The Wages of Destruction: The Making and Breaking of the Nazi Economy ل Adam Tooze
تمهيد
يعد كتاب "The Wages of Destruction: The Making and Breaking of the Nazi Economy" للمؤرخ آدم توز، والصادر عام 2006، عملاً بارزاً أحدث نقلة نوعية في فهم التاريخ الاقتصادي لألمانيا النازية.
حظي الكتاب بتقدير نقدي كبير وفاز بجائزة ولفسون للتاريخ وجائزة لونجمان/هيستوري توداي لكتاب العام في عام 2007 .
يقوم العمل على فكرة مركزية مفادها أن السياسات الاقتصادية والمحدودية المواردية كانتا المحركين الأساسيين وراء القرارات الاستراتيجية للنظام النازي، وليس الأيديولوجيا العنصرية وحدها.
تحدى توز في كتابه التفسيرات التقليدية التي تركز على الجوانب العسكرية والبطولية للحرب العالمية الثانية، مقدماً بدلاً من ذلك تحليلاً اقتصادياً شاملاً يربط بين الأهداف الاقتصادية للنظام النازي وقراراته الحربية المصيرية .
الفكرة الرئيسية للكتاب هي أن الاقتصاد الألماني كان ببساطة غير قوي بما يكفي لخلق قوة عسكرية قادرة على سحق جميع جيرانها الأوروبيين
ناهيك عن مواجهة القوى العظمى الحقيقية في ذلك الوقت: الإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف .
يرى توز أن هتلر كان مدركاً تماماً لهذه الحقيقة، وأن اندفاعه نحو الحرب كان محاولة يائسة لسد هذه الفجوة الاقتصادية والمواردية قبل فوات الأوان .
الدوافع الاقتصادية والسياق التاريخي
الرؤية الاقتصادية لهتلر والعدو الأمريكي
يؤكد توز على أن صعود الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى الهيمنة الوشيكة في القرن العشرين كان العامل الأساسي الذي شكل رؤية هتلر الاقتصادية والاستراتيجية .
بعد التجربة المؤلمة للحرب العالمية الأولى، حيث ظهرت القوة الصناعية للتحالف الأنغلو-أمريكي، أصبح هتلر مقتنعاً بأن ألمانيا لا يمكن أن تنافس إلا من خلال السيطرة على مساحة وموارد مماثلة لتلك التي تمتلكها الولايات المتحدة .
لم تكن هذه المقارنة اقتصادية فحسب، بل كانت أيضاً عنصرية؛ فقد نظر هتلر إلى التفوق الأمريكي المحتمل على أنه نتاج "مؤامرة يهودية دولية" تهدف إلى الهيمنة على العالم .
لذلك، فإن الحرب في الشرق من أجل الحصول على "مجال حيوي" (Lebensraum) لم تكن مجرد حلم أيديولوجي، بل كانت ضرورة اقتصادية لخلق "دولة ألمانية عظمى" قادرة على منافسة القارة الأمريكية .
إعادة التسلح: الاستعداد للحرب بأي ثمن
منذ لحظة وصوله إلى السلطة في عام 1933، جعل هتلر إعادة التسلح المحرك الأساسي والمركزي لجميع السياسات الاقتصادية في ألمانيا .
يصف توز برنامج التسلح النازي بأنه "أكبر تحويل للموارد في وقت السلم شهدته الاقتصادات الرأسمالية على الإطلاق" .
تم تمويل هذا الجهد الهائل من خلال إجراءات جريئة مثل التخلف عن سداد القروض الأمريكية ومدفوعات التعويضات التي فرضتها معاهدة فرساي .
كانت الضريبة التي فرضها هذا الجهد على الاقتصاد والمجتمع الألمانيين هائلة: فمن خلال نظام مركزي صارم للسيطرة على العملات الأجنبية والمواد الأساسية، تم تجويع القطاعات الإنتاجية المدنية لصالح الصناعات العسكرية، مما أدى إلى تقليص حاد في إنتاج السلع الاستهلاكية مثل الملابس حتى قبل بداية الحرب .
