المؤسسة الخيالية للمجتمع

المؤسسة الخيالية للمجتمع

 

 "المؤسسة التخيلية للمجتمع" لكورنيليوس كاستورياديس 

الكاتب والكتاب

صدر  (The Imaginary Institution of Society) للفيلسوف اليوناني-الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس (1922-1997) بالفرنسية عام 1975، وترجم للإنجليزية عام 1987. 

يعد العمل الأهم في مسيرته وأحد الأعمال الأكثر جرأة في الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر .

 جاء الكتاب نتيجة تطور فكري بدأه  كناشط ماركسي منشق، حيث شارك في تأسيس مجموعة "الاشتراكية أو البربرية" (Socialisme ou Barbarie) التي انتقدت بيروقراطية الاتحاد السوفيتي والماركسية التقليدية .

 يقدم نقداً جذرياً للمادية التاريخية ويطرح بديلاً قائماً على فكرة "التخيل الجذري" (Radical Imaginary) كقوة محركة للتغيير الاجتماعي والتاريخي.

المجتمع كخلق تخيلي

يكمن الإسهام الثوري له في تحدي الفكرة السائدة بأن المجتمع نتاج عوامل مادية أو بيولوجية أو عقلانية محضة.

بدلاً من ذلك، يطرح أن المجتمع "مؤسسة تخيلية" تنبثق من "المعاني التخيلية الاجتماعية" (Social Imaginary Significations) التي يخلقها البشر جماعياً:

  • التخيل الجذري: قدرة بشرية فطرية على خلق أشكال وأنماط غير موجودة سابقاً في الطبيعة أو العقل . مثال: النقود ليست مجرد ورق أو معدن، بل قيمة متخيلة يتشارك فيها المجتمع .

  • المعاني التخيلية الاجتماعية: تشكل هذه المعاني النواة الرمزية للمجتمع (مثل الديمقراطية، الربح، الله، الأمة). ليست انعكاساً للواقع المادي، بل قوى خلاقة تُنتج الواقع الاجتماعي.

  • الخلق الوجودي (Ontological Creation): المجتمع لا "ينتظم" تلقائياً بل يُخلق من العدم (ex nihilo) عبر التخيل الجمعي. هذا الخلق ليس في فراغ (in nihilo) ولا من لا شيء (cum nihilo)، بل يستند إلى سياق تاريخي.

"ما لا نجده في تاريخ الفكر هو ما أسميه التخيل الاجتماعي المؤسس... لا يمكن 'تفسير' المجتمع أو مسار التاريخ بعوامل طبيعية أو بيولوجية، ولا بالنشاط 'العقلاني' لكائن 'عقلاني' (الإنسان)."

نقد الماركسية 

يخصص كاستورياديس جزءاً كبيراً من الكتاب لنقد الماركسية التقليدية، مركزاً على ثلاث ثغرات:

  1. الحتمية الاقتصادية: رفض فكرة أن البنى الفوقية (الثقافة، السياسة) مجرد انعكاس للعلاقات الاقتصادية.

  2. إغفال التخيل: تجاهل الماركسية لدور الخيال الجمعي في تشكيل التاريخ، معتمدة على "قوانين تاريخية" حتمية.

  3. بيروقراطية الاشتراكية: تحول الاشتراكية إلى أنظمة بيروقراطية قمعية، مما يدحض مزاعمها التحررية.

مستويات الواقع الاجتماعي: الوظيفي، الرمزي، التخيلي

يشرح كيف تُبنى المجتمعات عبر ثلاث طبقات متداخلة:

المستوىالمحتوىأمثلة
الوظيفيالهياكل العملية والتنظيميةالقوانين، المؤسسات، الأنظمة الإدارية
الرمزيالطقوس والرموز الثقافيةالأعلام، الأعياد، الشعارات، اللغات
التخيليالمعاني المشتركة والافتراضات الضمنيةفكرة "النمو اللامحدود"، "الحرية الفردية"، "المقدس"

مشروع التحرر

يُعد ثنائية الاستقلالية (Autonomy) والتبعية (Heteronomy) قلب المشروع السياسي:

  • المجتمعات التبعية: تُنسب فيها القوانì والمؤسسات إلى مصدر خارجي (الآلهة، الطبيعة، السوق، التاريخ الحتمي). مثال: الرأسمالية التي تقدم السوق كـ"قانون طبيعي".

  • المجتمعات المستقلة: تدرك أن مؤسساتها من صنع البشر، فتمارس التأسيس الذاتي الواعي (Explicit Self-Institution). التاريخ عرف حالتين فقط: أثينا الديمقراطية وأوروبا الحديثة.

  • الديمقراطية الجذرية: ليست مجرد آليات انتخابية، بل نظاماً يتأسس على:

    • المشاركة المباشرة في صنع القرار.

    • المساءلة المستمرة للمؤسسات.

    • تفكيك التراتبيات البيروقراطية.

