نشيد الأنشاد لتوفيق الحكيم

 


 "نشيد الأنشاد" لتوفيق الحكيم

 بين الترجمة الأدبية والرؤية المسرحية

I. ماهية العمل وأبعاده التاريخية

  1. طبيعة النص الأصلي:

    • "نشيد الأنشاد" (شير هشيريم بالعبرية) هو سفر من أسفار العهد القديم، يُنسب للملك سليمان، ويعني "أجمل الأناشيد" بصيغة التفضيل .

    • يتخذ شكل حوار غزلي بين العريس (سليمان) والعروس (شولميث)، ويُقسَّم إلى ثلاث مراحل: الخطبة، الزفاف، ونضوج العلاقة الزوجية .

  2. تحويل الحكيم للنص إلى مسرحية:

    • صاغ الحكيم النص التوراتي في مسرحية شعرية من ستة فصول عام 1940، معيدًا إحياءه بلغة عربية أدبية مشبعة بالصور الشعرية .

    • احتفظ بالحوار بين سليمان وشولميث، مثل مشهد القول:

      "سليمان: ما أجملَكِ، يا حبيبتي! [...] شولميث: ما أجملَكَ، يا حبيبي! سَريرُنا العُشب الأخضر" .

    • نشر العمل خلال الحرب العالمية الثانية كـ"رمز لحُبٍّ وسلام في زمن القسوة والكراهية" .


II. التحليل الفني والأدبي للمسرحية

أ. البناء الدرامي واللغة:

  • الطابع الذهني: تندرج المسرحية ضمن "المسرح الذهني" الذي أسسه الحكيم، حيث تُقرأ أكثر مما تُعرض على الخشبة بسبب هيمنة الرمزية والحوار الداخلي .

  • اللغة الشعرية: مزج الحكيم بين:

    • الترجمة الأمينة للنص التوراتي.

    • الإضافات الإبداعية التي تعكس رؤيته، مثل توسيع مشاهد الطبيعة كرمز للخلود .

  • الحوار كبنية أساسية: يعتمد العمل على تبادل القصائد الغنائية بين الشخصيتين الرئيسيتين، مع غياب شبه تام للشخصيات الثانوية أو الصراع الخارجي .

ب. الرمزية والمستويات التأويلية:

  1. المستوى الإنساني: تصور العلاقة الزوجية المثالية القائمة على الإعجاب المتبادل والالتزام، كما في قول شولميث:

    "اجعلني كخاتم على قلبك" .

  2. المستوى الديني:

    • في التفسير المسيحي: يمثل العريس المسيح، والعروس الكنيسة أو النفس المؤمنة .

    • في التفسير اليهودي: يرمز لعلاقة الله بشعب إسرائيل، وقد قُرئ السفر تاريخيًا في اليوم الثامن من عيد الفصح إشارة إلى "الحياة الجديدة" .

  3. رؤية الحكيم الفلسفية: حوَّل الرمز الديني إلى خطاب إنساني عالمي، مؤكدًا أن الحب "أجمل صوت خرج من قلب الإنسان" .


III. السياق التاريخي والجدل الثقافي

أ. سياق النشر وأثره:

  • زمن الحرب العالمية الثانية: مثَّل العمل ردًا على وحشية الحرب، بتقديمه نموذجًا للحب كقوة مُخلِّصة .

  • الجدل حول النص الأصلي:

    • أثار النص التوراتي جدلًا بسبب صراحته الغزلية، فمنعه بعض الحاخامات من القراءة قبل بلوغ الـ30 عامًا .

    • دافع عنه الحاخام "أكيبا" قائلًا: "الكتاب كله مقدس، أما نشيد الأناشيد فهو أقدس الأسفار" .

  • موقف الحكيم: تجاوز الجدل الديني عبر تقديم النص كتراث إنساني، مع حذف المقاطع الأكثر صراحة ترجمةً للروح لا الحرف .

ب. مقارنة مع أعمال الحكيم الأخرى:

العملالطابع الغالبالفرق الجوهري عن "نشيد الأنشاد"
أهل الكهفمسرح ذهني فلسفياعتماد على الصراع الدرامي
عصفور من الشرقرواية واقعية نقديةنبرة تشاؤمية تجاه الغرب
نشيد الأنشادشعرية/رمزيةتفاؤل وإيمان بالطاقة الروحية للحب

IV. الأبعاد الفلسفية والاجتماعية

أ. الحب كقوة كونية:

  • يستعيد الحكيم فكرة "الحب الأفلاطوني" الجامع بين الجسد والروح، رافضًا ثنائيات:

    • الزهد (رفض المتعة).

    • الترف (السقوط في الشهوانية) .

  • يشير إلى خلود الحب عبر صورة الطبيعة المتجددة:

    "فوق الرمالِ تُورقُ الأغصانُ، وتُزهرُ الأشجارُ، ويُخصبُ الأرضَ مطرُ الربيع" .

ب. المرأة في رؤية الحكيم:

  • على عكس لقبه "عدو المرأة"، قدَّم شولميث كشخصية فاعلة:

    • تبادل الحبيبَ الإعجاب.

    • تُعبِّر عن رغبتها بحرية (مثل دعوتها سليمان: "تعالَ إلى جنّتي") .

  • هذا يتناقض مع صورة المرأة في أعماله الأخرى كـ"أهل الكهف"، حيث تُحاصر بقيود المجتمع.


V. الترجمات والتأثير الأدبي

أ. خصوصية ترجمة الحكيم:

  • الانزياح عن الترجمة الحرفية:

    • حوَّل النثر التوراتي إلى شعر موزون.

    • استبدل الإشارات الثقافية اليهودية بمفاهيم عربية (كاستخدام "شولميث" بدل "السوداء" في وصف العروس) .

  • المصادر المتنوعة: اعتمد على ترجمات فرنسية ولاتينية، بالتعاون مع مختصين في اللغات القديمة لضبط الدلالات .

ب. مكانة العمل في الأدب العربي:

  • الأولوية في توظيف التراث الديني: سبق به الحكيم أعمالًا مثل "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور.

  • التأثير على المسرح الشعري: مهَّد لمسرحيات شعرية لاحقة كـ"مأساة جميلة" لعبد الرحمن الشرقاوي .


VI.  النشيد كرسالة خالدة

"نشيد الأنشاد" لتوفيق الحكيم ليس مجرد ترجمة، بل إعادة بناء لإرث روحي عبر الآتي:

  1. المصالحة بين الأديان: تقديم النص المقدس برؤية إنسانية جامعة.

  2. التجديد المسرحي: اختراق تقاليد الدراما بالاعتماد على الشعر فكرًا وجمالًا.

  3. المقاومة بالجمال: تحويل الحرب إلى فضاء للحب عبر الفن.

كما كتب الحكيم في مقدمة العمل:
"هذا النشيد [...] هو قبس من النور الإلهي في قلب البشر" .

يظل العمل شاهدًا على أن الأدب العظيم قادر على تحويل النصوص المقدسة إلى مرايا تعكس أعمق أسئلة الوجود الإنساني

إرسال تعليق

0 تعليقات