دع الزنبقة تطير لجورج أورويل
(1936)
الخلفية التاريخية
"دع الزنبقة تطير" (Keep the Aspidistra Flying) هي الرواية الثالثة لجورج أورويل، نُشرت عام 1936 في خضم الكساد الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية في بريطانيا.
كتبها أورويل خلال فترة عاش فيها فقراً نسبياً، عاملاً في متجر للكتب المستعملة في لندن، وهي تجربة استوحى منها تفاصيل حياة بطل الرواية . تعكس الرواية هاجس أورويل بالنقد الاجتماعي والطبقي، وتكشف عن تناقضاته الشخصية: فبينما كان ينتقد الرأسمالية، اعترف لاحقاً أنه كتب هذه الرواية بدافع الحاجة المالية، واصفاً إياها بأنها "مُخجلة" لأنه لم يكن "يمتلك كتاباً بداخله" حينها . رغم ذلك، تُعد الرواية عميقاً في تحليلها لعلاقة الإنسان بالمال والهوية.
تحليل نفسي واجتماعي
1. غوردون كومستوك: الشاعر المُدان بالفشل
الملامح النفسية: شاعر في الثلاثين، يعاني من تناقض وجودي: يرفض عبادة "إله المال" (كما يسميه)، لكنه مُهووس به. يعيش في غرفة رخيصة، ويعمل في مكتبة "مكيتشي" بأجر زهيد (جنيهان أسبوعياً)، ويرفض أي مساعدة مالية حتى من أقرب أصدقائه .
صراعاته الداخلية:
الفشل الإبداعي: نشر ديواناً شعرياً بعنوان "فئران" (Mice) لم يبع سوى 153 نسخة، ويحمل معه قصيدة "ملذات لندن" غير المكتملة كرمز لفشله .
العنصرية الطبقية: يحتقر الطبقة الوسطى لكنه عاجز عن الهروب من قيمها. يرفض أن تدفع حبيبته ثمن وجبتهما، لأنه يعتبر ذلك "إهانة لرجولته" .
تطور الشخصية: يصل إلى حضيضه عندما يُعتقل لإهانة شرطي في حالة سكر، ثم يستسلم أخيراً للزواج والعمل في الإعلانات بعد حمل حبيبته .
2. روزماري ووترلو: الحبيبة الواقعية
دورها الدرامي: تعمل كفنانة تجارية في وكالة "نيو ألباين"، وتتحمل غضب غوردون المتكرر بسبب فقره. تمثل "المنطق" في مواجهة "المثالية" العمياء .
رمزية العلاقة: علاقتهما تعكس استحالة الحب في ظل الفقر. لقاؤهما في السوق الشعبي، ومحاولاته الفاشلة لإقناعها بممارسة الجنس، ورحلتهما الكارثية إلى الريف، كلها تفاصيل تبرز كيف يحول المال دون العلاقات الحميمة .
3. فيليب رافليستون: الصديق الثري المُتناقض
التجسيد الحي للنفاق الطبقي: محرر مجلة "المسيح الدجال" الماركسية، لكنه يرث دخلاً سنوياً يقارب 2000 جنيه (ثروة في تلك الحقبة). يشعر بالذنب لثرائه لكنه يعيش في فخامة .
علاقته بغوردون: يحاول مساعدته بنشر قصائده وإقراضه المال، لكن غوردون يرفض، مما يكشف عن استحالة الصداقة الحقيقية بين طبقتين مختلفتين .
4. شخصيات ثانوية: مرايا المجتمع
جوليا كومستوك: أخت غوردون التي ضحت بمستقبلها لتعليمه، تعمل 72 ساعة أسبوعياً وتجسد معاناة المرأة العاملة .
السيد مكيتشي: صاحب المكتبة الاسكتلندي، يمثل صورة "الرأسمالي الطيب" الذي يتسامح مع فوضى غوردون .
السيدة ويسبيش: المالكة المتشددة لمسكن غوردون، تمنع الطبخ أو استقبال النساء، رمزاً لقمع البرجوازية الصغيرة .
التحليل الاجتماعي: المال، الطبقة، والزنبقة كرمز
1. المال كـ"إله معاصر"
يستهل أورويل الرواية باقتباس من الإنجيل (كورنثوس 13) يستبدل كلمة "المحبة" بـ"المال"، ليخلق عقيدة مرعبة:
"لو امتلكتُ كل إيمانٍ يُزيل الجبال، لكني لا أمتلك المال، فأنا لا شيء" .
غوردون يرى أن المجتمع حوَّل المال إلى دين جديد، حيث تحل "النقود" محل "الله"، و"النجاح" محل "الفضيلة". حتى المشاعر الإنسانية كالحب تصبح مستحيلة دون مال، كما يظهر في علاقته مع روزماري .
2. الزنبقة (الأسبيديسترا): نبتة الطبقة الوسطى
الرمز التاريخي: نبتة الأسبيديسترا كانت شائعة في المنازل الفيكتورية لقدرتها على تحمل ضوء الشمس الخافت وأبخرة مصابيح الغاز. بحلول الثلاثينيات، أصبحت نكتة في المسارح، ترمز لـ"الرتابة البرجوازية" .
دلالتها في الرواية:
تمثل الخنوع للنظام الاجتماعي: "لن تكون ثورة في إنجلترا طالما تُزيّن الأسبيديسترا نوافذنا" .
غوردون يمقتها لكنه عاجز عن قتلها، كما هو عاجز عن الهروب من النظام الرأسمالي.
في النهاية، يشتري غوردون زنبقة بعد استسلامه، كرمز لقبوله "عبادة المال" .