هيكل الاقتصاد النازي وإدارة الحرب
التعاون مع الصناعة الخاصة
يدحض توز الأسطورة الشائعة حول معاداة النازية للقطاع الخاص. على العكس من ذلك، يوضح الكتاب أن النظام النازي تعاون بشكل وثيق مع كبار الصناعيين والشركات الكبرى مثل I.G. Farben وبورش .
لقد جذب مبدأ "الفوهرر" (Führerprinzip) - الذي يشدد على السلطة المطلقة للقائد - أصحاب الأعمال الذين رأوا فيه تجسيداً لسلطة الإدارة التنفيذية في شركاتهم . قامت الدولة بحماية المصالح الخاصة والأرباح "السمينة" للصناعيين، الذين استفادوا بدورهم بشكل كبير من سياسات النظام
لا سيما من خلال استغلال العمالة القسرية والعبدية خلال الحرب . كان هذا تحالفاً مصلحياً: فقد وفرت الدولة النظام والعقود المربحة، ووفر القطاع الخاص الخبرة والقدرة الصناعية لتحقيق أهداف هتلر.
محدودية الموارد وعبء "الاكتفاء الذاتي"
يكشف تحليل توز أن القوة الصناعية لألمانيا، رغم كونها الثانية على مستوى العالم في بداية القرن العشرين، كانت تعاني من نقاط ضعف هيكلية عميقة .
كانت ألمانيا دولة صغيرة نسبياً، كثيفة السكان، وتفتقر إلى الموارد الطبيعية الأساسية. وكان القطاع الزراعي متخلفاً، مما جعل البلاد تعتمد على استيراد المواد الغذائية .
كما أن محاولات تحقيق "الاكتفاء الذاتي" (Autarky) من خلال تطوير بدائل اصطناعية للنفط والمطاط (مثل الوقود الاصطناعي من الفحم) كانت مكلفة وغير فعالة ولم تحل مشكلة الاعتماد على الواردات بشكل كامل .
بحلول عام 1938، وصل الاقتصاد الألماني إلى حالة من الإجهاد غير المستدام، مع أزمة في العملات الأجنبية وتدهور في البنية التحتية مثل السكك الحديدية، مما أجبر النظام على خفض برامج إعادة التسلح قبل أن تكون جاهزة للحرب بالكامل .
تعبئة القوى العاملة
يتحدى الكتاب الروايات التي تزعم أن ألمانيا لم تحشد النساء في الاقتصاد الحربي بشكل كاف. يوضح توز أن معدلات عمل النساء في ألمانيا كانت أعلى منها في بريطانيا قبل الحرب .
كانت مشكلة ألمانيا الرئيسية هي نقص حاد في العمالة، نجم عن سحب ملايين الرجال للخدمة في الجيش . تمت مواجهة هذا النقص من خلال تدابير متطرفة، أبرزها الاستخدام المتزايد والمروع للعمل القسري وسرقة العمالة من الأراضي المحتلة .
وصل التناقض الأيديولوجي إلى ذروته عندما بدأت مؤسسات الدولة، مثل تلك التي كان يديرها ألبرت شبير وهيلموت هيملر، في نقل يهود من الحكومة العامة (بولندا المحتلة) إلى ألمانيا نفسها للعمل كعبيد في الصناعة، على الرغم من أن هذا يتعارض مع السياسة الرسمية للإبادة .
الاقتصاد يقود المسار إلى الحرب
السباق المحموم نحو الحرب
بحلول أواخر الثلاثينيات، وجد هتلر نفسه في مأزق: فالتعبئة الاقتصادية التي قادها قد أوصلت الاقتصاد إلى حافة الهاوية
لكن التفوق النسبي لألمانيا العسكري كان يتلاشى بسرعة أمام التسارع البريطاني والفرنسي في إعادة التسلح . يحدد توز ثلاثة عوامل دفعت هتلر نحو الحرب في عام 1939 :
فشل الاستعدادات: كانت الاستعدادات للحرب ضد القوى الغربية غير كافية، وكان الهجوم السريع ضرورياً قبل تفوق الأعداء.
