تشريح التحالف غير المقدس
أهمية الكتاب وموقع المؤلف الفريد
إن كتاب "باكستان بين المسجد والجيش" (2005) للدبلوماسي والأكاديمي الباكستاني حسين حقاني يعتبر عملاً مؤسساً في فهم الديناميات الجوهرية للدولة الباكستانية.
يأتي حقاني (مواليد 1956) بخلفية فريدة كسفير سابق لباكستان لدى الولايات المتحدة وسريلانكا، ومستشار لرؤساء وزراء باكستانيين، وناشط سابق في الحزب الإسلامي الباكستاني، مما يمنحه رؤية داخلية لا مثيل لها .
يقدم الكتاب تحليلاً تاريخياً وسياسياً لـ"التحالف غير المقدس" بين المؤسسة العسكرية والجماعات الإسلامية الذي شكّل هوية باكستان وسياستها منذ الاستقلال عام 1947.
الأطروحة المركزية: ثلاثية "الإسلام، العداء للهند، الدعم الخارجي"
يرى حقاني أن الدولة الباكستانية تقف على ثلاثية أيديولوجية-سياسية:
الإسلام كأداة توحيد هوياتي لشعب متعدد الأعراق واللغات.
العداء لـ الهند كمرتكز للهوية الوطنية.
الاعتماد على الدعم الخارجي (خاصة أمريكياً) لتمويل الترسانة العسكرية الموجهة ضد الهند .
هذه الثلاثية خدمت المصالح المشتركة للنخب العسكرية والجماعات الإسلامية، لكنها حولت باكستان إلى "دولة أيديولوجية" عاجزة عن تحقيق الاستقرار أو التنمية.
التطور التاريخي للتحالف: من التأسيس إلى التمكين
مرحلة التأسيس (1947-1977):
استغلت النخب الحاكمة خطاب "الخطر الهندوسي" لتبرير الهوية الإسلامية للدولة الوليدة، متجاهلة رؤية محمد علي جناح لدولة علمانية.
أول دستور (1956) أعلن باكستان "الجمهورية الإسلامية" تحت ضغط جماعات مثل "جماعة الإسلامي" بزعامة أبو الأعلى المودودي .
الجيش (بقيادة أيوب خان) استخدم الإسلام لتبرير الانقلابات وترهين الديمقراطية.
عهد ذو الفقار علي بوتو (1971-1977):
رغم شعبويته الاشتراكية، استرضى بوتو الإسلاميين عبر:
إعلان "العقيدة أحمدية" كفئة غير مسلمة (1974).
حظر الخمر والقمار.
تبني لغة "الإسلام الاشتراكي" .
هذه التنازلات مهدت الطريق لوصول الإسلاميين المتشددين لاحقاً.
الدكتاتورية الإسلامية لضياء الحق (1977-1988):
مثلت الذروة الخطيرة للتحالف. أدخل ضياء:
"قوانين الحدود" (عقوبات إسلامية).
أسلمة التعليم (مناهج تروج للجهاد والكراهية الطائفية).
تمويل وتدريب الجماعات الجهادية في أفغانستان ضد السوفييت بدعم أمريكي-سعودي .
تحولت المخابرات الباكستانية (ISI) إلى "دولة داخل الدولة" تدير شبكات الجهاد.
ما بعد ضياء (1988-2001):
رغم عودة الديمقراطية الشكلية، استمر الجيش في:
خلق جماعات جهادية في كشمير (مثل "لشكر طيبة").
دعم حركة طالبان الأفغانية لضمان "عمق استراتيجي" ضد الهند .
الأحزاب العلمانية (مثل حزب الشعب بزعامة بينظير بوتو) اضطرت لمسايرة الخط الإسلامي خوفاً من الجيش.
