ثمن الزمن
"The Price of Time: The Real Story of Interest"
لإدوارد تشانسلور
الكتاب والمؤلف
إدوارد تشانسلور هو مؤرخ مالي وصحفي استثماري مرموق، عمل في مؤسسات مثل "Lazard Brothers" و"GMO"، وهو معروف بكتابه السابق "Devil Take the Hindmost" الذي يُعد من أفضل الكتب التي تتناول تاريخ الجنون الجماعي في الأسواق المالية.
في كتابه "The Price of Time: The Real Story of Interest"، الصادر عام 2022، يقدم تشانسلور تحليلًا عميقًا لتاريخ سعر الفائدة على مدى 5000 عام، بدءًا من حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة وصولاً إلى السياسات النقدية المعاصرة.
يحظى الكتاب بتقدير كبير، حيث فاز بجائزة هايك للكتاب لعام 2023 ، ووُصف بأنه "تحفة فنية" تجمع بين التاريخ الاقتصادي والتحليل الدقيق لأخطر التحديات التي تواجه النظام المالي العالمي اليوم.
الهيكل والمحتويات الرئيسية للكتاب
1. الفائدة كـ"ثمن الوقت"
يبدأ تشانسلور بتعريف الفائدة على أنها "ثمن الوقت" وليس مجرد "ثمن المال"، مستندًا إلى مفاهيم اقتصادية وتاريخية عميقة.
يشير إلى أن القيمة الزمنية للنقود هي مفهوم أساسي في الاقتصاد، حيث أن البشر يميلون بطبيعتهم إلى تفضيل الاستهلاك الحالي على المستقبلي (ما يُعرف بـ "التفضيل الزمني"). يستشهد بتجربة " marshmallow test" الشهيرة التي أجراها والتر ميشيل في ستينيات القرن الماضي، والتي أظهرت أن الأطفال يحتاجون إلى حافز (مثل حلوى إضافية) لتأخير الاستهلاك الفوري.
يحتاج البالغون إلى عائد على مدخراتهم لتأجيل الاستهلاك، وهذا العائد هو الفائدة .
2. التاريخ الطويل للفائدة: من بلاد ما بين النهرين إلى العصر الحديث
يقدم تشانسلور سردًا تاريخيًا شاملاً لتطور الفائدة، موضحًا أنها ظاهرة قديمة جدًا. على سبيل المثال:
في الحضارة السومرية (قبل 3000 عام من الميلاد)، كانت كلمة الفائدة تعني "صغير الماعز"، حيث كان المقرضون يتقاضون فائدة في شكل حيوانات.
في اليونان القديمة، كانت الفائدة تُسمى "tokos" وتعني "العجل"، مما يعكس فكرة النمو والتكاثر.
في العهد الروماني، كان الفيلسوف سينيكا، الذي كان أيضًا مقرضًا كبيرًا، يرى أن الوقت هو أغلى للإنسان .
عبر التاريخ، واجهت الفائدة معارضة شديدة من قبل أديان وفلسفات مختلفة. فقد انتقدها أرسطو وأفلاطون والقديس أوغسطين ودانتي ولوثر وشكسبير، بل وحتى كارل ماركس وأدولف هتلر، الذين رأوا في الفائدة وسيلة لاستغلال الفقراء .
في العصور الوسطى، كان الربا محرمًا في العديد من الثقافات، لكن مع تطور الرأسمالية، أصبحت الفائدة ضرورة لتعمل الاقتصادات الحديثة.
3. الإطار النظري: الوظائف الحيوية للفائدة
يحدد تشانسلور عدة وظائف أساسية للفائدة في الاقتصاد الحديث:
تخصيص رأس المال: تساعد أسعار الفائدة في توجيه رأس المال إلى الاستثمارات الأكثر كفاءة. عندما تكون الأسعار منخفضة جدًا، تنخفض عتبة العائد المطلوب ("hurdle rate")، مما يشجع على الاستثمارات الطائشة (malinvestment) في مشاريع ذات عوائد منخفضة أو مخاطر عالية.
تقييم الأصول: الفائدة هي معدل الخصم الذي يُستخدم لحساب القيمة الحالية للتدفقات النقدية المستقبلية. بدونها، يصبح من المستحيل تقييم الأصول بشكل صحيح. كما قال وارن بافيت: "الفائدة بالنسبة لتقييم الأصول مثل الجاذبية للمادة".
تسعير المخاطر: الفائدة هي "ثمن القلق" (price of anxiety)، كما وصفها الاقتصادي الإيطالي فرديناندو جالياني في القرن الثامن عشر. فهي تعوض المقرضين عن مخاطر تخلف المقترضين عن السداد.
توزيع الدخل والثروة: تؤثر الفائدة على توزيع الثروة بين المدخرين والمقترضين. الأسعار المنخفضة جدًا تضر بالمدخرين (خاصة من ذوي الدخل المحدود) وتفيد الأغنياء الذين يستطيعون الاقتراض بسهولة والاستفادة من ارتفاع أسعار الأصول.
