4 مقالات). يُمثل الكتاب رحلة فكرية تكشف عن تمسك حقي بالهوية الفنية الشرقية مع دعوته للتجديد المنضبط، ويرى أن الفنون أداة لـ"تهذيب الذوق" كما أن الدين أداة لتهذيب الأخلاق .


القسم الأول: نقد الموسيقى والغناء

يرصد حقي إشكاليات المشهد الموسيقي المصري والعربي من خلال عدة محاور:

  1. الهوية الموسيقية المفقودة:

    • ينتقد اختلاط الآلات الشرقية بالغربية في التخت العربي، مما يفقد الموسيقى هويتها الواضحة.

    • يُشير إلى ظاهرة التكرار المنفر في الألحان والأغاني، والتي تخلق حالة من الرتابة وتقتل الإبداع .

  2. الأوبرا: سحر الصوت ومأزق التوليف:

    • يصف الأوبرا بأنها تعتمد على "معجزة الصوت الإنساني" وتنوع طبقاته (تينور، سوبرانو، إلخ)، لكنها تواجه مأزقاً في العثور على أصوات تجمع بين الموهبة الغنائية والتمثيل وملاءمة الهيئة للأدوار.

    • يلاحظ أن الإفراط في الاهتمام بالديكور والإضاءة في العصر الحديث هو محاولة لتعويض ضعف المستويات الصوتية .

  3. نقد الواقع الفني:

    • يهاجم الاستهتار في تأليف الموسيقى، مثل تأليف الأغنيات الوطنية "عبر الهاتف" دون لقاء بين الملحن والشاعر، مما ينتج أعمالاً مشوهة.

    • يرفض الظاهرة الاستعراضية في الغناء، مثل مصاحبة أم كلثوم بـ20 عازف كمان، ويرى أنها "رفع للموسيقى بالكم لا بالكيف" .

  4. الحلول المقترحة:

    • يدعو للاقتداء بالنموذج التركي في الحفاظ على الهوية، مثل حفلات منير نور الدين التي تُقدم تاريخ الموسيقى عبر أقسام: كلاسيكي، معاصر، وشعبي، مع تقليل عدد العازفين.

    • يشدد على ضرورة الاحتفاظ بالروح الشرقية مع تقديمها بأسلوب حضاري راقٍ .


القسم الثاني: التشكيل والفن البصري

ينتقل حقي إلى نقد الفنون التشكيلية مع التركيز على دورها في تشكيل الوعي الجمعي:

  1. الذوق العام وإهمال التراث:

    • يُحذر من أن إهمال الآثار الإسلامية في القاهرة "أضر بالأمة من تفشي الجرائم"، مؤكداً أن الفنون وسيلة لصقل الذوق.

    • ينتقد اقتناء المصريين – خاصة الشباب المتعلم – لوحات لا تعبر عن الهوية المصرية أو التراث الفرعوني والعربي .

  2. محمود مختار: نموذج للفن الأصيل:

    • يخصص مقالاً كاملاً للنحات محمود مختار، داعياً الجمهور لزيارة متحفه في الجزيرة والتأمل في أعمال مثل:

      • رياح الخماسين: التي تجسد تحول الحجر إلى "حرير شفاف" يعبر عن صبر الكادحين.

      • العودة من الريف وحارس الحقول: كأمثلة لفن يخلد روح الشعب المصري .

  3. المعارض الفنية: بين التضخيم والبساطة:

    • يسخر من ظاهرة "النفخ في الحبة لتصبح قبة" في تنظيم المعارض، حيث يُبالغ في الدعوات والسير الذاتية على حساب الجوهر الفني.

    • يرى أن جمال الفن يكمن في البساطة والتكامل وغياب التعقيد، مع التركيز على الإيحاء بدلاً من النقل الحرفي للطبيعة .


القسم الثالث: العمارة وهوية المكان

رغم قلة مقالات هذا القسم (4 مقالات)، إلا أنها تقدم رؤى عميقة:

  1. التراث المعماري الإسلامي:

    • ينتقد الإهمال الذي تعانيه العمارة الإسلامية في القاهرة، معتبراً إياها جزءاً من الذاكرة الجمعية التي يجب صونها.

    • يربط بين تدهور العمارة وتشويه الهوية الثقافية، داعياً إلى استلهام التراث في التصميم المعاصر .

  2. مقال مترجم لتوم بريدو:

    • يُقدم هذا المقال (المترجم في الكتاب) رؤى غربية حول العمارة، في محاولة من حقي لإثراء الحوار الفكري المحلي بآراء عالمية .


الأسس الفكرية والنقدية 

يتميز منهج حقي النقدي بعدة خصائص تجعله علامة فارقة:

  1. النقد كرسالة تنويرية:

    • يرفض النظريات الدخيلة على العمل الفني، ويركز على جوهره وهدفه.

    • يشجع الفنان على الثقة بذاته دون تقليد أعمى، قائلاً: "على الفنان أن يمدنا بما هو جديد ومبتكر" .

  2. المحاكاة بين الضرورة والابتكار:

    • يعترف بأن المحاكاة ضرورية للمبتدئين كـ"تعلم الحبو قبل المشي"، لكنه يرفعها لمرحلة الابتكار لاحقاً.

    • ينتقد تجارب مثل تقليد الآذان بالكمان (كما فعل سامي الشوا)، معتبراً إياها استسهالاً .

  3. اللغة: بين البلاغة والوظيفية:

    • يجمع حقي بين جمال الصياغة وروعة الفكرة، مستخدماً لغة "متميزة في إيقاعها، متوهجة بالمشاعر، نابضة بالحياة" كما في أعماله القصصية .

    • يدعو الكُتّاب الشباب لدراسة الأدب العربي القديم لفهم "دلالات الكلمات وجرسها"، معتبراً إياه المادة الخام للإبداع .


مكانته العمل في مشروع حقي الفني

  • جسر بين الأصالة والحداثة: يُعد الكتاب امتداداً لفكر حقي الداعي لتحرير الأدب من "لغة المقامة" (كما في أعمال المويلحي) والاتجاهات الوعظية (مثل المنفلوطي)، مع التمسك بالبساطة والتعبير الصادق عن التراث .

  • إرث مستمر: رغم مرور عقود على صدوره، يظل الكتاب مرجعاً لفهم تحولات المشهد الفني العربي، خاصة في ظل استمرار الإشكاليات التي ناقشها، مثل أزمة الهوية والاستهلاكية الفنية.

  • شهادة تلاميذه: يصفه بهاء طاهر بأنه "بللور صافٍ" تتحرك كلماته كنغم متصل، بينما يؤكد نادر أندراوس أنه "مثال للأديب الذي يعرف التاريخ ويفهم الحاضر" .


 الفن كمعبد للروح والإصلاح

يختزل "في محراب الفن" رؤية يحيى حقي للفن بوصفه محراباً للجمال والإصلاح الاجتماعي. فمن خلال نقده الثاقب، كشف عن:

  • ضرورة التصالح بين الأصالة والمعاصرة.

  • دور الفنون في مكافحة "الرتابة الفكرية" ورفع الذوق العام.

  • مسؤولية الفنان في التعبير عن هموم المجتمع دون تنازل عن الجودة.
    يظل هذا الكتاب شاهداً على عبقرية حقي كمثقف "شمولي" جمع بين الإبداع والنقد، وكرس حياته لبناء جسر بين تراث أمته وآفاق العصر

إرسال تعليق

0 تعليقات