جدول يلخص تطور العلاقة بين المسجد والجيش عبر العهود:
الفترة الزمنية | السيطرة السياسية | أبرز آليات التحالف | نتائج رئيسية |
---|---|---|---|
1947-1971 | عسكرية/مدنية متناوبة | توظيف الإسلام لترهين الديمقراطية | ترسيخ هيمنة الجيش، انفصال بنغلاديش 1971 |
1971-1977 | حكم مدني (بوتو) | تنازلات بوتو للإسلاميين لتأمين الحكم | تمهيد الطريق لأسلمة الدولة |
1977-1988 | دكتاتورية عسكرية | أسلمة مؤسساتية، دعم الجهاد الأفغاني | ولادة "دولة الجهاد"، تطرف المجتمع |
1988-1999 | ديمقراطية هشة | جيش يدير "سياسة عمق" عبر الجهاد (كشمير/أفغانستان) | صعود طالبان، عزلة دولية |
1999-2008 | دكتاتورية عسكرية | تعاون انتقائي مع أمريكا مع استمرار دعم الجهاد | ازدواجية سياسية، تصاعد العنف الداخلي |
آليات التحالف: المصالح المشتركة والأدوار المتكاملة
الجيش: الإسلام كأداة شرعنة وبقاء:
استخدم القادة العسكريون (مثل ضياء الحق، مشرف) الخطاب الديني لتبرير انقلاباتهم وقمع المعارضة.
وظفوا المخاوف الأمنية" (الهند) لتحويل الجيش إلى "المؤسسة الأقدس" في الدولة، وابتلاع الموازنة .
حولوا الجهاد إلى "أداة سياسة خارجية منخفضة التكلفة" في كشمير وأفغانستان.
المسجد: الجيش كراعٍ وواصٍ:
حصلت الجماعات (مثل "جماعة الإسلامي"، "جمعية علماء الإسلام") على حماية سياسية، تمويل، ومنصات دعوية عبر وسائل الإعلام الرسمية.
استفادت من "أسلمة" النظام التعليمي والقانوني لتوسيع نفوذها الاجتماعي.
أصبحت شبكات المدارس الدينية (المدارس) مصنعاً لتجنيد المقاتلين وتصدير الجهاد .
الولايات المتحدة: الداعم غير المقصود:
في فترات الحرب الباردة (الثمانينيات) والحرب على الإرهاب (بعد 2001)، قدمت واشنطن مساعدات عسكرية واقتصادية ضخمة للجيش الباكستاني.
تجاهلت عن عمد الازدواجية الباكستانية (مثل إيواء طالبان والقاعدة) لضمان تعاون تكتيكي .
ساهمت هذه السياسات في تعزيز قبضة الجيش على الدولة وإفلاته من المحاسبة.
جدول يوضح آليات الاستخدام المتبادل بين المؤسستين:
الجيش يستخدم المسجد | المسجد يستخدم الجيش |
---|---|
شرعنة الانقلابات والحكم العسكري باسم حماية الإسلام | حماية قانونية وسياسية من الملاحقة |
تعبئة شعبية لخدمة الأجندات العسكرية (كشمير/أفغانستان) | تمويل وتسهيلات لإنشاء المدارس والشبكات الدعوية |
تجنيد مقاتلين للعمليات "غير الرسمية" عبر المدارس الدينية | تغلغل اجتماعي عبر أسلمة التعليم والقضاء |
كبح التطلعات الديمقراطية بذراع "الأخلاق الإسلامية" | قمع الجماعات الإسلامية المنافسة |
نماذج تطبيقية: كشمير، أفغانستان، والتمدد الجهادي
كشمير:
حوّل الجيش النزاع إلى "جهاد مقدس"، وأنشأ جماعات مثل "لشكر طيبة"، مستغلاً التدين الشعبي. حقق مكاسب تكتيكية لكنه عمق العداء الهندي وعرض باكستان لعقوبات دولية .أفغانستان وتدخل المخابرات (ISI):
في الثمانينيات: دعم المجاهدين ضد السوفييت (بتمويل أمريكي-سعودي)، مما أدى لتمكين المتشددين.
في التسعينيات: اختراع حركة طالبان (1994) وتمكينها (1996-2001) لضمان حكم "صديق" في كابول. المدارس الدينية في باكستان (خاصة "الحقانية" و"البنورية") كانت الحاضنة الرئيسية .
بعد 2001: الازدواجية بين التعاون مع أمريكا واستمرار دعم طالبان كـ"ورقة ضغط" .
