مسرحية "شجرة الحكم" لتوفيق الحكيم

 


مسرحية "شجرة الحكم" لتوفيق الحكيم

دراسة في النقد السياسي والاجتماعي

 البعد التاريخي والأدبي للمسرحية

وُلدت مسرحية "شجرة الحكم" في خضم التحولات السياسية المصيرية في مصر عام 1938، حيث مزج توفيق الحكيم (1898-1987) - أحد عمالقة الأدب العربي الحديث - بين الفن المسرحي والرؤية النقدية الجريئة. تنتمي هذه المسرحية إلى تيار "المسرح الذهني" الذي أسسه الحكيم، وهو مسرحٌ يُقصد به القراءة أكثر من العرض، لصعوبة تجسيد طبقاته الرمزية على الخشبة . تعكس المسرحية رؤية الحكيم كـ"مؤسس الدراما العربية الحديثة" الذي جمع بين بساطة اللغة وعمق الدلالة، مما جعل أعماله في متناول القارئ العادي مع حفاظها على أبعادها الفلسفية . كتب الحكيم المسرحية أثناء عمله في الحكومة المصرية، مما يعكس شجاعته في نقد النظام الذي كان جزءاً منه، وهو ما تسبب لاحقاً في عقوبات وظيفية تعرض لها .

الفصل الأول: الشخصيات الرئيسية وتحولاتها الرمزية

تتجلى براعة الحكيم في نحت شخصيات تجسد التيارات السياسية والفكرية في مصر آنذاك:

  • المثقف المستقل (المدعو بـ"الكاتب"): يمثل صوت الحكيم نفسه، الذي يرفض الانحياز للأحزاب. تتعرض هذه الشخصية للتهميش والعقاب الوظيفي بسبب نقدها العلني، مما يعكس معاناة المثقفين في مواجهة الأنظمة الحاكمة. قولته الشهيرة: "إن من حقي الكلام... إن لم يكن بصفتي كاتباً فباعتباري مواطناً" تختصر مأساة حرية التعبير .

  • السياسي الانتهازي: يجسد انهيار المبادئ السياسية. يبدأ الشخص بخطاب إصلاحي حماسي، لكنه ما يلبث أن يتحول إلى طاغية بمجرد وصوله للسلطة، مستخدماً شعارات براقة لتبرير فساده.

  • الجماهير المُخدَّرة: تظهر ككورس مسرحي يعكس سذاجة العامة الذين تنخدع بالشعارات البراقة، فتتناوب على تأييد كل حاكم جديد دون وعي بحقيقة مصالحها.

  • "الخيلة" (الستارة): ليست شخصيةً بشريةً لكنها رمزٌ مركزي. تمثل الوجه البراق الذي يخفي الفساد، حيث يقول الحكيم على لسان إحدى الشخصيات: "إنها الخيلة الجميلة التي تظل عشاق الحكم" . محاولة تقليمها لكشف الحقيقة تُعد الجريمة الكبرى في عالم المسرحية.

الفصل الثاني: البنية الفنية والرؤية الجمالية

تتميز المسرحية بابتكارات شكلية عميقة الدلالة:

1. اللغة بين البساطة والتركيب:

يستخدم الحكيم لغةً يوميةً واضحةً في الحوارات العامة، بينما يتحول إلى لغة شعرية مجازية في المشاهد التأملية. هذا الثنائي يعكس إيمان الحكيم بأن الأدب يجب أن يكون في متناول "العامي" دون التخلي عن العمق .

2. الرمزية المتعددة الطبقات:

  • الشجرة: تمثل النظام السياسي المتجذر في الفساد، الذي يثمر حكاماً فاسدين رغم تغير الأوراق.

  • المقص: أداة التقليم ترمز لمحاولات الإصلاح الجذري التي تُقابل بالقمع.

  • الضوء: يشير إلى الحقيقة والشفافية التي يخشاها الحكام .

3. كسر الإيهام المسرحي:

يكسر الحكيم حاجز الوهم الدرامي عبر حوارات مباشرة مع الجمهور، خاصة في المشاهد التي يشرح فيها الشخصيات دوافعها، مما يعزز الطابع الذهني للمسرحية ويؤكد أنها كُتبت أساساً للقراءة .

