نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري

 

 "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري

 المشروع الفكري 

يُشكِّل كتاب "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري (1935–2010) واحدًا من أجرأ المشاريع النقدية التي حاولت تشريح البنية المعرفية للفكر العربي الإسلامي عبر التاريخ. 

لا يقتصر هذا المشروع على التحليل الفلسفي المجرد، بل يمتد إلى تفكيك الأنظمة الفكرية والاجتماعية والسياسية التي شكَّلت العقل العربي.

السياق التاريخي 

ظهر المشروع في فترة حرجة من التاريخ العربي الحديث، حيث سادت إشكاليات مثل:

  • أزمة النهضة (لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟).

  • صراع التراث والحداثة (كيف نتعامل مع الموروث الديني والفلسفي؟).

  • الهيمنة الغربية (كيف نستوعب الحداثة دون فقدان الهوية؟).

وقد تأثر الجابري بتيارات فكرية متنوعة، منها:

  • الماركسية: في تحليل العلاقة بين البنى الفوقية (الفكر) والتحتية (الاقتصاد والسلطة).

  • البنيوية: في دراسة الأنظمة المعرفية كبنيات مستقلة.

  • فلسفة كانط النقدية: في تفكيك شروط إمكانية المعرفة داخل العقل العربي.


الفصل الأول: الإطار المنهجي لنقد العقل العربي

1. النقد كتفكيك وإعادة بناء

يرفض الجابري المناهج التقليدية في قراءة التراث، سواء كانت:

  • سلفية تقديسية (ترى التراث ككمال مطلق).

  • استشراقية استعلائية (تعامل العقل العربي ككيان منغلق).

بدلًا من ذلك، يتبنى منهجًا تفكيكيًا تاريخيًا يهدف إلى:

  • كشف الآليات الداخلية التي تحكمت في إنتاج المعرفة.

  • تحليل التكوين التاريخي للعقل العربي عبر العصور.

2. مفهوم "العقل العربي" عند الجابري

يشير "العقل العربي" هنا ليس إلى جنسية عرقية، بل إلى:

  • نظام معرفي تشكَّل عبر التاريخ.

  • أدوات تفكير تحكمت في رؤية العالم (مثل البيان، البرهان، العرفان).


الفصل الثاني: الأنظمة المعرفية الثلاثة للعقل العربي

يحدد الجابري ثلاثة أنظمة رئيسية تحكمت في العقل العربي:

1. نظام البيان (الهيمنة اللغوية والنصية)

  • المصادر: القرآن، الشعر الجاهلي، علوم اللغة (النحو، البلاغة، الفقه).

  • الخصائص:

    • الاعتماد على النص كمصدر مطلق للمعرفة.

    • هيمنة اللغة والبلاغة على حساب التحليل المنطقي.

    • سيادة الفقه كعلم مركزي على حساب الفلسفة والعلوم.

  • النتيجة: تحوُّل العقل العربي إلى عقل نقلي أكثر منه عقلي نقدي.

2. نظام البرهان (المحاولات العقلانية)

  • الممثلون: الفلاسفة (الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد).

  • الخصائص:

    • محاولة تطبيق المنطق الأرسطي في فهم الدين والطبيعة.

    • الدعوة إلى فصل الدين عن الفلسفة (كما في فلسفة ابن رشد).

  • الصراع مع البيان: هجوم الغزالي في "تهافت الفلاسفة" أدى إلى تراجع العقل البرهاني.

3. نظام العرفان (المعرفة الحدسية والباطنية)

  • الممثلون: الصوفية (ابن عربي، الحلاج)، الإسماعيلية، الفكر الشيعي الغالي.

  • الخصائص:

    • الاعتماد على الكشف والإلهام بدل العقل.

    • الخلط بين الدين والفلسفة (مثل نظرية وحدة الوجود).

  • التأثير: ساهم في تعطيل العقل النقدي لصالح الخبرة الذاتية.

تحليل الجابري للصراع بين الأنظمة

يرى أن انتصار البيان والعرفان على البرهان كان سببًا رئيسيًا في:

  • جمود الفكر العربي بعد العصر الذهبي.

  • غياب العقلانية العلمية في الحضارة الإسلامية المتأخرة.


الفصل الثالث: العقل السياسي العربي (نقد الاستبداد والشرعية)

1. السلطة والمعرفة في التاريخ الإسلامي

يحلل الجابري العلاقة بين:

  • السلطة السياسية (الخلفاء، الأمراء).

  • السلطة الدينية (الفقهاء، المحدثين).

ويخلص إلى أن:

  • الاستبداد السياسي أدى إلى استبداد فكري، حيث تم توظيف الدين لتبرير الحكم.

  • تحالف الفقهاء مع السلطة (مثل تبني الأشاعرة لعقيدة "الجبر" لتبرير الخنوع).

2. إشكالية الشرعية في الفكر السياسي العربي

يناقش غياب مفهوم "العقد الاجتماعي" في التراث السياسي الإسلامي، مقابل هيمنة:

  • نموذج الخلافة: الذي يجمع بين الديني والسياسي.

  • فقه الطاعة: الذي يحرم الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالمًا.

3. لماذا فشل المشروع الديمقراطي في العالم العربي؟

يربط الجابري بين:

  • التراث السياسي الاستبدادي.

  • غياب العقل النقدي القادر على مساءلة السلطة.


الفصل الرابع: العقل الأخلاقي العربي (بين النص والممارسة)

1. الأخلاق بين النظرية والتطبيق

يكشف الجابري عن ازدواجية الخطاب الأخلاقي في التراث، حيث:

  • النصوص تدعو إلى العدل والمساواة.

  • الممارسة التاريخية غلب عليها الاستبداد والانتهازية.

2. أخلاق الطاعة vs أخلاق الحرية

يميز بين:

  • أخلاق الطاعة: التي تكرس الخنوع للسلطة (مثل فقه "السمع والطاعة").

  • أخلاق العقل: التي تدعو إلى المسؤولية الفردية (كما في فلسفة ابن رشد).


الفصل الخامس: تقييم المشروع وانتقاداته

إنجازات الجابري

  1. كسر تابو التراث عبر نقد مقدساته.

  2. ربط الفكر بالسياسة (أي تحليل المعرفة كنتاج لصراعات السلطة).

  3. فتح الباب لمشاريع نقدية جديدة (مثل مشروع طه عبد الرحمن ونصر حامد أبو زيد).

انتقادات المشروع

  1. تعميم مفهوم "العقل العربي": كأنه كتلة واحدة، رغم تنوعه (مثلاً: هل العقل الفارسي أو الأمازيغي جزء منه؟).

  2. إغفال التأثيرات الخارجية: مثل دور الحضارات الفارسية والتركية في تشكيل الفكر الإسلامي.

  3. الانحياز للنموذج الغربي: حيث يتهمه البعض بمحاكاة العقلانية الأوروبية دون مراعاة الخصوصية.


ملخصا

يطرح الجابري رؤيته للإصلاح عبر:

  1. تفكيك التراث: لفهمه لا لرفضه أو تقديسه.

  2. تبني العقلانية النقدية: كأداة للتحرر من الجمود.

  3. ربط المعرفة بالحرية: لأن التخلف الفكري مرتبط بالاستبداد.

هل نجح الجابري في مشروعه؟

  • نعم، لأنه فتح أبواب النقاش حول العقل العربي.

  • لا، لأنه لم يقدم حلولًا عملية كافية.

لكن يبقى مشروعه إطارًا مرجعيًا لأي محاولة جادة لإصلاح الفكر العربي المعاصر

إرسال تعليق

0 تعليقات