حوارات أفلاطون

 


حوارات أفلاطون السقراطية: الفترة المبكرة - المجلد الأول 

(الاعتذار، كريتون، شارميدس، لاكيس، ليسيس، مينيكسينوس، إيون)

تمثل حوارات أفلاطون المبكرة، التي يُعتقد أنه كتبها في شبابه أو أوائل مرحلة نضجه، نافذةً استثنائية على شخصية وفلسفة أستاذه سقراط. المجلد الأول هذا يجمع سبعة حوارات تعكس الطريقة السقراطية (الديالكتيك) في البحث عن الحقيقة، مركزةً على مفاهيم أخلاقية وسياسية جوهرية مثل العدالة، الطاعة للقانون، الفضيلة (الشجاعة، الاعتدال)، الصداقة، الخطابة، والمعرفة. لا تهدف هذه الحوارات غالبًا إلى تقديم إجابات قطعية، بل إلى تفكيك الأفكار المسبقة وتحفيز التفكير النقدي.

1. الاعتذار (أبوλογία - Apologia): محاكمة سقراط ودفاعه عن الفلسفة

  • السياق: سقراط (حوالي 70 عامًا) يقف أمام محكمة أثينية بتهمة "إفساد الشباب" و"عدم الإيمان بآلهة المدينة واستبدالها بأوثان جديدة".

  • الدفاع: ليس اعتذارًا بالمعنى الحديث، بل دفاعٌ فلسفي جريء. يرد سقراط على اتهامات "المتهمين الأولين" (مثل أرسطوفان في مسرحيته "السحب") الذين صوروه كسوفسطائي يجعل الحجة الضعيفة قويةً وينكر الآلهة.

  • مهمته الإلهية: يشرح أصل منهجه. بعد أن أعلن أوراكل دلفي أنه "أحكم الناس"، شرع سقراط في فحص حكمة الآخرين (السياسيين، الشعراء، الحرفيين) واكتشف أنهم يدعون معرفة ما لا يعرفونه، بينما هو على الأقل يعرف أنه لا يعرف. هذه "الحكمة البشرية" المتواضعة جعلته محل كراهية.

  • هدف الفلسفة: يؤكد أن مهمته هي "خدمة الإله" بتذكير الناس بجهلهم وحثهم على "الاعتناء بنفوسهم" و"السعي للفضيلة والحكمة" قبل المال أو الشهرة. هذا هو أعظم خدمة للمدينة.

  • الموقف من الموت: يرفض التوسل أو التعهد بالتوقف عن الفلسفة، مؤكدًا أن طاعته لله أهم من طاعته لأثينا. يتحدث عن الموت بلا خوف: إما انعدام إحساس (وهو راحة) أو انتقالٌ إلى محكمة عادلة حيث يمكنه مواصلة مناقشة الأبطال. يختار الموت على حياة بلا فحص.

  • الرسالة المركزية: دفاعٌ عن حرية الفكر والنقد، ورفضٌ للخضوع للرأي العام أو الخوف من الموت عندما يتعلق الأمر بالحق. الفلسفة ليست ترفًا بل ضرورة أخلاقية للمدينة.

2. كريتون (Κρίτων - Crito): الطاعة للقانون والالتزام بالمبادئ

  • السياق: سقراط في السجن ينتظر تنفيذ حكم الإعدام. صديقه القديم كريتون يزوره ويحثه على الهروب (متاحٌ بسهولة بفضل أصدقاء أقوياء وأموال).

  • حجة كريتون: الهروب سيثبت براءته العمليّة، وسيحرم أعداءه من انتصارهم. كما أن عدم الهروب سيحرم أبناءه من أبيهم ويُظهر تخلي أصدقائه عنه.

  • رد سقراط: يرفض الحجج العاطفية والبراغماتية. يطرح سؤالًا جوهريًا: هل الهروب من السجن بعد محاكمة (وإن كانت جائرة) هو عملٌ عادل أم ظالم؟

  • حوار مع القوانين (الشخصنة): يتخيل سقراط "القوانين" نفسها تخاطبه. تذكره القوانين بأنه ولد وعاش وتعلم تحت حمايتها، وقبلها ضمنيًا كأبٍ وسيد. الهروب سيكون:

    • خيانةً للاتفاق الضمني مع المدينة.

    • تدميرًا للقوانين نفسها (إذا تمرد كل من حُكم عليه).

    • ظلمًا للمدينة التي أنعمت عليه.

