الهروب الكبير

الهروب الكبير

 

The Great Escape: Health, Wealth, and the Origins of Inequality

 "الهروب الكبير: الصحة، الثروة، وأصول عدم المساواة" لأنغوس ديتون

 الكتاب والمؤلف

أنغوس ديتون هو اقتصادي اسكتلندي-أمريكي حائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 2015 عن تحليله للاستهلاك والفاقة والرفاهية. 

يشغل منصب أستاذ الاقتصاد والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وهو معروف بأبحاثه الرائدة في مجال الاقتصاد التنموي وقياس الفقر يُعد كتابه "الهروب الكبير: الصحة، الثروة، وأصول عدم المساواة" (الصادر عام 2013) من الأعمال المؤثرة التي تقدم رؤية شاملة للتقدم البشري والتحديات المصاحبة له.

يستعرض الكتاب التقدم المذهل الذي أحرزته البشرية في مجالي الصحة والثروة على مدى الـ250 عاماً الماضية، لكنه يسلط الضوء أيضاً على كيفية توليد هذا التقدم لأنماط عميقة من عدم المساواة داخل الدول وبينها.
يستخدم ديتون منهجاً قائماً على التحليل التاريخي والاقتصادي لفهم كيفية "هروب" بعض المجتمعات من براثن الفقر والمرض، بينما بقيت مجتمعات أخرى عالقة في دوامة التخلف.

الإطار النظري والمنهجي للكتاب

يعتمد ديتون على تحليل البيانات الاقتصادية والتاريخية الطويلة الأمد لتتبع اتجاهات الصحة والثروة على مستوى العالم. يمزج بين السرد القصصي والعرض الكمي، مستخدماً مؤشرات مثل متوسط العمر المتوقع، الدخل الفردي، معدلات وفيات الأطفال، ومقاييس الفقر لرسم صورة واضحة عن التقدم وعدم المساواة.

يتميز منهجه بالنقد الذاتي للبيانات والإحصاءات، حيث يشرح بدقة حدود ومشاكل القياس في المؤشرات مثل الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط العمر المتوقع. فهو يوضح كيف أن هذه المقاييس، رغم فائدتها، قد تخفي تفاوتات عميقة داخل المجتمعات نفسها.

أبرز الأفكار

الحياة والموت - التقدم الصحي وأصول عدم المساواة

 تحسن الصحة على المستوى العالمي

يبدأ ديتون بتوثيق التحسن الهائل في الصحة على مستوى العالم. يشير إلى أن متوسط العمر المتوقع عالمياً ارتفع بشكل كبير، حيث تقلصت معدلات وفيات الأطفال والأمهات بشكل ملحوظ. يعزو هذا التحسن إلى ثلاثة عوامل رئيسية:

  1. التقدم في المعرفة العلمية: خاصة اكتشاف نظرية الجراثيم كسبب للأمراض المعدية، مما مهد الطريق لتطوير اللقاحات والمضادات الحيوية ومبيدات الحشرات.

  2. تحسين التغذية: ساهم ارتفاع الدخل والقدرة على شراء الطعام في تحسين الحالة الغذائية لمليارات الناس، مما عزز مناعتهم وقدرتهم على مقاومة الأمراض.

  3. تحسين الصرف الصحي والمياه النظيفة: كانت استثمارات الحكومات في البنية التحتية للصحة العامة (كمعالجة المياه وتصريف النفايات) عاملاً حاسماً في خفض انتشار الأمراض المعدية.

 التحسن في متوسط العمر المتوقع على مستوى العالم:

الفترة الزمنيةمتوسط العمر المتوقع العالمي (تقريبي)العوامل الرئيسية المساهمة
أوائل القرن 20~30-40 عاماًبداية تطبيق نظرية الجراثيم، تحسن أولي في الصرف الصحي
منتصف القرن 20~50-60 عاماًانتشار المضادات الحيوية، تحسن التغذية، برامج التلقيح
أوائل القرن 21~70-80 عاماًتقدم في الطب الوقائي وعلاج الأمراض المزمنة

