ابنة القس لجورج أورويل
(1935): رحلة في دهاليز الفقر وفقدان الإيمان
الرواية وأهميتها الأدبية
صدرت رواية "ابنة القس" (A Clergyman’s Daughter) عام 1935 كثاني روايات جورج أورويل بعد "أيام بورمية"، وتُعدّ أكثر أعماله تجريباً من الناحية الأسلوبية، حيث تضمّنت فصلاً كاملاً مكتوباً بصيغة مسرحية . رغم ذلك، كره أورويل هذه الرواية لاحقاً ووصفها بأنها "هراء" (Bollocks)، وطلب ألا تُعاد طباعتها بعد وفاته، لكنه تراجع لاحقاً لاعتبارات مالية . تعكس الرواية تجارب أورويل الشخصية في العمل الموسمي والتشرد والتدريس، وتكشف عن بدايات تبلور رؤيته الناقدة للمجتمع الطبقي والاستغلال الاقتصادي.
الشخصيات الرئيسية: تشريح المجتمع الإنجليزي
دوروثي هير (Dorothy Hare):
ابنة القس، عانس في أواخر العشرينات (28 عاماً)، تعيش حياة العبودية لوالدها وتفقد ذاكرتها لاحقاً. تمثل نموذج المرأة المضطهدة في مجتمع ذكوري .
القس تشارلز هير (Rev. Charles Hare):
والد دوروثي، رجل أناني يفتقر للروحانية الحقيقية، يعيش مديوناً ويرفض دفع مستحقات التجار والعمّال بحجة أنهم "أدنى منه" .
السيد واربرتون (Mr. Warburton):
عازب في أواخر الأربعينات، ثري ومستهتر أخلاقياً، له ثلاثة أطفال غير شرعيين من عشيقته الإسبانية. يحاول إغواء دوروثي ويسبب فضيحتها .
السيدة سيمبرل (Mrs. Semprill):
نمّامة البلدة التي تنشر إشاعة هروب دوروثي مع واربرتون، تُقدّم لاحقاً للمحاكمة بتهمة القذف .
نوبي (Nobby):
متشرد يصادف دوروثي في لندن، يقودها لحقول الجنجل ثم يُعتقل لاحقاً بتهمة السرقة .
السيدة كريفي (Mrs. Creevy):
مديرة مدرسة خاصة بغيضة، تختزل التعليم في جني الأمواء، تعامل الطلاب حسب قدرة أهاليهم المالية .
الحبكة الروائية: رحلة السقوط والانكسار
الفصل الأول: سجن الواجب الديني
تبدأ الرواية في بلدة كنايب هيل (Knype Hill) الخيالية، حيث تعيش دوروثي حياةً أشبه بالعبودية:
تستيقظ الساعة ٦ صباحاً لتحضير فطور والدها، ثم تنهمك في أعمال الرعية: زيارة المرضى، جمع التبرعات، خياطة أزياء مسرحيات الكنيسة .
تمارس "تطهير الجسد" بوخز نفسها بدبوس عندما تخالجها أفكار "غير مسيحية"، رمزاً لقمع الذات .
في ليلة مصيرية، يحاول واربرتون اغتصابها (في المسودة الأصلية) أو إغواءها (في النسخة المنشورة)، وتراهما السيدة سيمبرل خلال مشاجرة بينهما، فتنشر إشاعة هروبهما معاً .
الفصل الثاني: عالم التشرد وفقدان الذاكرة
تستيقظ دوروثي في طريق نيوكينت بلندن بلا ذاكرة أو مال، مرتدية ملابس رخيصة وغريبة .
تلتقي المتشرد "نوبي" الذي يسرق ما تبقى معها من نقود ويأخذها مع رفاقه لحصاد نبات الجنجل (Hops) في كِنت:
يعيش العمال في أكواخ قذرة، ويتقاضون أجوراً زهيدة تُخفض تدريجياً مع تقدم الموسم.
يصف أورويل بشاعة الاستغلال: "نظام الأجر القطعي يخفي انخفاض الأجور" .
رغم المعاناة، تشعر دوروثي بنشوة غريبة من العمل اليدوي المتواصل .
الفصل الثالث: ليالي الجوع في ميدان ترافلجار (الجزء المسرحي)
بعد عودتها للندن، تنام دوروثي في ميدان ترافلجار مع مجموعة مشردين، في فصل مكتوب كـ"نص مسرحي":
حوارات متداخلة تكشف قصصهم: قسيس مُسحَب شهادته، امرأة طردها زوجها، شاب عاطل .
تهكم لاذع على النظام: الشرطي يأمرهم "اذهبوا للمنزل!" بينما لا منزل لهم .
تنتهي بتوقيف دوروثي واعتقالها .
الفصل الرابع: جهنم التعليم الخاص
يجدها قريب والدها السير توماس هير، ويوظفها في مدرسة السيدة كريفي:
المدرسة "من الدرجة الرابعة" في ضاحية لندنية، تهمل التعليم لصالح جني الأموال .
توزّع كريفي اللحم: "الجيد لأبناء الأثرياء، الدهني لأبناء الطبقة المتوسطة، وصناديق الغداء البنية للفقراء" .
تحبط كريفي محاولات دوروثي لتطوير مناهج التعليم الإبداعي تحت ضغط أولياء الأمور الذين يريدون "تعليماً عملياً" .
الفصل الخامس: العودة بلا إيمان
يعود واربرتون لينقذ دوروثي بعد سقوط سمعة السيدة سيمبرل بقضية قذف، ويعرض الزواج:
يحذّرها: "ستذبلين مثل نبات الأسبيدسترا في غرف المعيشة المظلمة" إن بقيتِ .