  • الاستنتاج: ارتكاب الظلم ردًا على الظلم لا يجوز أبدًا. العدالة تتطلب الطاعة للقوانين حتى لو كانت النتيجة غير عادلة في حالة فردية. الموت بشرف أفضل من الحياة بظلم. يؤكد سقراط التزامه المطلق بالمبادئ الأخلاقية حتى النهاية.

3. شارميدس (Χαρμίδης - Charmides): البحث عن تعريف الاعتدال (σωφροσύνη - Sophrosyne)

  • السياق: بعد عودة سقراط من معركة بوتيديا، يلتقي بصبي وسيم واعد اسمه شارميدس (ابن عم كريتياس، أحد الطغاة الثلاثين لاحقًا) وصديقه كريتياس نفسه.

  • السؤال: ما هو "الاعتدال" (Sophrosyne)؟ تُترجم أحيانًا بالاتزان، ضبط النفس، الحكمة العملية، الوعي بالحدود.

  • تعريفات شارميدس (المفحوص أولًا):

    • "الهدوء والتمهل في كل شيء" → يرفضه سقراط (أحيانًا السرعة أفضل، كالقراءة السريعة).

    • "الحياء" → يرفضه (الحياء ليس دائمًا خيرًا، والعفة فضيلة بحد ذاتها).

  • تعريفات كريتياس (يتولى المهمة):

    • "فعل ما يخصك" → غامض ومربك (هل عمل الطبيب "خاص به"؟).

    • "معرفة الذات" → يتطور لـ "معرفة المعرفة والجهل" (علم العلم).

  • النقد السقراطي: يركز على "علم العلم":

    • هل يمكن معرفة المعرفة دون موضوع محدد؟ (معرفة الطب تعني معرفة الصحة والمرض).

    • هل هذه المعرفة مفيدة حقًا؟ معرفة أننا نعرف أو لا نعرف لا تخبرنا بماذا نعرف أو لا نعرف، وبالتالي لا تضمن الفعل الصحيح.

  • النتيجة: الحوار ينتهي إلى "الارتباك" (Aporia). لم يتم التوصل لتعريف مرضٍ، لكن العملية نفسها تثبت أهمية الفحص الذاتي والوعي بحدود المعرفة كجزء من الاعتدال. سقراط يشكك في ادعاءات كريتياس الفكرية.

4. لاكيس (Λάχης - Laches): البحث عن تعريف الشجاعة (ἀνδρεία - Andreia)

  • السياق: يسأل اثنان من الأثينيين (ليسيماخوس وميليسياس) الجنرالين لاكيس ونيكياس عن أفضل طريقة لتدريب أبنائهم على القتال بالدروع. يستدعيان سقراط للمشورة.

  • تحويل السؤال: يقترح سقراط أن السؤال الحقيقي ليس عن فن قتالي، بل عن تربية النفوس وزراعة الفضيلة، وأساسًا الشجاعة.

  • تعريفات لاكيس (المحارب المقدام):

    • "الثبات في الصفوف في وجه العدو" → يرفضه سقراط (ضيق جدًا، الشجاعة في البحر أو المرض أو الفقر؟).

    • "ثبات النفس" → يرفضه (الثبات الأعمى بدون حكمة هو تهور، الشجاعة فضيلة لذا يجب أن تكون خيرًا).

  • تعريفات نيكياس (الجنرال المفكر):

    • "معرفة ما ينبغي الخوف منه وما لا ينبغي" → تعريف جذاب يتضمن معرفة (Episteme).

  • النقد السقراطي الحاسم: يركز على تعريف نيكياس:

    • المعرفة المطلوبة هي معرفة الخير والشر بشكل مطلق وليس فقط في المستقبل القريب (ما نخافه هو الشر المستقبلي).

    • لكن معرفة الخير والشر بشكل مطلق هي ليست مجرد الشجاعة، بل هي الفضيلة كلها. الشجاعة بهذا التعريف تصبح هي الفضيلة الكاملة، وهذا غير صحيح لأنها جزء منها فقط.

  • النتيجة: الارتباك مرة أخرى (Aporia). لم يتم تعريف الشجاعة، لكن الحوار يسلط الضوء على:

    • قصور التعريفات المبنية على أمثلة خارجية فقط.

    • العلاقة المعقدة بين الشجاعة والمعرفة (الحكمة العملية).

    • الصعوبة الجوهرية في تعريف الفضائل.