التداعيات الداخلية:
"تصدير الجهاد" عاد كـ"ارتداد" (Blowback): تفجيرات داخل باكستان (مثل ضد مساجد شيعة).
تآكل الدولة المدنية: صعود جماعات مثل "تحريك طالبان باكستان" (TTP) التي هاجمت الجيش نفسه .
عزلة دولية: وضع باكستان في "القائمة الرمادية" للفايتف (FATF) لتمويل الإرهاب.
نقد "عقيدة باكستان" وحلول حقاني
يقدم حقاني نقداً جذرياً للعقيدة الرسمية:
الهوية الإسلامية المتشددة حولت الأقليات (الشيعة، المسيحيين، الأحمديين) إلى "مواطنين من الدرجة الثانية" .
العداء للهند أصبح "صنماً" يُضحّى من أجله بالتنمية والتعليم والصحة.
الاعتماد على أمريكا أنتج علاقة "انتهازية" غير قائمة على الثقة أو المصالح المشتركة الدائمة .
الحلول المقترحة:
التحول إلى "دولة وظيفية":
أولوية تلبية حاجات المواطن (تعليم، صحة، بنية تحتية) بدلاً عن الأوهام الإمبراطورية.
فصل الدين عن السياسة بشكل عملي، واحترام التعددية .
إصلاح التعليم:
إزالة المناهج التي تروج للكراهية و"الجهاد الهجومي".
استبدالها بمناهج تعزز المواطنة والتفكير النقدي .
إخضاع الجيش للمساءلة المدنية:
إنهاء "الدولة العميقة" ووصاية المخابرات (ISI) على السياسة الخارجية والأمن.
تقليص النفوذ الاقتصادي للجيش (الذي يسيطر على قطاعات صناعية كبرى) .
تطبيع العلاقات مع الهند:
فض النزاعات (كشمير) عبر الحوار لا "الجهاد".
تحويل الموارد من التسلح إلى التنمية .
تقييم الكتاب والاستقبال النقدي
القوة:
العمق التاريخي والتحليل الهيكلي لـ"الدولة العميقة".
الجرأة في كشف المحرمات (دور المخابرات، التمويل الخارجي للجهاد) .
الانتقادات (من خصومه):
اتهامه بـ"الخيانة" وخدمة أجندة غربية (نتيجة منفاه في أمريكا).
تجاهل دور العوامل الخارجية (كالهند وأمريكا) في تغذية الأزمة الباكستانية .
التأثير:
أصبح مرجعاً أساسياً في الأكاديميا والعلاقات الدولية لفهم باكستان.
أشاد نقاد مثل أندرو باسيفيتش وتيريزيتا شافير بشموليته وجرأته .
باكستان على مفترق طرق
يخلص حقاني إلى أن باكستان تواجه خياراً مصيرياً:
الاستمرار في "عقيدة الثلاثية" (الإسلام، العداء للهند، التبعية للخارج) مما يهدد بتحولها إلى "دولة فاشلة" تغلي بالعنف الطائفي والتطرف.
أو تبني التحول إلى "دولة وظيفية" تحقق لشعبها الأمن والعدالة والكرامة، وتتعامل مع جيرانها بندية وسلام.
الكتاب ليس تشخيصاً متشائماً فحسب، بل أيضاً نداء استغاثة لوطن من دبلوماسي مثقف يؤمن بإمكانية إنقاذه عبر مراجعة جريئة لأسس وجوده. كما يذكرنا في إحدى مقولاته:
"التظاهرات والأزمة السياسية الحالية في باكستان ما هي إلا أعراض لمرض خطير: أن الجيش الباكستاني حكم البلاد نصف عمرها بعد الاستقلال، مؤكداً رغبته في السيطرة على السياسة الخارجية والأمنية مرة أخرى" .
يبقى السؤال: هل تستمع النخب الباكستانية إلى صيحات حقاني قبل فوات الأوان؟ التاريخ وحده سيجيب، لكن الكتاب يقدم خارطة طريق لا غنى عنها لكل من يريد فهم تعقيدات هذه الأمة المسلحة نووياً والمحاطة بأزمات من صنعها
0 تعليقات