"الحصة الملعونة" لجورج باتاي
الاقتصاد العام والإنفاق الفائض
فكرة الكتاب
(The Accursed Share) (1949) للفيلسوف الفرنسي جورج باتاي (1897–1962) عملاً ثورياً يتحدى المفاهيم الاقتصادية التقليدية القائمة على الندرة والمنفعة والتراكم. بدلاً من ذلك، يطرح نظرية "الاقتصاد العام" (General Economy) التي تركز على فائض الطاقة الذي يجب إنفاقه بطرق غير منتجة، سواءً عبر الترفيه الإبداعي أو العنف الكارثي.
هذا الفائض هو ما يُسميه "الحصة الملعونة" — الجزء الذي لا يمكن استثماره بشكل مفيد ويُجبَر النظام على تبديده.
الأساس البيوفيزيائي للنظرية:
ينطلق من حقيقة علمية: الطاقة الشمسية تُغمر الأرض بكميات هائلة تتجاوز حاجات البقاء الأساسية.
الكائنات الحية (بما فيها المجتمعات البشرية) تمتص هذه الطاقة، لكنها تواجه معضلة: ماذا تفعل بالفائض الذي لا يمكن تحويله لنموٍّ إضافي؟
الخياران الرئيسيان:
الإنفاق الباذخ المختار: الفنون، الطقوس، الاحتفالات.
الإنفاق الكارثي الإجباري: الحروب، التضحيات البشرية، الدمار.
"الكائن الحي... يتلقى عادةً طاقةً تفوق ما يلزم للحفاظ على الحياة... هذا الفائض يجب أن يُبدَد بلا ربح، شئنا أم أبينا، بطريقة مجيدة أو كارثية" — باتاي.
نظرية الاقتصاد العام
1. الاقتصاد المقيَّد
يرى بأن الاقتصاد الكلاسيكي (من آدم سميث إلى ماركس) يركز على الإنتاج والندرة، متجاهلاً حقيقة أن الوفرة والفائض هما الأصل في الطبيعة. بينما الاقتصاد العام يدرس حركة الطاقة في الأنظمة الكبرى (البيئية، البيولوجية، الاجتماعية).
2. عبر التاريخ
يقدم أمثلة أنثروبولوجية توضح كيف تعاملت المجتمعات مع "الحصة الملعونة":
التضحية البشرية عند الأزتيك:
كانت التضحيات وسيلة لتبديد الثروة البشرية (الأسرى) والموارد (الأهرامات، الطقوس).
لم تكن غاية عسكرية، بل "استهلاكاً فاخراً" لإرضاء الآلهة والحفاظ على التوازن الكوني.
البوتلاتش عند هنود شمال غرب المحيط الهادئ:
طقوس تنافسية يُحرق فيها الزعيم ثروته (بطانيات، نحاس، طعام) أو يوزعها لتحدي خصمه.
الهدف: التبذير كدليل على العظمة، لا التبادل المفيد.
الإسلام المبكر :
حوَّل الفائض إلى حروب دائمة كشكل من "الإنفاق الكارثي".
هنا يظهر الانتقال من "مجتمع الاستهلاك" (مثل الأزتيك) إلى "مجتمع الإنتاج" القائم على التوسع العسكري.
اللامية التبتية:
أُرسِل الفائض الاقتصادي إلى الأديرة، حيث عاش الرهبان حياةً غير منتجة مكرسة للتأمل والطقوس.
مثال على تحويل الفائض إلى مجال روحي بديل عن الحرب.
آليات تبديد الفائض
المجتمع | آلية الإنفاق | الشكل | الهدف الرئيسي |
---|---|---|---|
الأزتيك | التضحية البشرية | طقوسي/ديني | تبديد فائض الأسرى والموارد |
هنود البوتلاتش | حرق الثروة | تنافسي/اجتماعي | كسب الهيبة |
الإسلام المبكر | الفتوحات الحربية | عسكري/توسعي | تفجير الفائض عبر العنف |
اللامية التبتية | الحياة الرهبانية | روحي/غير منتج | تحويل الطاقة إلى تأمل |
الفائض والرغبة
1. إنفاق غير منتج
يربط بين الطاقة الفائضة والممارسة الجنسية غير الإنجابية، فهي:
تبديد للطاقة الحيوية: لا تخدم البقاء أو الإنتاج.
تجربة سيادية: تحرر الفرد من منطق المنفعة.
