"تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب" لمجيد طوبيا
السياق العام للسلسلة الروائية
تعد "تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب" (1992) الجزء الثاني من ملحمة أدبية متعددة الأجزاء للروائي المصري مجيد طوبيا (1938–2022)، بعد الجزء الأول "إلى بلاد الشمال" (1988). تدخل الرواية ضمن الأعمال التاريخية الملحمية التي تستلهم التراث العربي والسير الشعبية، وقد اختيرت ضمن قائمة أفضل 100 رواية عربية في القرن العشرين حسب اتحاد الكتاب العرب . تُقدّم الرواية سرداً مميزاً لرحلات عائلة حتحوت المصرية عبر حقب زمنية مضطربة، ممزوجةً بالأسطورة والواقع السياسي.
التحليل البنيوي للرواية: الرحلة كإطار سردي
1. حبكة الاستمرار والفرار
البداية المتصلة: تبدأ الأحداث مباشرة بعد نهاية الجزء الأول، حيث يهرب حتحوت (الحفيد) وصديقه "الشاطر" إلى جنوب مصر بعد قتله لجندي فرنسي أثناء مقاومة الاحتلال، خوفاً من الملاحقة .
دوافع الرحلة: ليست الهروب فقط، بل أيضاً تحقيق نبوءة العرافة التي تنبأت بأن "الطفل القادم يتغرب تغربتين: شمالاً وجنوباً" .
2. مسار الرحلة الجغرافي
تشكل الرحلة خريطة ممتدة من صعيد مصر إلى أعماق إفريقيا:
صعيد مصر والنوبة: نقطة الانطلاق.
أرض الشايقية (شمال السودان): حيث يواجه الأبطال قبائل محلية.
دارفور: المحطة الأبرز، يشهدون فيها انقلاب السلطان محمد محمد فضل عام 1804 .
بلاد الرنكا ومنابع النيل: يصلون إلى بحيرة "أكروي" (التي سماها الإنجليز لاحقاً "فيكتوريا") .
3. التحولات الدرامية
الأسر والتحرر: يُؤسر حتحوت وصديقه في دارفور، تمهيداً لسلسلة من الهروب والمواجهات.
المفارقة التاريخية: يلتحق حتحوت لاحقاً مع حملة إسماعيل بن محمد علي باشا لمطاردة المماليك في السودان، فيتحول من لاجئ إلى جندي في جيش غازٍ .
الشخصيات: تمثيلات الصراع الإنساني
أ. الشخصيات المحورية
حتحوت: يجسد المهزوم الباحث عن كرامته، من فلاح مصري بسيط إلى مقاتل ومنفي. تظهر فيه تناقضات الولاء والبقاء.
الشاطر: صديق حتحوت الوفي، يمثل الحكمة الشعبية ومرونة التكيّف في الأزمات.
السلطان محمد فضل (في دارفور): نموذج الطاغية الخائف، حيث يعلق الراوي: "التجبر قرين الخوف، كلما تعظم الإنسان خاف فقدان سلطته" .
ب. شخصيات تاريخية وسياقية
إسماعيل بن محمد علي: قائد الحملة المصرية على السودان، يُصوَّر قاسياً ومتغطرساً، خاصة في تعامله مع الفلاحين السودانيين، مما أدى إلى مقتله .
القبائل الأفريقية: تُقدّم ككيان جماعي يعكس تنوع الثقافات ومقاومة الاستعمار الداخلي (المصري) والخارجي (الإنجليزي).
البعد التاريخي والجغرافي: توثيق زمني متقن
1. السياق السياسي
نهاية الاحتلال الفرنسي لمصر (1801): نقطة انطلاق الرواية.
صراعات ما بعد الفرنسيين: فراغ السلطة بين المماليك، العثمانيين، والأطماع الأوروبية.
التوسع المصري في السودان: حملة إسماعيل باشا (1820–1821) التي تصفها الرواية كـغزو وحشي، حيث يُقتل إسماعيل بسبب "سوء تصرفه" مع السكان .