4. انتقاد السياسات النقدية الحديثة: لعنة النقود السهلة
الجزء الأكبر من الكتاب يركز على نقد تشانسلور اللاذع للسياسات النقدية التي انتهجتها البنوك المركزية الكبرى (مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي) بعد الأزمة المالية لعام 2008، حيث خفضت أسعار الفائدة إلى أدنى مستوياتها في 5000 عام بل ووصلت إلى منطقة السلبية في أوروبا واليابان .
يحذر تشانسلور من أن هذه السياسات أنتجت "لعنة النقود السهلة" (Curse of Easy Money) والتي تتجلى في عدة مشاكل خطيرة:
"فرسان نهاية العالم الأربعة" للنقود الرخيصة:
- الاستثمارات الطائشة (Malinvestment): التمويل السهل شجع على استثمارات غير فعالة في قطاعات ذات إنتاجية منخفضة، مثل القطاع العقاري وشركات التكنولوجيا الفاشلة (مثل ثيرانوس التي بلغت قيمتها 9 مليارات دولار رغم احتيالها) .أيضًا، أدى إلى ظاهرة "الشركات الزومبي" (Zombie Companies) – وهي شريات غير قادرة على سداد ديونها إلا من خلال اقتراض جديد بفائدة منخفضة. هذه الشركات تشوه السوق بالمنع "التدمير الخلاق" (creative destruction) الذي وصفه شومبيتر، حيث تظل الشركات غير الفعالة حية فتهدر الموارد وتمنع نمو الشركات الجديدة المبتكرة.
تضخم أسعار الأصول: أدى التمويل الرخيص إلى ظهور "فقرة كل شيء" (The Everything Bubble)، حيث ارتفعت أسعار الأسهم والسندات والعقارات والسلع والعملات المشفرة إلى مستويات قياسية غير مسبوقة. هذا خلق وهم الثروة وزاد من عدم المساواة، حيث استفاد الأغنياء (الذين يملكون الأصول) بينما تخلف الطبقتان المتوسطة والفقيرة عن الركب.
التمويلنة (Financialization): أصبح الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل مفرط على القطاع المالي. في الولايات المتحدة، أصبح ناتج قطاع "التأمين والعقارات والتمويل" (FIRE) أكبر بنسبة 50% من ناتج قطاع التصنيع! الشركات غير المالية أصبحت تعتمد على الديون الرخيصة لتمويل عمليات إعادة شراء الأسهم (buybacks) والاستحواذات، مما يزيد من المخاطر النظامية.
إضعاف النمو الاقتصادي على المدى الطويل: على عكس الهدف المنشود، فإن أسعار الفائدة المنخفضة المزمنة تقلل الإنتاجية والنمو. وذلك لأنها تشجع على الاستثمار في مشاريع ذات عوائد منخفضة، وتحافظ على الشركات الزومبيّة حية، وتقلل من الحافز للابتكار والكفاءة. يشير تشانسلور إلى أن نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة انخفض من 2.8% سنويًا (بين 1947-1973) إلى 1.2% فقط بعد عام 2010.
الآثار الاجتماعية المدمرة:
أزمة المعاشات التقاعدية: المدخرون وكبار السن الذين يعتمدون على دخل ثابت من مدخراتهم (مثل شهادات الإيداع) عانوا من خسائر هائلة في الدخل بسبب الفائدة المنخفضة. كما قال مايكل بيري (بطل كتاب The Big Short): "كسرت سياسة الفائدة الصفرية العقد الاجتماعي لأجيال من الأمريكيين الذين ادخروا للتقاعد".
تفاقم عدم المساواة: يستشهد تشانسلور بـ توماس بيكيتي، لكنه يعكس معادلته الشهيرة: عندما يكون العائد على رأس المال (r) أقل من النمو الاقتصادي (g)، فإن عدم المساواة يزداد أيضًا في اقتصاد مالي. وذلك لأن الأغنياء يستفيدون من ارتفاع أسعار الأصول، بينما يفقد الفقراء دخولهم من الفوائد.
عدم الاستقرار السياسي: يربط تشانسلور سياسات الفائدة المنخفضة باضطرابات اجتماعية وسياسية مثل الربيع العربي (2011) وانهيار البرازيل (2013) وأزمة اليونان (2015). حيث أدى تدفق رأس المال الساخن إلى الأسواق الناشئة (بحثًا عن العائد) إلى تضخم أسعار الغذاء وعدم الاستقرار.
5. المقارنات التاريخية والدروس المستفادة
يستخدم تشانسلور أمثلة تاريخية عديدة ليوضح كيف أن انخفاض الفائدة يؤدي دائمًا إلى فقاعات وأزمات. بعض هذه الأمثلة البارزة تشمل:
فرنسا في القرن الثامن عشر: تحت إشراف جون لاو، خفضت فرنسا أسعار الفائدة وطبعت النقود لشراء الديون الحكومية، مما أدى إلى فقاعة ميسيسيبي وانهيار اقتصاديي.