5. ليسيس (Λύσις - Lysis): استكشاف طبيعة الصداقة (φιλία - Philia)

  • السياق: سقراط يصادف مجموعة شباب في صالة للألعاب الرياضية، منهم ليسيس (محبوب) ومينيكسينوس (محب)، ويسأل عن سر الصداقة.

  • السؤال: ما الذي يجعل شخصًا صديقًا لآخر؟ ما هو أساس الصداقة (Philia)؟ (تشمل الصداقة، الحب، المودة).

  • فرضيات ونقضها:

    • المتشابهون: هل يتآلف المتشابهون؟ → لكن الأشرار المتشابهين يتنافرون، والحكماء قد لا يحتاجون بعضهم.

    • المختلفون (المتناقضون): "الأضداد تتجاذب"؟ → لكن العدل لا يصادق الظالم، والطبيب (الصحة) لا يصادق المرض!

    • الخيّر للخيّر: لماذا يحتاج الخيّر لصديق إذا كان كاملاً؟

    • اللامبالي للخيّر: لا معنى.

    • الذي ليس بخير ولا شر للخيّر: معقد.

  • فرضية "الذي ينتمي إليه" (οικείον - Oikeion): تظهر فكرة أننا نحب ما "ينتمي إلينا" أو ما هو "ملائم لنا".

  • فرضية الحاجة والرغبة: الصداقة تنشأ عن الرغبة (ἔρως - Eros) في شيء ما نفتقده. نحن نحب ما هو خير لنا (أو نعتقد أنه خير) لأنه يملأ نقصنا. لكن هذا يطرح أسئلة: هل نحب الصديق لذاته أم لما يجلبه لنا؟ ما هو "الخير" الحقيقي؟

  • النتيجة: الحوار ينتهي إلى الارتباك (Aporia) الشديد، معترفًا بصعوبة المسألة. تشير النقاشات إلى:

    • طبيعة الصداقة معقدة وتتجاوز التعريفات البسيطة.

    • دور الحاجة والنقص كعامل محرك.

    • العلاقة بين الصداقة والخير (الذي يرغبه الجميع).

    • أسئلة حول حب الذات وحب الآخر لذاته. البذرة الأولى لفكرة الخير المطلق في فلسفة أفلاطون اللاحقة.

6. مينيكسينوس (Μενέξενоς - Menexenus): خطبة جنائزية وهجاء للخطابة السياسية

  • السياق: يطلب مينيكسينوس من سقراط أن يلقي خطبة جنائزية (شائعة في أثينا لتكريم قتلى الحرب). يروي سقراط خطبةً زعم أنها تعلمها من أسبرطة (كاهنة وزوجة بريكليس).

  • المحتوى: الخطبة نموذجية في مدح أثينا وتاريخها الأسطوري والمجد العسكري وذم الأعداء (خصوصًا الأسبرطيين والفرس). تخلط بين الأسطورة والتاريخ، وتقدم صورة مثالية ومبالغًا فيها لأثينا وللقيم الأثينية.

  • الغرض الساخر (الهجاء): يعرض أفلاطون (عبر سقراط) كيف تستخدم الخطابة السياسية (الريطوريقا) للتلاعب بالعواطف، وخلق أساطير قومية، وتبرير سياسات المدينة، وغسل أدمغة المواطنين بالكلام المنمق والكاذب غالبًا. الخطبة تظهر:

    • الانتقائية في التاريخ والتحيز.

    • المبالغة والتهويل.

    • استغلال مشاعر الحزن والفخر الوطني.

    • افتقادها للتحليل النقدي أو الحقيقة الفلسفية.

  • المقارنة مع "الاعتذار": تتناقض الخطبة المصنوعة مع خطاب سقراط الصادق والبسيط في محاكمته. تنتقد الطريقة السقراطية هنا استخدام الكلام الفارغ لتضليل الجماهير بدل تنويرها.

7. إيون (Ἴων - Ion): الشعر، الإلهام، والمعرفة

  • السياق: حوار مع إيون، منشد محترف متخصص في شعر هوميروس (الإلياذة والأوديسة)، فائز حديثًا بمسابقة.

  • السؤال: كيف يبرع إيون في تفسير هوميروس فقط، وليس شعراء آخرين مثل هسيود؟ ما هي مصدرية معرفته وفنه؟

  • فرضية إيون: معرفة متخصصة (τέχνη - Techne) بهوميروس.