الفوضى الخلاقة

يطور أنطولوجيا خاصة لتدعيم نظريته، أبرز مفاهيمها:

  • الصهارة (Magma): تشبيه جيولوجي يصور الوجود ككتلة منصهرة من الإمكانيات، لا تخضع لمنطق تحديدي. المجتمع كـ"صهارة" يعني أنه غير محدّد سلفاً وقابل لإعادة التشكيل.

  • الفوضى (Chaos): الأصل الوجودي للكون، الذي تحاول المؤسسات الاجتماعية "تغطيته" عبر خلق معانٍ (مثل الدين، الفن، العلم). الموت مثال على "القناة" التي ينفذ منها الفوضى إلى العالم المنظم.

  • المنطق المجموعاتي-الهووي (Ensemblistic-Identitary Logic): منطق رياضي يحاول تطويق "الصهارة" بخلق أنظمة مغلقة (مثل الرأسمالية، الأيديولوجيات الشمولية).

 أزمات العصر 

يرى بأن المجتمعات الحديثة تعاني من أزمة تخيلية عميقة:

  • هيمنة التخيل الرأسمالي: سيطرة قيم "التوسع اللامحدود" و"السيطرة العقلانية الزائفة" و"الاستهلاك من أجل الاستهلاك".

  • تفكك المعاني: فقدان المجتمعات الغربية لمعانيها التأسيسية (التقدم، العقلانية)، دون استبدالها ببديل .

  • الثورة التخيلية: الحل ليس في إصلاح مؤسساتي فحسب، بل في إحياء التخيل الجذري عبر:

    • الفن: كفضاء لاستكشاف بدائل وجودية.

    • التعليم: تنمية النقد والتفكير المستقل.

    • الحركات الاجتماعية: كمعامل لتجريب مؤسسات جديدة.

"نحن عند مفترق طرق في التاريخ... طريق يؤدي إلى فقدان المعنى، تكرار أشكال فارغة، اللامبالاة. الطريق الآخر يتطلب صحوة اجتماعية، نهضة، انبثاق جديد لمشروع الاستقلالية.

 كاستورياديس وبولاني

يُقارن تحليله غالباً بنظرية كارل بولاني حول "التضمين الاجتماعي للاقتصاد":

  • أوجه التشابه:

    • رفض اختزال المجتمع في الاقتصاد.

    • نقد "الإنسان الاقتصادي" (Homo Economicus).

    • التأكيد على دور الثقافة في تشكيل الاقتصاد.

  • الاختلافات:

    • بولاني يركز على "تضمين" الاقتصاد في العلاقات الاجتماعية.

    • كاستورياديس يرى الاقتصاد نفسه كمؤسسة تخيلية، لا كقطاع "مادي" يُضمن في المجتمع.

 النقد

رغم ثورية الكتاب، فقد واجه انتقادات:

  • ضبابية المفاهيم: اتهام "التخيل" و"الصهارة" بالغموض.

  • إهمال البنية: اتهامه بالتخفيف من دور العوامل المادية.

  • المثالية الأثينية: تبني صورة رومانسية عن الديمقراطية الإغريقية.

رغم ذلك، ظل إرث الكتاب عميقاً:

  • التأثير الأكاديمي: أثر على هابرماس، أرنسون، ومدارس ما بعد الحداثة.

  • التأثير السياسي: ألهم حركات اجتماعية مثل "احتلوا وول ستريت" و"السترات الصفراء".

  • المساهمات المتجددة: تحليله لأزمات البيئة، التكنولوجيا، والهوية يجعله مرجعاً في القرن 21.

استعادة الخلق في التاريخ

يختتم  بأن التاريخ ليس مساراً حتمياً بل عملية "شِعْرَنَة" (Poiesis)، أي خلق وجودي مستمر.

 البشر ليسوا دمى تحركها قوى مادية أو تاريخية، بل مخلوقات تخيلية قادرة على إعادة اختراع عالمها.

 هذا ليس تفاؤلاً ساذجاً، بل دعوة لاستعادة المسؤولية الجمعية عن المصير المشترك. في عصر الأزمات المترابطة (المناخ، الديمقراطية، التكنولوجيا)، يذكرنا بأن الحلول لن تأتي من "قوانين التاريخ" أو "السوق"، بل من جرأتنا على تخيل مؤسسات جديدة تعيد تشكيل وجودنا المشترك.

"التحدي ليس فهم كيفية تخيل المجتمع للوجود، بل المشاركة بوعي في خلقه المستمر."


 تطور مفاهيم كاستورياديس

المفهومالمصطلح التقليديإسهام كاستورياديس
التخيل الجذريالخيال (كمهارة ثانوية)قدرة أنطولوجية على الخلق الوجودي
المعاني التخيليةالأيديولوجيا (كدعاية كاذبة)قوة تأسيسية للواقع الاجتماعي
المؤسسة التلقائيةالمؤسسة (كهيكل ثابت)عملية ديناميكية قابلة لإعادة التشكيل
الاستقلاليةالحرية السلبية (كمفهوم ليبرالي)نظام للتأسيس الذاتي الجمعي الواعي

إرسال تعليق

0 تعليقات