عدم المساواة في الصحة

رغم التحسن العام، يؤكد ديتون أن الفجوات الصحية بين الدول والأفراد لا تزال هائلة. فمثلاً، معدلات وفيات الأطفال في بعض أفقر دول أفريقيا لا تزال أعلى مما كانت عليه في الدول الغنية منذ قرن من الزمان
 يشرح ديتون أن التقدم الصحي يخلق عدم مساواة في البداية، حيث أن التقنيات والعلاجات الجديدة غالباً ما تكون باهظة الثمن ومتاحة أولاً للأثرياء أو لسكان الدول الغنية.
فقط مع مرور الوقت وانتشار المعرفة وتدخل الحكومات، تبدأ هذه الابتكارات في الوصول إلى الفئات الأوسع.

 دور المؤسسات والسياسات

يناقش ديتون هنا دور الحكومات والمؤسسات في تحقيق التقدم الصحي. ويخلص إلى أن النمو الاقتصادي وحده لا يكفي لضمان تحسن الصحة (كما تُظهر حالة الصين في بعض الفترات).

  السياسات العامة والإرادة السياسية هما العامل الحاسم. فالدول التي استثمرت في أنظمة الصحة العامة والتعليم وشجعت تطبيق المعرفة العلمية هي التي حققت أعلى قدر من التقدم.
 على العكس من ذلك، فإن الفساد وضعف المؤسسات في العديد من الدول النامية يحول دون وصول أغلب السكان إلى الخدمات الصحية الأساسية، حتى عندما تكون الحلول الطبية معروفة ومتوفرة.

المال - التقدم الاقتصادي وأصول عدم المساواة

النمو الاقتصادي والهروب من الفقر

ينتقل ديتون إلى مناقشة التقدم الاقتصادي، مسلطاً الضوء على النمو الهائل للثروة عالمياً منذ الثورة الصناعية. يشير إلى أن مئات الملايين من الناس، خاصة في الصين والهند، قد تخلصوا من براثن الفقر المدقع خلال العقود القليلة الماضية.
يعزو هذا النمو إلى عدة عوامل:

  • الابتكار التكنولوجي والتقدم العلمي.

  • انتشار التعليم وتراكم رأس المال البشري.

  • وجود مؤسسات فعالة تشجع على الاستثمار والإبداع، مثل حماية حقوق الملكية وسيادة القانون.

 اتساع فجوة عدم المساواة

 مع هذا النمو، برزت عدم مساواة اقتصادية حادة. يستعرض ديتون بيانات توضح كيف أن ثمار النمو الاقتصادي لم توزع بشكل متساوٍ.
داخل الدول، أدت عوامل مثل التغيير التكنولوجي المتحيز للمهارات (Skill-Biased Technological Change) إلى زيادة الطلب على العمالة عالية المهارة وارتفاع أجورهم، بينما تراجعت فرص وأجور العمالة قليلة المهارة.
 كما ينتقد ديتون السياسات العامة (مثل إلغاء قيود القطاع المالي والسياسات الضريبية) التي ساهمت في زيادة تركيز الثروة لدى فئة قليلة على حساب الطبقة الوسطى والعاملة.

 قياس التقدم بما يتجاوز الدخل

يؤكد ديتون على قصور الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر وحيد للرفاهية. يدعو إلى اعتماد مقاييس أوسع تأخذ في الاعتبار الصحة، التعليم، جودة الحياة، والسعادة.
 يوضح أن ارتفاع الدخل لا يؤدي بالضرورة إلى زيادةة في السعادة على مستوى الأفراد أو الدول، خاصة بعد تخطي حد معين من الدخل يلبي الاحتياجات الأساسية.

 المساعدة - دور المساعدة الدولية والسياسات

 النقد اللاذع للمساعدة الدولية

هذا هو الجزء الأكثر إثارة للجدل في الكتاب. يقدم ديتون نقداً قوياً للمساعدة الخارجية التقليدية (التي تقدمها الحكومات والمنظمات الدولية). يجادل بأن هذه المساعدة، رغم النوايا الحسنة، فشلت في كثير من الأحيان في تحقيق تنمية مستدامة أو تقليل الفقر في الدول المتلقية.
 بل يعتقد أنها قد تكون ضارة عن غير قصد من خلال:

  • إضعاف المؤسسات المحلية: إذ تقوم بالكثير من وظائف الحكومة، مما يقلل من حافزها لتحسين أدائها ومساءلتها أمام مواطنيها.