الظروف الدبلوماسية: لم يكن هناك ما يكسبه هتلر من الانتظار.
ضغط الأيديولوجيا: أصبحت ضرورة هزيمة "اليهودية العالمية" هاجساً لا يمكن تجاهله.
في هذا السياق، ظهرت استراتيجية "الحرب الخاطفة" (Blitzkrieg) ليس كابتكار تكتيكي عبقري، بل كـ ضرورة اقتصادية .
كانت ألمانيا تفتقر إلى الموارد اللازمة لحرب طويمة، لذا كان عليها أن تحقق انتصارات سريعة وحاسمة تستولي فيها على موارد الأعداء لتمويل الحملات التالية .
غزو الاتحاد السوفيتي: القرار الحتمي
بعد الفشل في إخضاع بريطانيا في عام 1940، أصبح المنطق الاقتصادي للحرب يقود ألمانيا حتماً إلى غزو الاتحاد السوفيتي في عملية بارباروسا في عام 1941 .
لم يكن هذا الغزو مجرد نزعة أيديولوجية حرب التوسع والغزو، بل كان محاولة يائسة للحصول على الموارد الطبيعية الضرورية - النفط والقمح والفضاء الحيوي - التي تعتبر حيوية لتحدي القوى العظمى الحقيقية: الولايات المتحدة والإمبراطورية البريطانية .
يرى توز أن هذا القرار هو الذي "ختم مصير الرايخ الثالث"، حيث أن القيود المواردية جعلت الانتصار على الاتحاد السوفيتي مستحيلاً، خاصة مع تلقيه إمدادات ضخمة من الولايات المتحدة وبريطانيا .
إعلان الحرب على الولايات المتحدة: النهاية المحتومة
يخصص توز أهمية كبيرة لدور الولايات المتحدة، ويقولل بأن هتلر كان ينظر إلى أمريكا دائماً على أنها المنافس الرئيسي والتهديد الحقيقي لحلمه .
كان الإنتاجية الأمريكية الهائلة ("الفوردية") تبدو شبه أسطورية بالنسبة للصناعيين الألمان . في هذا الإطار، يرى توز أن إعلان هتلر الحرب على الولايات المتحدة في ديسمبر 1941 بعد الهجوم على بيرل هاربور كان خطوة حتمية من منظور أيديولوجي، لكنها من الناحية الاقتصادية والعسكرية "ختمت مصير ألمانيا" .
لقد وحد هذا الإعلان القوى الصناعية الأكثر ضخامة في العالم ضد ألمانيا دون أن يكون لها استراتيجية واقعية لضرب القلب الصناعي لأمريكا.
تحطيم الأساطير والخرافات
"معجزة" ألبرت شبير
يتحدى توز أحد أكثر الأساطير رسوخاً في تاريخ الحرب، ألا وهي "معجزة التسليح" التي نسبت إلى ألبرت شبير بعد تعيينه وزيراً للتسليح في عام 1942 .
تشير الأسطورة إلى أن شبير، بموهبته التنظيمية، استطاع زيادة الإنتاج الحربي الألماني بشكل كبير رغم قصف الحلفاء.
يرفض توز هذه الفكرة جملة وتفصيلاً، ويوضح أن الزيادة في الإنتاج كانت نتيجة لـ عمليات تبسيط مخطط لها مسبقاً وتحول إلى إنتاج نماذج موحدة من الأسلحة، أكثر من كونها "معجزة" إدارية .
كما يؤكد أن هذه الزيادة لم تكن كافية على الإطلاق لسد الفجوة مع الإنتاج المتسارع للحلفاء، وأنها كانت محدودة بالموارد المتاحة أصلاً .