2. التابو والانتهاك
المجتمعات تفرض قيوداً على الجنس غير الإنجابي (الزنا، المثلية، البهيمية) لأنها تهدد النظام المنتِج.
لكن هذه الممارسات تظل قناة أساسية لتفريغ "الحصة الملعونة"، خاصةً عندما تصل لدرجة التجاوز المقدس (مثل طقوس الديونيسية في اليونان القديمة).
"الإيروتيكية هي في الزمن ما يكون النمر في الفضاء" — باتاي.
ضد عالم العمل
1. السيادة في العصور التقليدية
يصور الشخصية السيادية (الملك، الكاهن، السيد الإقطاعي) بأنها:
لا تعمل: العمل عكس السيادة.
تنفق ببذخ: تقيم القصور، الاحتفالات، الحروب لتبديد الفائض.
تعيش في الحاضر: ترفض التراكم لصالح اللحظة الآنية.
2. الثورات الحديثة وتدمير السيادة
الثورات البرجوازية والاشتراكية دمرت النخب التقليدية (الملوك، الإقطاعيين) باسم المساواة والمنفعة.
لكنها استبدلتهم بـسيادة مزيفة:
الرأسمالي: يتراكم لكنه لا ينفق.
البيروقراطي الشيوعي: يخطط للإنتاج لكنه يُنكر الحاجة للتبديد.
النتيجة: قمع قنوات الإنفاق الباذخ، مما يزيد خطر تحول الفائض إلى حروب أو أزمات.
3. السيادة في العصر الحديث
باتاي يدعو لاستعادة "السيادة الحقيقية" عبر:
الفنون: كإنفاق غير منتج.
المجتمعات اللاطائفية: ترفض منطق العمل.
التضامن الدولي: مثل مشروع مارشال الأمريكي (1948)، الذي يُعد مثالاً على تحويل الفائض الاقتصادي إلى هبات بدلاً من الحرب .
"السعادة الحقيقية لا تأتي إلا بالإنفاق بلا غاية" — باتاي.
التأثير الفكري والانتقادات
1. التأثير على المفكرين
سارتر: أشاد بتحليل باتاي للتبذير كـ"وظيفة اقتصادية".
دولوز وغواتاري: استخدما فكرة "الإنفاق الفائض" في كتابهما "ضد أوديب".
رينيه جيرار: طوّر مفهوم التضحية في "العنف والمقدس" متأثراً بباتاي.
2. الانتقادات
الإفراط في التعميم: اتهامه باختزال تنوع المجتمعات في نموذج واحد (التبديد).
التبسيط التاريخي: مثلاً، قراءته لـ"البوتلاتش" تجاهلت وظائفها الاجتماعية المعقدة.
تأييد الستالينية: اتهمه بعض النقاد بتبريره للعنف السوفييتي كشكل من "الإنفاق الحتمي".
خلاصة: إرث "الحصة الملعونة" في عالم اليوم
1. تشخيص الأزمات المعاصرة
الرأسمالية الاستهلاكية: تحوّل التبذير إلى سلعة (مثل التسوق كترفيه)، لكنها تبقى داخل دائرة الإنتاج.
الأزمات البيئية: نتيجة لتراكم الفائض دون قنوات تبديد آمنة.
الحروب الحديثة: أكثر أشكال "الإنفاق الكارثي" كلفةً.
2. الحلول الباتايّة المقترحة
إعادة توجيه الفائض: تحويله لفنون، بحث علمي غير هادف، احتفالات جماعية.
السيادة الديمقراطية: جعل التبذير الإبداعي حقاً للجميع، لا امتيازاً للنخب.
النظام العالمي: تطبيق "اقتصاد عام" كوكبي يُنظّم تدفق الفائض بين الأمم.
"جهلنا لا يُنتج إلا هذا: نجعل أنفسنا نعاني ما يمكننا إنجازه بطريقتنا لو كنا نفهم" — باتاي.
ملخصا
" نقدا أنثروبولوجياً-فلسفي لجوهر الحضارة. يذكرنا باتاي بأن:
التبذير ليس هامشياً، بل مركزياً في توازن الأنظمة.
الخيار ليس بين الإنفاق وعدمه، بل بين إنفاقٍ إبداعي يُثري الحياة، وإنفاقٍ مدمر يهدمها.
الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على تبديد الفائض بلا خوف أو حساب.
في عصر يواجه أزمات وجودية (من الحرب إلى التلوث)، يقدم باتاي إطاراً لفهم جذور الهدر وسبل تحويله من لعنة إلى بركة
0 تعليقات