"قرية ستيبانتشيكوفو" لدوستويفسكي
سخرية من الاستبداد والنفاق الاجتماعي
السياق التاريخي والأدبي
شكَّلت رواية "قرية ستيبانتشيكوفو وسكانها" (نُشرت عام 1859) عودةً أدبيةً رمزيةً لـفيودور دوستويفسكي بعد محنته في سجن الأشغال الشاقة بسيبيريا ونفيه القسري لمدة عشر سنوات .
كُتبت الرواية في فترة حرجة من حياة الكاتب، حيث كان يعاني من عزلة أدبية وضائقة مالية، مما دفعه إلى وصف الأجر الذي تلقاه مقابل نشرها بـ"المهين" .
على عكس أعماله الفلسفية العميقة مثل "الجريمة والعقاب" أو "الإخوة كارامازوف"، اتخذت هذه الرواية منحىً هجائيًا ساخرًا، حيث اعترف دوستويفسكي في رسالة لأخيه بأنه لم يكن مقتنعًا بها في البداية، لكنه تفاءل لاحقًا بأنها قد تصبح من أفضل أعماله .
تُعد الرواية تجربة فريدة في مسيرته، تجمع بين الكوميديا السوداء والنقد الاجتماعي الجارح للمجتمع الروسي في القرن التاسع عشر.
الحبكة اوالشخصيات
تدور الأحداث في إقطاعية ريفية روسية، يرويها الشاب سرغي ألكسندروفيتش الذي يستدعيه عمه الكولونيل إيغور إيليتش روستانيف للإقامة في قريته ستيبانتشيكوفو .
ما يكتشفه سرغي هو نظام استبدادي هزالي تُهيمن عليه شخصيتان رئيسيتان:
فوما فوميتش أوبيسكين: مشعوذ دجال في منتصف العمر، يتحول من مهرج مهان إلى طاغية نفسي يسيطر على العائلة. يدعي الفضيلة والعلم (يزعم تأليف كتاب عن "الأخلاق السامية") بينما يُجبر الخدم على تعلّم الفرنسية ويمنعهم من ممارسة الرقصات الروسية الشعبية .
الأم الأرملة (كريستينا أندريفنا): أم إيغور المتسلطة التي تمنح فوما سلطة غير محدودة بسبب إعجابها بادعاءاته الأخلاقية والدينية .
تتصاعد الأحداث حين يطلب إيغور من سرغي الزواج من ناستينكا، الفتاة الفقيرة الطيبة التي يحبها سراً، لكن فوما يُصدر "فتوى" بإجبار إيغور على الزواج من تاتيانا إيفانوفنا، امرأة ثرية لكنها متخلفة عقلياً .
تتشابك المؤامرات عندما يخطط المغامر ميزينتشيكوف لخطف تاتيانا للاستيلاء على ثروتها، بينما يختطفها بالفعل أوبنوسكين بتشجيع من أمه .
تبلغ الذروة عندما يكتشف فوما لقاءات سرية بين إيغور وناستينكا، فيُشعل أزمة أخلاقية مفتعلة يغادر على إثرها القرية، ليعود بعد توسلات السكان ويوافق على زواجهما – لكن بنوايا خبيثة مستترة .
التحليل النفسي والاجتماعي
1. فوما فوميتش: تشريح النفاق
يمثل فوما الاستبداد المقنّع بالورع، حيث يحوّل إهانته السابقة (كـ"مهرج" لدى الجنرال كراوتكوب) إلى رغبة انتقامية في السيطرة . سلوكه يُجسّد ازدواجية الإنسان الشرس وفق رؤية دوستويفسكي:
التلاعب العاطفي: يستخدم خطاباً أخلاقياً رناناً لابتزاز إيغور ("أنا أغفر لك كمُسيح، لكنك دمرت مساواتنا الروحية!") .
الانتهازية الطبقية: يُحرّم على الخدم التعبير عن هويتهم الثقافية (الرقص الروسي) بينما يُظهر احتقاراً مخفياً للنبلاء .
2. إيغور روستانيف: ضحية العطاء المرضي
تجسيد لـالإنسان الوديع الذي يصل تسامحه إلى حدّ الانتحار الأخلاقي . تناقضاته تكشف تناقضات المجتمع:
النبيل المُفترس الذي يتحوّل إلى ضحية: يملك "نفوساً" (قنانة) لكنه يُستعبد نفسياً بيد دجال .
التضحية كشكل من أشكال الأنانية: يتخلى عن حب ناستينكا لإرضاء فوما، لكنه في النهاية يثور عندما تهدد سيطرة فوما كرامة الآخرين .
3. تاتيانا إيفانوفنا: الثراء كلعنة
شخصية تراجيكوميدية تفضح هوس المجتمع بالمال. ثروتها تجعلها غنماً للمتآمرين (ميزينتشيكوف، أوبنوسكين) بينما تجاهلها فوما عند اكتشافه حب إيغور لناستينكا الفقيرة يؤكد نفاقه .