  • النقد السقراطي الحاسم:

    • إذا كانت معرفة فنية (Techne) حقيقية، لكانت شاملة لموضوعها (كالفروسية تشمل كل الخيل). فلماذا لا يستطيع تفسير هسيود الذي يتحدث عن نفس المواضيع (الحرب، العلاقات البشرية)؟

    • الشعراء أنفسهم لا يبدعون بمعرفة فنية (Techne)، بل بـ "قوة إلهية" (Θεία μοῖρα - Theia Moira) أو "إلهام" (ἔνθουσιασμός - Enthusiasmos)، كحلقة في سلسلة مغناطيسية تبدأ من الإله (الموسى) إلى الشاعر إلى المنشد (إيون) إلى الجمهور.

    • إيون كالمنشد ليس لديه معرفة حقيقية (Episteme)، بل هو "ممسوس" أو "ممتلئ بالإله". براعته تأتي من حالة شبه جنونية إلهية، وليس من الفهم العقلاني أو المهارة التقنية القابلة للنقل.

  • النتيجة:

    • نقدٌ حاد للادعاءات المعرفية للشعراء والمنشدين. الشعر فن إلهامي، وليس تعليميًا قائمًا على المعرفة الموضوعية.

    • فصلٌ بين الفن (الإلهام، العاطفة) والمعرفة العقلية (التقنية، الفهم الشامل). الشعر لا يُعلّم الفضيلة أو الحقيقة بشكل موثوق.

    • تلميحٌ لتفوق الفلسفة (البحث العقلي) على الشعر في السعي للمعرفة الحقيقية.

الخيوط المشتركة والقيمة الفلسفية للمجلد:

  1. الطريقة السقراطية (الديالكتيك): هي النجم الذي يهدي كل حوار. التشكيك، السؤال، تفكيك التعريفات، وكشف التناقضات في الأفكار الشائعة. الهدف ليس الإجابة الجاهزة، بل تنقية الفكر والاعتراف بالجهل كخطوة أولى نحو الحكمة.

  2. الأبوريا (Aporia - طريق مسدود/ارتباك): النهاية الشائعة (شارميدس، لاكيس، ليسيس). ليست فشلًا، بل نتيجة ضرورية تظهر تعقيد المفاهيم الأخلاقية وتواضع المعرفة البشرية. تزرع الرغبة في الاستمرار بالبحث.

  3. التركيز على الأخلاق والفضيلة: العدالة، الطاعة، الاعتدال، الشجاعة، الصداقة هي محور البحث. سقراط يصر على أن "حياة غير مفحوصة لا تستحق العيش"، وأن العناية بالنفس (الروح) هي الأولى.

  4. العلاقة بين المعرفة والفضيلة: تظهر بقوة في "لاكيس" و"إيون". سقراط يؤمن أن "الفضيلة معرفة" (أحد أبرز أركان فلسفته). فعل الخير يتطلب معرفةً به. الشر ناتج عن الجهل. لكن الحوارات تظهر صعوبة تعريف هذه المعرفة.

  5. نقد الادعاءات الزائفة: سواء ادعاءات الخصوم في "الاعتذار"، أو ادعاءات كريتياس المعرفية في "شارميدس"، أو ادعاءات الخطابة في "مينيكسينوس"، أو ادعاءات المعرفة الفنية لدى إيون.

  6. شخصية سقراط: تتجلى في كل حوار: تواضعه الظاهري (جهله المعلن)، شجاعته الفكرية والأخلاقية، التزامه المطلق بالحقيقة والمبادئ، ولعبه دور "ذبابة الخيل" التي توقظ المدينة من سباتها الفكري.

  7. البذور لأفكار لاحقة: رغم أنها "سقراطية" (تسجل أفكار سقراط)، تحمل بذور فلسفة أفلاطون: فكرة الخير المطلق (ليسيس)، نقد الفن (إيون)، العلاقة بين المعرفة والعالم المثالي (الذي سيتطور لنظرية المثل).

هذه الحوارات ليست نصوصًا تاريخية بحتة، بل هي أعمال أدبية وفلسفية عميقة صاغها أفلاطون لتقديم نموذج سقراط وتحدي القارئ. إنها دعوة مستمرة، عبر القرون، لتبني حياة الفحص العقلي، والسعي للفضيلة، وعدم الخوف من التساؤل حتى في مواجهة اليقينيات الأكثر رسوخًا. المجلد الأول يقدم أساسًا متينًا لفهم تطور فكر أفلاطون والمنعطف الحاسم الذي مثّله سقراط في تاريخ الفلسفة

إرسال تعليق

0 تعليقات