الثلاثينيات القرن العشرين: يذكر تشانسلور سيلفيو جيزيل، الذي اقترح عملة تتطلب ختمًا أسبوعيًا (مما يقلل قيمتها بنسبة 5%) لتشجيع الإنفاق خلال الكساد الكبير. يشير تشانسلور إلى أن مقترحات حديثة (مثل اقتراح كينيث روغوف بإلغاء النقد) تهدف إلى تحقيق نفس الهدف.
اليابان في الثمانينيات: الفائدة المنخفضة غذت فقاعة عقارية ومالية هائلة، وانتهت بأزمة طويلة الأمد.
يخلص تشانسلور إلى أن التاريخ يظهر بشكل قاطع أن "المال السهل يعزز نمو الائتمان، ونمو الائتمان يعزز التجاوزات المضاربة".
6. الانتقادات والتقييم النقدي للكتاب
على الرغم من الإشادة الواسعة بالكتاب، إلا أن بعض المراجعين (مثل أنmol Sethy) يوجهون له انتقادات، منها:
التكرار: الجزء الثاني من الكتاب (الذي يركز على نقد الفائدة المنخفضة) يعتبره البعض مكررًا وممتدًا أكثر من اللازم.
التحيز الأحادي الجانب: يتهمه البعض بإرجاع كل المشاكل الاقتصادية إلى الفائدة المنخفضة، متجاهلاً عوامل أخرى مثل التقدم التكنولوجي، العولمة، والسياسات الضريبية. كما أنه يقلل من الجوانب الإيجابية المحتملة للفائدة المنخفضة، مثل تمويل الابتكار طويل الأجل.
نقص الحلول البديلة: يقدم الكتاب تحليلًا قويًا للمشكلة ولكن يقترح حلولاً محدودة، مقتصرًا على نصائح عامة مثل ضرورة عودة أسعار الفائدة إلى "مستواها الطبيعي" (r*).
مع ذلك، يظل الكتاب مساهمة قوية ومهمة في النقاش الاقتصادي، خاصة في ظل استمرار تحديات التضخم وعدم الاستقرار المالي.
الآثار السلبية لانخفاض أسعار الفائدة وفقًا للكتاب
المجال المتأثر | الآلية | النتيجة / المثال التاريخي |
---|---|---|
كفاءة رأس المال | انخفاض "hurdle rate" للاستثمار | استثمارات طائشة (مثل شركات التكنولوجيا الفاشلة - ثيرانوس) |
استقرار الأسواق المالية | البحث عن العائد (search for yield) | فقاعات في الأصول (الأسهم، العقارات، العملات المشفرة) |
هيكل Corporate | سهولة الاقتراض رغم ضعف الأداء | انتشار "الشركات الزومبيّة" وإعاقة "التدمير الخلاق" |
النمو الاقتصادي طويل الأجل | تشوهات في تخصيص الموارد | انخفاض نمو الإنتاجية (مثال: انخفاض النمو في الولايات المتحدة إلى 1.2%) |
العدالة الاجتماعية | ارتفاع أسعار الأصول مقابل انخفاض دخل المدخرين | تفاقم عدم المساواة وأزمة المعاشات التقاعدية |
الاستقرار الجيوسياسي | تدفقات رأس المال العابرة للحدود | اضطرابات سياسية (مثال: الربيع العربي، أزمة اليونان) |
التحذير من المستقبل وأهمية الكتاب الراهنة
يختتم إدوارد تشانسلور كتابه بتحذير شديد اللهجة: العالم يقف على حافة كارثة مالية أخرى قد تكون أكبر من سابقاتها.
إن استمرار الاعتماد على سياسات النقود السهلة والفوائد المنخفضة بشكل مصطنع يجعل النظام المالي العالمي أكثر هشاشة وعرضة لأزمة نظامية . يشير إلى أن الاضطرابات التي شهدها عام 2022 (مثل انهيار بعض البنوك الأمريكية وارتفاع التضخم العالمي) هي مجرد بداية لتداعيات هذه السياسات.
قوة الكتاب تكمن في الجمع بين العمق التاريخي والتحليل الاقتصادي الحديث، مما يجعله مرجعًا ضروريًا لفهم أحد أخطر التحديات الاقتصادية في عصرنا.
إنه ليس مجرد كتاب عن الفائدة، بل هو قصة عن الرأسمالية نفسها وكيف أن التلاعب في "ثمن الوقت" يهدد أسسها.
الرسالة المركزية للكتاب هي أن الفائدة ليست شرًا يجب القضاء عليه، بل هي إشارة لا غنى عنها لتوجيه الاقتصاد. تجاهل هذه الإشارة، كما حذر الاقتصاديون منذ قرون، له عواقب وخيمة.
الكتاب بمثابة دعوة للبنوك المركزية وصناع السياسات إلى الاعتراف بخطأ المسار والعودة إلى سياسات أكثر توازنًا تحترم القوانين الطبيعية للاقتصاد والتاريخ.
ملاحظة: هذا الملخص لا يغني عن قراءة الكتاب الكامل الذي يزخر بالتفاصيل التاريخية الثرية والحجج الاقتصادية المعقدة.
0 تعليقات