  • خلق اقتصاديات مشوهة: حيث تتدفق الأموال إلى النخب الحاكمة وتشجع على الفساد بدلا من الوصول إلى المحتاجين.

  • قتل الابتكار المحلي: من خلال إغراق الأسواق بالسلع المجانية أو المدعومة، مما يضر بالمنتجين المحليين ويعوق نمو القطاع الخاص.

يصف دي النهج القائم على مجرد ضخ الأموال بأنه "نهج هيدروليكي" (Hydraulic Approach) خاطئ، يتعامل مع الفقر كما لو كان مشكلة هندسية بسيطة يمكن حلها بضخ موارد كافية، متجاهلاً التعقيدات السياسية والمؤسسية والاجتماعية العميقة.

 بدائل للمساعدة الدولية

بدلاً من المساعدة التقليدية، يقترح ديتون بدائل تركز على تمكين الدول النامية من قيادة عملية تنميتها بنفسها. من بين هذه البدائل:

  1. دعم بناء المؤسسات الفعالة والنزيهة ومساءلة الحكومات.

  2. فتح الأسواق في الدول الغنية أمام الصادرات من الدول الفقيرة ورفع الدعم عن المنتجات المحلية التي تضر بمنافسة منتجات تلك الدول.

  3. تشجيع الابتكار وتبادل المعرفة، خاصة في مجالات الصحة والزراعة.

  4. إصلاح الحوافز المقدمة لشركات الأدوية لتشجيعها على البحث عن أمراض تهم الفقراء وتطوير أدوية ميسورة التكلفة.

الانتقادات وتلقي الكتاب

تلقى الكتاب ثناءً كبيراً على أسلوبه الواضح وجمعهِ الماهر بين التاريخ والاقتصاد والبيانات، وكذلك على شجاعة ديتون في تحدي الافتراضات السائدة حول المساعدة الدولية. إلا أنه واجه أيضاً بعض الانتقادات، أهمها:

  • عدم تقديم حلول بديلة مفصلة: حيث ركز كثيراً على نقد المساعدة الحالية دون تقديم إطار بديل شامل ومفصل لتحل محلها.

  • تعميم النقد: حيث أن انتقاداته للمساعدة الدولية قد لا تنطبق على جميع أشكال المساعدة أو جميع السياقات، فقد تكون بعض البرامج الصغيرة والمستهدفة ذات فاعلية.

  • التشاؤم غير المبرر: رأى بعض النقاد أن تشاؤمه بشأن فعالية المساعدة يثني عن تقديم الدواء الضروري في حالات الطوارئ والأزمات الإنسانية.

 الدروس المستفادة وأهمية الكتاب الحالية

يخلص ديتون إلى أن "الهروب الكبير" هو عملية مستمرة. لقد هرب جزء من العالم بنجاح من الفقر والمرض، لكن التحدي المتمثل في مساعدة من تخلفوا عن الركب لا يزال قائماً.

 الحل لا يكمن في إعادة توزيع الثروة بشكل بسيط أو ضخ المزيد من المساعدات الخارجية، ولكن في خلق الظروف التي تمكن جميع الدول والشعوب من المشاركة في رحلة التقدم هذه بنفسها.

يظل كتاب "الهروب الكبير" ذا أهمية بالغة في فهم التنمية الاقتصادية والصحية وجذور عدم المساواة العالمية. إنه تذكير قوي بأن التقدم البشري، رغم إنجازاته المذهلة، ليس حتمياً ولا متساوياً.

يدعو الكتاب إلى تبني نظرة واقعية ومعقدة للتحديات العالمية، بعيداً عن الحلول السريعة والبسيطة التي غالباً ما تفشل في معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة. 

تحليلات ديتون، خاصة حول فشل المساعدة الدولية وأهمية المؤسسات، لا تزال موضع نقاش وتأثير في سياسات التنمية العالمية حتى اليوم

إرسال تعليق

0 تعليقات