خطة الجوع والسياسة الإبادة
يربط توز بشكل صارم بين الاقتصاد وأفظع جرائم النظام النازي. فـ "خطة الجوع" (Hunger Plan)، التي كانت تهدف إلى تجويع ملايين السكان المدنيين في بوليد والاتحاد السوفيتي، لم تكن مجرد وحشية أيديولوجية، بل كانت إجابة نازية على مشكلة اقتصادية .
مع التوسع شرقاً، كان هناك المزيد من الأفواه التي يجب إطعامها وأراضٍ يجب إدارتها. كان "الحل" هو تجويع "الشعوب الدنيا" أدني عنصريا
لتأمين الإمدادات الغذائية للجيش الألماني والمستوطنين المستقبليين . يجادل توز بأن الضغوط الاقتصادية والمواردية المتصورة ساهمت بشكل مباشر في سلسلة الأحداث التي أدت إلى المحرقة (الهولوكوست) .
تقييم نقدي وإرث الكتاب
نقاط القوة وإسهامات الكتاب
يقدم "The Wages of Destruction" إسهامات أساسية في فهم التاريخ النازي:
إعادة التركيز على الاقتصاد: يعيد الكتاب وضع العامل الاقتصادي في مركز فهمنا للنظام النازي، مع تقديم تحليل مادي لا يتجاهل استقلالية الأيديولوجيا السياسية .
تفكيك الأساطير: يحطم توز العديد من الأساطير المريحة، مثل كفاءة النظام غير العادية أو عدم رغبته في التضحية بمستوى معيشة الشعب، ويظهر أن الدولة استخدمت مواردها المحلية بشكل فعال وغير إنساني في كثير من الأحيان منذ البداية .
الربط بين الاستراتيجية والاقتصاد: يربط الكتاب بشكل مقنع بين المحدودية الاقتصادية والقرارات العسكرية الكبرى، مما يقدم تفسيراً متماسكاً للعدوانية النازية التي تبدو غير عقلانية .
النقد والمناقشات
رغم قوة الكتاب، فإنه يواجه بعض الانتقادات، أهمها:
إنجازات شبير: على الرغم من أن تحدي توز لـ "معجزة" شبير مقنع بشكل عام، إلا أن بعض المؤرخين لا يزالون يجادلون بأن مهارات شبير التنظيمية كان لها تأثير إيجابي ملموس على الإنتاج الحربي، حتى لو لم تكن "معجزة" .
الخاتمة
يخلص كتاب "The Wages of Destruction" لآدم توز إلى أن الطموحات الهائلة لهتلر – المتمثلة في خلق إمبراطورية ألمانية تستطيع منافسة الولايات المتحدة – اصطدمت بالواقع الاقتصادي الصارم المتمثل في ندرة الموارد والقوة الصناعية المحدودة لألمانيا .
لم تكن هزيمة الرايخ الثالث نتيجة لأخطاء تكتيكية أو لـ "معجزة" Speer، بل كانت محتومة في النهاية بسبب التناقض الأساسي بين أهداف النظام غير المحدودة تقريباً والوسائل الاقتصادية المحدودة المتاحة لتحقيقها .
لا يقدم الكتاب مجرد تاريخ اقتصادي لجزء من الحرب العالمية الثانية، بل يقدم إعادة تفسير شاملة لكيفية فهمنا للنازية
ليس كقوة شيطانية غير عقلانية بحتة، بل كحركة سياسية ذات منطق داخلي مشؤوم، حيث كانت الأيديولوجيا العنصرية والضرورة الاقتصادية متشابكين بشكل لا ينفصم
وقادا معاً إلى ارتكاب أبشع الجرائم وإلى الدمار الذاتي في النهاية. إن قوة الكتاب تكمن في نجاحه في إظهار كيف أن الاقتصاد كان في قلب مشروع الهيمنة النازية، من دفع الضرائب للعامل الألماني إلى خطة الجوع في الشرق، ومن التعاون مع كبار الصناعيين إلى الغزو اليائس للاتحاد السوفيتي
0 تعليقات