ترفضه رغم إدراكها أن حياتها السابقة فقدت معناها بعد فقدان إيمانها .
تعود لخدمة والدها، لكنها تتوقف عن وخز نفسها، وتواصل العمل كـ"طقس فارغ" بلا إيمان .
المواضيع الرئيسية: مرايا أورويل النقدية
1. النقد الاجتماعي والطبقي
استغلال العمال: تصوير حقول الجنجل يكشف آلية خفض الأجور واستغلال العمال الموسميين الذين "يعودون رغم أقوالهم أنهم لن يعودوا" .
تعليم الطبقات: نظام السيدة كريفي يجسّد تحويل التعليم لسلعة، حيث "المال هو الهدف، وليس تنمية العقول" .
النفاق الديني: القس تشارلز يكرّس الطبقية، وابنته تفقد إيمانها بعد رؤية تناقضات الكنيسة .
2. أزمة الإيمان وفقدان المعنى
تختزل جملة واربرتون: "الإيمان يختفي، لكن الحاجة للإيمان تبقى كما كانت" جوهر الأزمة .
عودة دوروثي للكنيسة بلا إيمان تطرح سؤالاً وجودياً: هل يمكن للحياة أن تحافظ على معناها بالطقوس فقط؟
3. اضطهاد المرأة والتحرر المفقود
تُصوَّر دوروثي كضحية متكررة: مستغَلة من والدها، مطارَدة جنسياً من واربرتون، مضطهدة في العمل .
رفضها الزواج ليس تحرراً، بل استسلاماً للقدر: "الزواج هو المستقبل الوحيد للمرأة بلا مال" .
4. التجريب الأسلوبي وتأثير الحداثة
فصل ترافلجار المسرحي يُعدّ تجربة جريئة بمحاكاة "اليوليسيس" لجيمس جويس، لكن النقاد وصفوه بالفشل .
فصل الحوار الدرامي يهدف لإبراز "اللاجدوى والاغتراب" لكنه يبدو مفككاً .
التجارب الشخصية لأورويل
التشرد: استند إلى تجربة أورويل عام 1931 عندما عاش متخفيًا بين المشردين .
قطاف الجنجل: استوحى التفاصيل من مذكراته خلال عمله في كِنت عام 1931، حيث وثق حياة العمال مثل "جينجر" و"ديفي" .
التدريس: عمل أورويل في مدرستين خاصتين: واحدة في هايز (20 طالباً) وأخرى في أوكسبريدج (200 طالب)، واستوحى من الثانية شخصية السيدة كريفي .
الخلفية الدينية: علاقته ببريندا سالكيلد (ابنة قس) التي رفضت زواجه لكنها بقيت صديقته ومستشارة أدبية .
الانتقادات والجدل حول الرواية
موقف أورويل من الطبقة العاملة
وصف العمال الغجُر ("الديديكيز") بأنهم "أغبياء بوجه شرقي وغباء حيواني" يعكس نظرة استعلائية .
التركيز على "رائحة الفقراء" في مشاهد زيارة المنازل: "رائحة الملفوظات، رائحة الملفوف، رائحة المعاطف المتعفنة" .
في "الطريق إلى رصيف ويجان" اعترف أورويل بوجود تحيز طبقي: "كنا نُربّى على أن الطبقات الدنيا كريهة الرائحة" .
القصور الفني
الحبكة المتعسفة: فقدان الذاكرة كـ"جهاز سردي" لربط تجارب أورويل المتناثرة (التشرد، الحصاد، التدريس) .
شخصيات أحادية: معظم الشخصيات (مثل السيدة كريفي) "ثنائية الأبعاد" ككاريكاتيرات .
نهاية مخيبة: عودة دوروثي لنقطة البداية دون تطور يذكر، مما يجعل الرحلة بلا معنى .
مقارنة مع أعمال أورويل الأخرى
الجانب | "ابنة القس" (1935) | "1984" (1949) | "الطريق إلى رصيف ويجان" (1937) |
---|---|---|---|
الموضوع | فقدان الإيمان والهوية | الشمولية ومراقبة الدولة | فقر الطبقة العاملة الصناعية |
الأسلوب | تجريبي (فصل مسرحي) | واقعية كابوسية | تحقيق صحفي واقعي |
البطل | دوروثي (ضحية اجتماعية) | وينستون (مناضل فاشل) | الراوي/أورويل (مراقب) |
الرسالة | نقد الرأسمالية الصغيرة | نقد الشمولية | نقد الرأسمالية الصناعية |
رواية مهمشة لكنها كاشفة
رغم تبرؤ أورويل منها، تظل "ابنة القس" عملاً أساسياً لفهم تطوره الفكري والأدبي:
سيرة غير مباشرة: تكشف تجاربه مع الفقر والتدريس وفقدان اليقين .
نبوءة مبكرة: شخصية دوروثي التي تقبل القمع تطوعياً تمهد لـ"بروستار" في "1984" .
مرآة للمجتمع: فضحها لاستغلال التعليم والعمل والكنيسة يحتفظ بأهميته اليوم.
كما كتب أورويل في الفصل الخامس: "المعتقدات تتغير، الأفكار تتغير، لكن هناك جزءاً داخلياً في الروح لا يتغير. الإيمان يختفي، لكن الحاجة للإيمان تبقى كما كانت". هذه الجملة تُختصر تراجيديا دوروثي وربما تراجيديا الإنسان الحديث الذي يواصل الطقوس بلا يقين
0 تعليقات