3. الفقر كسجن ذاتي
يصور أورويل الفقر كحالة تشلّ العقل قبل الجسد:
غوردون يدخل في حلقة مفرغة: رفضه للعمل الجيد يدفعه لفقرٍ يُرغمه على التفكير بالمال 24 ساعة، فيصبح أكثر انغماساً فيه من أي رأسمالي .
مشاهد "الحسابات اليومية" تكشف ذلك:
"بعد دفع الإيجار والفواتير، يتبقى 10 بنسات للطعام... كم بيضة يمكنني شراؤها؟" .
الأسلوب الأدبي: بين السخرية والواقعية القاتمة
1. السخرية كسلاح نقدي
يسخر أورويل من غوردون نفسه: مثاليته تتحول إلى "أنانية وحشية". مشهد إلقائه مخطوط "ملذات لندن" في البالوعة هو ذروة سخرية من فشل التمرد الرومانسي .
يهاجم التناقضات الطبقية: رافليستون الماركسي الذي يمتلك سيارة فاخرة، والطبقة العاملة التي تحتقر الفقراء أكثر من الأغنياء .
2. الوصف الحسي للفقر
يستخدم أورويل تفاصيل حسيّة لتصوير البؤس:
"غرفة وحيدة... سراب بلا فراش... غبار ورماد سجائر... أوراق الزنبقة المتسخة... قدماه الصغيرتان القذرة اللتان لم تغتسلا منذ عشرة أيام" .
هذه الصور تجعل القارئ يشعر بثقل الفقر جسدياً.
النقد الذاتي: لماذا اعتبر أورويل الرواية "فاشلة"؟
اعتراف المؤلف: في رسالة للناقد جورج وودكوك (1946)، وصف الرواية بأنها "كُتبت كتمرين... لم يكن لدي كتاب بداخلي، لكن الجوع أجبرني" .
الإشكاليات الفنية:
شخصية غوردون "غير محبوبة" مقارنة بأبطال روايات أخرى مثل "1984" .
الحبكة متكررة: مشاهد الفقر والصراخ ضد المال تُطرح مراراً دون تطور عميق .
رغم ذلك: النقاد المعاصرين يرون أنها تكشف تناقض أورويل نفسه، الذي عانى من الفقر لكنه احتفظ بقيم برجوازية (كاحتقاره "رائحة الفقراء" في كتابه "الطريق إلى رصيف ويجان") .
الإرث الأدبي والتأثير الثقافي
الترجمات والعنوان: تُرجمت الرواية بعناوين مختلفة تعكس رمزية النبتة:
بالألمانية: "بهجة الأسبيديسترا".
بالإسبانية: "لا تدع الأسبيديسترا تموت".
بالعربية: "دع الدريقة تطير" أو "دع الزنبقة تطير" .
التأثير في الأدب:
هنري ميلر استخدم جملة "أبقِ الأسبيديسترا محلقة!" في روايته "نيكسوس" (1959) كإشارة لأورويل .
الناقد نورمان ميلر وصفها بأنها "مثالية من الصفحة الأولى للأخيرة" في حوار مع بي بي سي (1971) .
الفيلم المقتبس: أنتج عام 1997 بعنوان "A Merry War" (حرب مرحة)، تغاضى عن الجانب المظلم وركز على الكوميديا .
رسالة الرواية في عالم اليوم
رغم كل عيوبها، تظل "دع الزنبقة تطير" مرآة لقضايا معاصرة:
صراع الأجيال: تمرد الشباب على النظام المالي (مثل حركات "احتلال وول ستريت")، وانتهاؤهم لقبوله تحت ضغط "المسؤوليات".
وهم الحرية: غوردون الذي ظن أن الفقر سيحرره، اكتشف أنه سجّنه في هوسٍ أكثر قسوة.
الزنبقة الحديثة: رموز الخنوع اليوم لم تعد نباتات، بل قروض سكنية أو هواتف ذكية.
كما كتب أورويل في مقال "لماذا أكتب؟" (مرافق لبعض طبعات الرواية):
"كل سطر كتبته منذ 1936 كان ضد الشمولية ودفاعاً عن الاشتراكية الديمقراطية" .
هذه الرواية، رغم قسوتها، هي جزء من ذلك الدفاع: تحذير من أن التمرد يجب أن يكون ضد النظام لا ضد الحياة نفسها.
تحليل شخصية غوردون كومستوك
الجانب | التمظهر في الرواية | الدلالة الرمزية |
---|---|---|
العلاقة بالمال | يرفض وظيفة جيدة في الإعلانات، يعيش على 2 جنيه أسبوعياً، لكنه يهدر 5 جنيهات في ليلة سُكر. | التناقض بين المثالية والسلوك البشري. |
العلاقة بالحب | يضغط على روزماري جنسياً لكنه يرفض زواجاً دون مال. | سيطرة المادة حتى على المشاعر. |
العلاقة بالإبداع | يكتب قصائد "ميتة" عن فكرة أن "كل شيء ميت". | العجز عن الخلق في ظل كراهية الذات. |
تطور رمز الزنبقة
مرحلة الرواية | السياق | الدلالة |
---|---|---|
البداية | زنبقة ذابلة في غرفة غوردون. | مقاومة خفية للنظام. |
المنتصف | غوردون يتعمد إهمال الزنبقة لكنها لا تموت. | استحالة الهروب من الرأسمالية. |
النهاية | شراء زنبقة جديدة بعد الزواج والعمل في الإعلانات. | الاستسلام والاندماج في الطبقة الوسطى |
0 تعليقات