Power: A Radical View
"السلطة: رؤية راديكالية" لستيفن لوكس
الكتاب وأهميته
يُعتبر كتاب "السلطة: رؤية راديكالية" (Power: A Radical View) للفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني ستيفن لوكس أحد الأعمال الأساسية في دراسة نظرية السلطة في العلوم السياسية والاجتماعية.
نُشر الكتاب لأول مرة عام 1974، ثم أعيد إصداره في طبعات منقحة وموسعة في عامي 2005 و2021، حيث أضاف لوكس ردوداً على نقاده واستجابة للتطورات الفكرية اللاحقة.
الهدف الرئيسي للكتاب هو تقديم نقد جذري للنظريات السائدة حول السلطة، وخاصة المنظور التعددي (البلورالي)، وتطوير إطار نظري أكثر عمقاً وشُمولاً لفهم كيفية عمل السلطة في المجتمعات.
يجادل لوكس بأن معظم التحليلات التقليدية للسلطة سطحية ومحدودة، لأنها تركز فقط على الجوانب الظاهرة والمرئية للسلطة، متجاهلة الأبعاد الخفية والأكثر فعالية التي تشكل وعي الأفراد وتصوراتهم
مما يجعلهم يقبلون الأوضاع الاجتماعية والسياسية كما هي، حتى لو كانت ضد مصالحهم الحقيقية.
السياق الفكري والنقاش السائد حول السلطة
لفهم إسهام لوكس، يجب النظر إلى السياق الفكري الذي كتب فيه. في منتصف القرن العشرين، ساد في العلوم السياسية، وخاصة في الولايات المتحدة، المنظور "التعددي" للسلطة.
كان أبرز ممثلي هذا التيار روبرت دال، الذي درس صنع القرار في مجتمع محلي (نيو هيفن) وخلص إلى أن السلطة موزعة بين مجموعات متنافسة وليست حكراً على نخبة واحدة.
وفقاً لهذا الرأي، تُفهم السلطة من خلال مراقبة من يفوز ومن يخسر في الصراعات الظاهرة حول صنع القرارات بشأن القضايا السياسية المطروحة.
في المقابل، قدم منظرو نظرية النخبة، مثل سي. رايت ميلز، نقداً لهذا الرأي، مؤكدين أن السلطة تتركز في أيدي نخبة صغيرة ومتماسكة من الأثرياء وقيادات الجيش والسياسيين الذين يتخذون القرارات المصيرية.
يرى لوكس أن كلا المدرستين، رغم اختلافهما، تشاركان في قصور جوهري: كلتاهما تركزان على السلوك الظاهر والصراعات الملموسة في عملية صنع القرار.
هنا، يقدم لوكس فكرته الأساسية: أن أقوى أشكال السلطة هي تلك التي تمنع الصراع من الظهور أصلاً.
الأبعاد الثلاثة للسلطة: الإطار النظري للوكس
يُشتهر كتاب لوكس بتقديمه نموذجاً ثلاثي الأبعاد للسلطة، حيث يضيف بُعداً ثالثاً أعمق على البعدين اللذين كانا معروفين سابقاً.
البعد الأول: سلطة صنع القرار (القوة الظاهرة)
هذا هو البعد الأكثر وضوحاً وتقليدية. وهو يركز على القدرة على التأثير في القرارات لصالح الشخص أو المجموعة، خاصة في حالات الصراع الظاهر حول قضية ما.
المثال الكلاسيكي هو التصويت في البرلمان أو اتخاذ قرار في شركة. المنهج السائد لدراسة هذا البعد هو المنهج السلوكي، الذي يرصد من يشارك في صنع القرار، من يؤثر فيه، ومن يحقق مكاسب من نتائجه. هذا هو البعد الذي ركز عليه التعدديون مثل روبرت دال.
البعد الثاني: سلطة تحديد جدول الأعمال (إخفاء الصراع)
هذا البعد يتجاوز مرحلة صنع القرار إلى مرحلة سابقة لها، وهي مرحلة وضع "جدول الأعمال". هنا، تمارس الجماعات المسيطرة سلطتها من خلال منع بعض القضايا المثيرة للجدل من أن تصل إلى طاولة النقاش وصنع القرار أصلاً. يتم ذلك عبر آليات مثل:
إبقاء بعض المشاكل خارج دائرة الضوء.
خلق حواجز بيروقراطية أو مؤسسية تعيق طرح قضايا معينة.
استخدام التهديدات غير المباشرة أو التكلفة الاجتماعية لثني الجماعات عن المطالبة بحقوقها.
مثال على ذلك: عندما تهدد مجموعة مصالح قوية بمغادرة البلاد أو سحب استثماراتها إذا تم حتى مناقشة قانون يزيد من ضرائبها، مما يدفع السياسيين إلى تجنب طرح الموضوع من الأساس.
هذا البعد تم تطويره بشكل رئيسي من قبل بيتر باخرات ومورتون باراتز كرد على التعدليين. النقد هنا هو أن التعدليين يرون فقط "من يفوز" في اللعبة، لكنهم يتجاهلون "من يتحكم في قواعد اللعبة" ويقرر أي القضايا ستدخل الملعب وأيها سيستبعد.
