مسألة الأشياء لإين ماكغيلكريست

 

 "The Matter With Things" لإين ماكغيلكريست

مقدمة

كتاب "The Matter With Things" للطبيب النفسي والعالم العصبي إين ماكغيلكريست هو عمل ضخم يمتد على مجلدين، ويقدم رؤية ثورية لفهم الواقع، العقل، والوجود. يُعتبر هذا الكتاب امتدادًا لأفكاره السابقة في كتابه الشهير "The Master and His Emissary" (السيد ومبعوثه)، الذي ناقش فيه تمايز وظائف نصفي الدماغ وتأثير ذلك على الثقافة الغربية.

في هذا العمل الجديد، يذهب ماكغيلكريست إلى أبعد من ذلك، حيث يدمج بين علم الأعصاب، الفلسفة، الفيزياء الحديثة، وعلم النفس لطرح سؤال جذري: هل الطريقة التي نفكر بها تحجب عنا الحقيقة بدلًا من أن تكشفها؟

الكتاب ليس مجرد تحليل أكاديمي، بل هو دعوة لإعادة بناء رؤيتنا للعالم من الجذور، عبر دمج المعرفة العلمية مع البصيرة الفلسفية والروحية.


الجزء الأول: طبيعة الواقع ونماذج الفهم

1. الفجوة بين الإدراك والواقع

يبدأ ماكغيلكريست بمناقشة كيف أن إدراكنا للواقع ليس انعكاسًا مباشرًا له، بل هو بناء عقلي معقد. يستند إلى دراسات في علم الأعصاب الإدراكي لتوضيح كيف أن الدماغ يبني نموذجًا للواقع بناءً على المدخلات الحسية، لكن هذا النموذج قد يكون مضللًا.

  • دور نصفَي الدماغ: كما في كتابه السابق، يؤكد أن النصف الأيمن (المسؤول عن السياق، الحدس، والكلية) والنصف الأيسر (المسؤول عن التحليل، التجزيء، والمنطق) يقدمان رؤيتين مختلفتين للعالم.

  • هيمنة النموذج التحليلي: يجادل بأن الثقافة الغربية الحديثة تبالغ في تقديم النموذج التحليلي (النصف الأيسر) على حساب النموذج الكلي الحدسي (النصف الأيمن)، مما يؤدي إلى فهم مشوه للواقع.

2. الفيزياء الكمية وتحدي المادية

ينتقل ماكغيلكريست إلى الفيزياء الحديثة ليوضح أن النظرة المادية التقليدية (التي ترى الكون كآلة ميكانيكية) لم تعد كافية.

  • مفارقة الكم: يشير إلى أن الظواهر الكمية (مثل التراكب، التشابك الكمي) تتحدى فكرة الواقع الموضوعي المستقل عن الملاحظة.

  • العلاقة بين العقل والمادة: يستعرض نظريات مثل المثنوية الحيوية (Biopsychism) التي تقترح أن الوعاء قد يكون سمة أساسية في الكون، وليس مجرد نتاج ثانوي للمادة.

3. مشكلة الوعي

يخصص جزءًا كبيرًا لمسألة الوعي، التي تعتبر من أعظم الألغاز في العلم والفلسفة.

  • النظريات المادية مقابل النظريات الثنائية: يناقش إخفاقات النظريات المادية (مثل نظرية "الوعاء كظاهرة ثانوية للدماغ") ويقارنها بنظريات أكثر شمولية.

  • الظاهرة الأولية: يقترح أن الوعي قد يكون سمة أساسية للكون، مشابهًا لرؤية الفيلسوف ألفريد نورث وايتهيد.


الجزء الثاني: إعادة تصور العقل والمعرفة

4. حدود العقلانية والعلم

يحذر ماكغيلكريست من الخلط بين العلم كمنهج والعلموية (Scientism) كإيديولوجيا تدعي أن العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة.