الفصل الثالث: الأبعاد السياسية والاجتماعية

تقدم المسرحية تحليلاً جريئاً لعلاقات القوة:

1. النظام البرلماني كآلة فساد:

يصف الحكيم البرلمانية المصرية بأنها "الأداة الصالحة لتخريج الحكام غير الصالحين" . يصور الانتخابات كمسرحيات ديمقراطية زائفة، حيث الأحزاب كفروع لشجرة واحدة متجذرة في الفساد.

2. آليات إسكات المعارضة:

تعرض المسرحية أساليب قمع المثقفين عبر:

  • التهميش الوظيفي: كما حدث للكاتب عندما "عاقبوه عقاب اللص" .

  • التشويه الإعلامي: عبر اتهامات بالخيانة والعمالة.

  • الاحتواء الزائف: عبر عروض انضمام إلى الأحزاب مقابل الامتيازات.

3. سيكولوجية السلطة:

تتحول الشخصيات عند الوصول للحكم بسبب:

  • انفصال النخبة عن الشعب: حيث يعيش الحكام في "قصور منعزلة".

  • إغراءات الامتيازات المادية: المتمثلة في الرشاوى والهدايا.

  • وهم الخلود في السلطة: الذي يدفع للتشبث بالكرسي بأي ثمن.

الفصل الرابع: الصدى النقدي والتأثير الثقافي

1. ردود الفعل العنيفة:

أثار نشر فصول المسرحية في الصحف عام 1938 غضب الأحزاب جميعاً دون استثناء، وهو ما علق عليه الحكيم بقوله: "هي نتيجة لا نحمد عليها... أما إثارة السخط العام فهو عمل لا يقدم عليه إلا الحمقي" .

2. العقوبات الوظيفية:

كشف الحكيم كيف استُخدمت مؤسسات الدولة لمعاقبته: "وكنت يومئذ موظفاً في الحكومة فعاقبوني عقاب اللص والمختلس" .

3. الراهنية المستمرة:

المفارقة الأعمق التي سجلها النقاد هي أن نقد الحكيم عام 1938 "لا يزال ينطبق على الوضع السياسي الحالي" ، مما يؤشر على عمق رؤيته واستمرارية الأزمات السياسية في المجتمعات العربية.

 شجرة الحكم في مرآة التراث الحكيمي

تُمثل هذه المسرحية علامةً فارقةً في مسيرة الحكيم التي اتسمت بالغزارة (50 مسرحية) والجرأة . إذا كانت "عودة الروح" تنبأت بثورة يوليو، و"أهل الكهف" أسست للمسرح الذهني، فإن "شجرة الحكم" تُعد أول نقد جذري للديمقراطية الشكلية في الأدب العربي الحديث.

رغم مرور أكثر من 80 عاماً على كتابتها، تظل المسرحية مرجعاً لفهم:

  • أزمات التناوب السلمي للسلطة في الأنظمة العربية.

  • دور المثقف العضوي في كشف آليات الهيمنة.

  • إمكانيات الأدب كسلاح مقاومة.

يقتبس الحكيم في ختام المسرحية الآية القرآنية: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ ، كإشارة إلى الصراع الأبدي على السلطة الذي يتحول فيه الحلفاء إلى أعداء، وهي الحقيقة التي تجعل من "شجرة الحكم" شاهداً أدبياً خالداً على أزمات الحكم في الشرق.


ملحق: تحليل مقارن مع أعمال الحكيم الأخرى

العملالعامالمحور الرئيسيأوجه التشابه مع "شجرة الحكم"
أهل الكهف1933الزمن والخلودالبعد الرمزي - الصراع الوجودي
عصفور من الشرق1938صدام الحضاراتنقد الغرب الاستعماري
عودة الروح1933الصحوة الوطنيةتحليل النفسية المصرية
بجماليون1942العلاقة بين الخالق والمخلوقاستلهام التراث في قالب معاصر

تثبت "شجرة الحكم" مقولة الحكيم عن "صلاحية الأدب الخالد للقراءة عبر كل الأزمان" . فمن خلال تشريحه لجذور الاستبداد، يقدم لنا تحفةً أدبيةً تظل نبراساً لكل من يبحث عن فهم تعقيدات السلطة وآليات التحرر منها. هذه الرؤية الثاقبة هي التي جعلت دار الشروق تعيد نشرها ضمن الأعمال الكاملة للحكيم ، مؤكدةً أنها لم تفقد شيئاً من قدرتها على إثارة الأسئلة المحرجة عن الفساد والحرية والإصلاح

إرسال تعليق

0 تعليقات