البعد الثالث: سلطة تشكيل الوعي والرغبات (الهيمنة الخفية)
هذا هو البعد الأكثر راديكالية وإبداعاً في طرح لوكس، وهو يمثل جوهر "الرؤية الجذرية".
هنا، لا تنشأ السلطة من خلال فرع القرارات أو حتى منع القضايا من الطرح، بل من خلال القدرة على تشكيل مفاهيم الناس ورغباتهم وتصوراتهم لما هو ممكن أو مرغوب فيه، بحيث لا يشعرون أصلاً بعدم الرضا أو الظلم،
وبالتالي لا تنشأ أي رغبة في الاحتجاج أو الصراع.
تعمل هذه السلطة عبر:
الأيديولوجيا: تبني نظام من المعتقدات والقيم التي تبرر الوضع القائم وتجعله يبدو طبيعياً أو حتمياً.
التربية والتنشئة الاجتماعية: غرس قمع معينة منذ الصغر.
الإعلام والثقافة الشعبية: نشر narratives تخدم مصالح القوى المسيطرة.
اللغة والمفاهيم: السيطرة على الخطاب السائد وتحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول.
المثال الأبرز الذي يقدمه لوكس هو مفهوم "المصالح الحقيقية" مقابل "المصالح الذاتية المعلنة". فالإنسان قد يعلن أنه راضٍ عن وضعه (مثل عامل فقير يعتقد أن النظام الاقتصادي عادل)، ولكن هذا الرضا ناتج عن تأثير أيديولوجي خفي. مصلحته "الحقيقية" قد تكون في تغيير هذا النظام، لكنه لا يدرك ذلك بسبب تشكيل وعيه. وبالتالي، فإن غياب الشكوى أو الصراع ليس دليلاً على غياب القمع، بل قد يكون دليلاً على نجاعة آلية القمع ذاتها.
النقد والتحديات التي واجهت نموذج لوكس
واجه نموذج البعد الثالث للسلطة انتقادات كبيرة، وأهمها:
مشكلة المعيارية: من يحدد ما هي "المصالح الحقيقية" للأفراد؟ يبدو أن لوكس يفترض أن المحلل الاجتماعي (مثل نفسه) يعرف مصلحة الشخص أكثر من الشخص نفسه، مما يفتح الباب لتسلط النخبة المثقفة وفرض رؤيتها.
صعوبة الإثبات التجريبي: كيف يمكن للباحث أن يثبت وجود هذه السلطة الخفية علمياً؟ إذا كان الدليل على السلطة هو غياب الصراع، فك نفرق بين مجتمع يسوده الهدوء بسبب الرضا الحقيقي، ومجتمع يسوده الهدوء بسبب الهيمنة الأيديولوجية؟ يعترف لوكس بهذه المشكلة ويشير إلى ضرورة استخدام التحليل المضاد للواقع (ماذا كان سيفعل الناس لو كانوا يعرفون مصالحهم الحقيقية؟)، لكن هذا يبقى منهجاً صعباً.
اتساع المفه�: بجعله السلطة تشمل كل شيء (الثقافة، اللغة، التربية)، قد يفقد المفهوم دقته التحليلية ويصبح غامضاً وغير قابل للتطبيق العملي.
تطور أفكار لوكس في الطبعات اللاحقة
في طبعات الكتاب المنقحة، وخاصة طبعة 2005، استجاب لوكس لبعض هذه الانتقادات وناقش تطورات نظرية السلطة، ولا سيما أعمال ميشيل فوكو. اتفق لوكس مع فوكو على أن السلطة منتشرة في كل مكان وليست متمركزة في مؤسسات الدولة فقط، وأنها تعمل عبر شبكات المعرفة والخطاب.
لكنه انتقد فوكو لأن نظريته، برأيه، تذوب السلطة في كل شيء فتفقد القدرة على إدانة ممارسات سلطوية محددة أو تحديد من يستفيد منها. حافظ لوكس على موقفه بأن النظرية النقدية للسلطة يجب أن تحتفظ ببعد أخلاقي يمكّنها من فضح علاقات الهيمنة والدفاع عن مصالح المقهورين.
الكتاب وأهميته المستمرة
رغم الانتقادات، يبقى كتاب "السلطة: رؤية راديكالية" عملاً مؤسساً وأساسياً. لقد وسع النقاش حول السلطة بشكل غير مسبوق، مجبراً الباحثين على النظر beyond "ما خلف" السياسة الظاهرة والغوص في أعماق الآليات الاجتماعية والثقافية التي تحافظ على الاستقرار والهيمنة.
يستخدم إطار لوكس الثلاثي على نطاق واسع اليوم لتحليل ليس فقط السلطة السياسية، ولكن أيضاً علاقات الهيمنة based على النوع الاجتماعي (الجندر)، العرق، الطبقة، وفي تحليل خطاب الإعلام وثقافة الاستهلاك.
لقد نجح لوكس في تقديم أداة تحليلية قوية تثير أسئلة حرجة حول طبيعة "الرضا" و"الإجماع" و"الشرعية" في أي نظام اجتماعي
0 تعليقات