  • النقد الفلسفي: يستشهد بفلاسفة مثل توماس كون (بنية الثورات العلمية) ومايكل بولاني (المعرفة الشخصية) ليوضح أن العلم يعتمد على افتراضات مسبقة ولا يمكنه الإجابة على كل الأسئلة.

  • دور الحدس والخيال: يؤكد أن الاكتشافات العلمية العظيمة غالبًا ما تأتي من الحدس (كما في حالة أينشتاين)، وليس من التحليل المنطقي الصرف.

5. المعرفة الكلية مقابل المعرفة التجزيئية

يعود إلى فكرة أن النصف الأيمن للدماغ يدرك العالم بطريقة كلية، بينما النصف الأيسر يحلله إلى أجزاء.

  • خطر اختزال الواقع: ينتقد النزعة الاختزالية (Reductionism) في العلم الحديث، التي تفسر الظواهر المعقدة (مثل الحب، الفن، الروحانية) بمجرد تفاعلات كيميائية أو عصبية.

  • الحاجة إلى تكامل المنظورات: يدعو إلى توازن بين التحليل والحدس، بين العقلانية والتجربة الذاتية.


الجزء الثالث: الروحانية وإعادة سحر العالم

6. العودة إلى البعد المقدس

يطرح ماكغيلكريست فكرة أن الفصل بين المقدس والدنيوي في العصر الحديث قد أفقد العالم معناه.

  • النقد التاريخي: يتتبع كيف أن الثورة العلمية في القرن السابع عشر (مع ديكارت ونيوتن) فصلت بين الذات والموضوع، مما أدى إلى اغتراب الإنسان عن الطبيعة.

  • إعادة السحر: يقترح أن الفن، الدين، والتجارب الصوفية تقدم طرقًا بديلة لفهم الواقع، تكمل المنهج العلمي.

7. الأخلاق والجمال كبوابات للحقيقة

يؤكد أن الجمال والأخلاق ليسا مجرد إنشاءات ثقافية، بل هما انعكاس لحقيقة أعمق.

  • الجمال كدليل على الحقيقة: يشير إلى أن الأعمال الفنية العظيمة والتناسق في الطبيعة يشيران إلى نظام كامن يتجاوز المادة.

  • الأخلاق كظاهرة كونية: يناقش كيف أن القيم الأخلاقية (مثل التعاطف، العدل) قد تكون جزءًا من بنية الكون، وليس مجرد اصطلاحات بشرية.


الخاتمة: نحو رؤية أكثر شمولًا

يختتم ماكغيلكريست بدعوة إلى "رؤية ثنائية العينين" (Binocular Vision)، أي دمج كلا نمطي التفكير (التحليلي والحدسي) لفهم أعمق للوجود.

  • التواضع المعرفي: يدعو إلى الاعتراف بحدود العقل البشري وفتح الباب أمام الأسرار التي تتجاوز فهمنا.

  • إعادة الاندماج مع العالم: يقترح أن الحل لأزماتنا (البيئية، الوجودية، الروحية) يكمن في استعادة التوازن بين العقل والقلب، بين العلم والروحانية.


تقييم عام للكتاب

"The Matter With Things" هو كتاب طموح وعميق، يقدم تحديًا جذريًا للافتراضات الأساسية في الثقافة الغربية. قوته تكمن في:

  1. الشمولية: دمج تخصصات متعددة (عصبونية، فيزياء، فلسفة، دين).

  2. النقد الجذري: لكثير من المسلمات العلمية والفلسفية السائدة.

  3. الرؤية التكاملية: التي ترفض الثنائيات الزائفة (مثل مادة مقابل روح، علم مقابل دين).

لكن الكتاب قد يكون معقدًا للقارئ غير المتخصص، كما أن بعض أفكاره تتعارض مع النظرة العلمية السائدة، مما قد يثير جدلًا.

باختصار، هذا العمل هو محاولة جريئة لإعادة تعريف كيف نعرف، وكيف نكون، وهو يستحق القراءة من أي شخص مهتم بأسئلة الوجود الكبرى

إرسال تعليق

0 تعليقات