2. الجغرافيا كشخصية روائية
النيل كرمز للجبروت والخلاص: يتحول من نهر الحياة في مصر إلى طريق للمجهول في الجنوب.
دارفور: تُصوَّر كـمملكة مضطربة بعد الانقلاب، مع إسقاطات على صراعاتها الحديثة.
بحيرة فيكتوريا (أكروي): ترمز لـالاستعاضة عن الهوية المحلية بأسماء مستعمرة .
الأبعاد الفنية والأسلوبية: بين التراث والحداثة
1. تقنيات السرد
اللغة الهجينة: تجمع بين الفصحى والعامية المصرية، مع إدخال مصطلحات تاريخية مثل "الوجاقلية" و"الغليونجية" (مصطلحات عثمانية) .
الاسترجاع (الفلاش باك): يكشف عن حياة حتحوت في المنيا قبل التغريبة، مثل زواج أبيه "رضوان" من "أم الخير" رغم الفقر .
الحوار المكثف: يحمل دلالات فلسفية، مثل حوار الشيخ لرضوان: "أهرباً من مليحة أم سعياً وراءها؟" .
2. توظيف التراث
السيرة الشعبية: تُبنى الرواية على غرار "التغريبة" كجنس أدبي (مثل تغريبة بني هلال).
الخرافة والنبوءة: كالنبوءة التي قادت مسار الأحداث، والرقى ضد الحسد التي وضعتها أم رضوان في طفولته .
الأمثال الشعبية: مثل "نحن كالنمل: ما نجمعه في عام يأخذه الجمل في لحظة" .
السمات الفكرية والموضوعات المركزية
1. الهوية والغربة
الغربة المزدوجة: جغرافياً (من الشمال للجنوب)، ونفسياً (من الفلاح الحر إلى الأسير أو الجندي).
سؤال الهوية المصرية: عبر تتبع مسار العائلة من المنيا إلى منابع النيل، تطرح الرواية: أين ينتهي "المصري" ويبدأ "الآخر"؟
2. السلطة والاستبداد
النقد المباشر للطغاة: سواء الفرنسيين، المماليك، أو إسماعيل باشا، مع تأكيد أن "الجبروت يولد الخوف" .
مقاومة المستضعفين: تمرد الفلاحين السودانيين مثال على الكرامة المهزومة سلاحاً، المنتصرة أخلاقياً.
3. الحرب والسلم
عبثية العنف: تُظهر الرواية أن القتال – حتى دفاعاً عن الوطن – قد يجرّ إلى دوامة عنف جديدة (مثل تحول حتحوت من مقاوم إلى غازٍ).
الحكمة الإنسانية: عبر مقولة: "اترك بعض الكرامة للرجل المهزوم" .
المكانة النقدية والإرث الأدبي
جسر بين الموروث والمعاصر: تجمع الرواية بين تقنيات الرواية الحديثة (تعدد الأصوات، التكثيف الرمزي) والحكايات الشعبية، مما جعلها نموذجاً لـ"التراث الجديد" .
تأثير طوبيا: حصل على جائزة الدولة التقديرية 2014 تقديراً لأعماله، وكُتبت عن الرواية رسائل دكتوراه في جامعات عالمية (السوربون، روما، وارسو) .
نقد التوسع العثماني-المصري: تُعد وثيقة أدبية تكشف وحشية الحملات العسكرية في السودان، بتصوير مقتل إسماعيل باشا نتيجة سياساته .
لماذا تظل الرواية حية؟
"تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب" ليست مجرد رواية تاريخية، بل هي مرآة لأزمات متجددة: الغربة، صراع الهوية، ومواجهة الاستبداد. ببراعة فنية، يحوّل طوبيا الجغرافيا إلى كيان نابض، والتاريخ إلى حكاية إنسانية شاملة. الرواية – مع جزئها الأول – تشكل ملحمة مصرية عن الانتماء والاغتراب، تثبت أن الأدب العربي قادر على خلق عالم روائي يضاهي "الواقع" عمقاً وتشعباً
0 تعليقات