المحيط الأيديولوجي والاجتماعي
1. نقد الاستبداد الروسي
يُحيل دوستويفسكي إلى نظام القنانة (الإقطاعي) عبر استعارة "امتلاك النفوس" . فوما هو قيصر مصغّر يفرض قوانين عبثية (مثل منع الدخان أو إجبار الخدم على الفرنسية) كسخرية من قيصرية نيكولاي الأول .
2. ازدراء النخب الزائفة
ينتقد دوستويفسكي:
تغريب النخبة: هوس فوما بالثقافة الفرنسية يُظهر انفصال النخبة عن الشعب .
ديناميكيات الطفيليات: يصور الكاتب "حاشية" فوما (مثل الكاتب فيدوسيك، المغنية بريبرايجن) كمجتمع طفيلي يزدهر بالتملق .
3. المؤسسة الأسرية الفاسدة
الأم تمثل السلطة التقليدية الفارغة التي تتخلى عن مسؤولياتها لصالح دجال. العلاقات الأسرية تُختزل في صفقات زواج (زواج إيغور من تاتيانا لـ"تصحيح" وضعها الاجتماعي) .
الخصائص والاساليب الفنيه
1. البنية الدرامية المسرحية
اعترف دوستويفسكي بأنه خطط في الأصل لكتابة مسرحية كوميدية . هذا يتجلى في:
تقسيم الفصول كمشاهد مسرحية: كل فصل يركز على مواجهة درامية (مثل مشهد خطاب فوما الهستيري في الفصل 7).
الحوار كأداة سرد رئيسية: 80% من النص حوارات تكشف الشخصيات من خلال خطابها المباشر .
2. السخرية كسلاح نقدي
يستخدم دوستويفسكي الكوميديا السوداء لتفكيك النفاق:
تهويل خطابات فوما: يتحدث عن "التأله الأخلاقي" بينما يصرخ في الخدم لأخطاء تافهة .
مشاهد كاريكاتورية: مثل إجبار الخدم على ترديد عبارات فرنسية بينما هم أميّون .
3. الثنائيات كإطار فلسفي
يُكرس دوستويفسكي ثنائيته الشهيرة:
الوداعة vs الشراسة: إيغور (المنصهر أخلاقياً) مقابل فوما (المتغطرس) .
الحلم vs الواقع: تظهر في هروب تاتيانا مع خاطفها كتمثيل لانفجار الأوهام .
مكانة الرواية في مسيرة دوستويفسكي وتقبل النقاد
1. جسر بين مرحلتين إبداعيتين
تمثل الرواية نقلة فنية بين أعماله المبكرة (مثل "الفقراء") والأعمال العظيمة اللاحقة:
التجريب الكوميدي: هي الأقرب لأسلوب غوغول الساخر (مثل "النفوس الميتة") .
بذور المواضيع اللاحقة: شخصية فوما تُعد نموذجاً أولياً لـ"الرجل السفلي" في "مذكرات قبو" و"الرذيلة" في "الأبله" .
2. التقبل النقدي المتناقض
في عصر دوستويفسكي: رفضتها مجلة "الرسول الروسي" المرموقة، ونشرتها مجلة "المعاصر" الليبرالية بأجر زهيد .
قراء معاصرون: ينتقد البعض "سطحيتها" مقارنة ببقية أعماله، بينما يرى آخرون أنها "تحفة الكوميديا الدوستويفسكية" . قال أحد القراء: "لم أستشعر روح دوستويفسكي المعتادة في تحليل النفوس" ، بينما أشاد آخر بـ "الحوارات الذكية والبنى المسرحية المتقنة" .
3. إرث الرواية الثقافي
تأثير في المسرح والسينما: تحولت إلى مسرحيات في روسيا وأوروبا، وأُنتج فيلم سوفيتي مقتبس عنها (1959).
دراسات ما بعد الاستعمار: تُحلل كنقد مبكر لـ"استعارة المستبد المستنير" في المجتمعات المتخلفة .
ملخصا
"قرية ستيبانتشيكوفو" هي مرآة لأمراض العصر: الاستبداد المُقنَّع بالخطاب الأخلاقي، وانفصال النخب، وعبادة المظاهر.
شخصية فوما فوميتش ليست مجرد شرير كوميدي، بل هي نموذج أولي للطغاة الجدد الذين يحكمون بالعواطف والخطابات الزائفة. رغم اختلافها الأسلوبي، تثبت الرواية أن دوستويفسكي كان فيلسوفاً للسلطة قبل أن يكون روائياً.
كما كتب أحد النقاد في سياق مقارنتها بأعماله الأخرى: "هنا يقدم دوستويفسكي جرعة مخففة لمدمنيه، لكنها جرعة تكشف عظام المجتمع البشري العفنة" .
اقرأ ايضا
0 تعليقات