رواية نيتوتشكا نزفانوفا
منظور لأعمال دوستويفسكي غير المكتملة
لغز الرواية الأيقونية غير المكتملة
تُمثّل رواية نيتوتشكا نزفانوفا (1846-1849) للروسي فيودور دوستويفسكي عملاً أدبياً فريداً في مسيرته الإبداعية.
ليس فقط لكونها الرواية الوحيدة التي كتبها بضمير المتكلم من منظور أنثوي، بل أيضاً لأن الظروف التاريخية حوّلت مصيرها إلى رواية غير مكتملة، تُركت كـأثر أدبي مقطوع الأوصال بعد اعتقال الكاتب ونفيه إلى سيبيريا عام 1849.
اسم "نزفانوفا" المشتق من "نيزفاني" الروسية يعني "غير المدعوة" أو "التي جاءت بغير دعوة"، وهو اسم يحمل دلالات عميقة حول وضع البطلة الوجودي والاجتماعي .
رغم نشر ثلاثة أجزاء فقط من أصل ستة مجلدات مُخطّط لها، تبقى هذه الرواية نافذة نفسية فريدة على عالم دوستويفسكي المبكر، حيث تُقدّم بذوراً فكرية وفنية تطورت لاحقاً في روائعه الكبرى.
لماذا بقيت الرواية بلا نهاية؟
الخطة الطموحة: بدأ دوستويفسكي العمل على الرواية عام 1848 كـ"اعتراف" ضخم يغطي حياة امرأة من الطفولة إلى النضج، وقد صرّح في رسائله بأنها ستكون "شيئاً رئيسياً" في مسيرته، لكنه لم يُكمل سوى المقدمة التي ترسم خلفية الطفولة والمراهقة .
جريمة الفكر: في 23 أبريل 1849، اعتُقل دوستويفسكي بسبب انتمائه لـ"رابطة بيتراشيفسكي" الأدبية السرية التي كانت تناقش كتباً ممنوعة. حُكم عليه بالإعدام، ثم خُفّف الحكم في اللحظة الأخيرة إلى أربع سنوات أعمال شاقة في سجن أومسك بسيبيريا .
الانقطاع الأبدي: بعد عودته من المنفى عام 1859، لم يستأنف دوستويفسكي العمل على الرواية، تاركاً شخصياته ومصائرها معلقة في فضاء الأدب. نُشر الجزء الثالث في مايو 1849 دون توقيعه، أثناء وجوده في الحصن .
الأجزاء الثلاثة المكتملة
تنقسم الرواية المنشورة إلى ثلاثة أقسام متمايزة، تعكس التحولات الجذرية في حياة البطلة:
القسم الأول: طفولة في ظل الجنون (الفصول 1-3)
العائلة المشوّهة: تعيش نيتوتشكا مع أمها الفقيرة وزوج أمها إيفيموف، عازف الكمان الذي يصفه الراوي بأنه "أغرب شخص والأكثر استثنائية بين من عرفت". إيفيموف شخصية تراجيدية تجسد صراع العبقرية والجنون؛ فهو موهوب موسيقياً لكنه مهووس بفكرة عبقريته الضائعة .
الفقر والهوس: يرفض إيفيموف العمل كعازف جوال معتبراً ذلك إهانة لموهبته، فيُغرق العائلة في فقر مدقع. يتحول إلى السكر واليأس بعد سماعه عازفاً موهوباً يُدرك أنه لن يبلغ مستواه أبداً .
المشهد الأخير: في لحظة جنون، يقتل إيفيموف زوجته بسكين، ثم يموت هو نفسه في السجن. تصبح نيتوتشكا يتيمة، حاملةً معها جرح الطفولة العميق وتلك النظرة المبكرة إلى الجانب المظلم للنفس البشرية .
القسم الثاني: الحب والانكسار في القصر (الفصول 4-5)
الانتقال الطبقي: يتبنى الأمير "إكس" (شخصية بلا اسم، رمزاً للسلطة المجهولة) نيتوتشكا، مُنقلاً إياها من عالم الفقر إلى القصر الأرستقراطي. هنا تلتقي بابنة الأمير كاتيا، التي تصبح محور عواطفها .
علاقة متوهجة: تطور نيتوتشكا تعلقاً هوسياً بكاتيا، تصل إلى حد تقبيل يديها وقدميها. العلاقة تبدأ بعداء من كاتيا تتحول إلى "كراهية ممزوجة بالانجذاب"، ثم إلى حب متبادل يثير قلق الأم .
الفراق القسري: تخشى الأم من طبيعة العلاقة، فتقرر نقل العائلة إلى موسكو، وتترك نيتوتشكا في رعاية أخت كاتيا غير الشقيقة، ألكسندرا ميخائيلوفنا. يُذكر الراوي أن الثنائي لم يلتقيا لثماني سنوات، لكن استئناف العلافة لم يحدث لأن الرواية لم تكتمل .
القسم الثالث: أسرار بيت الأرستقراطي (الفصول 6-8)
الحياة الجديدة: تعيش نيتوتشكا مع ألكسندرا ميخائيلوفنا - المرأة اللطيفة الأمومية - وزوجها بيوتر ألكساندروفيتش البارد والمنعزل. تكتشف نيتوتشكا أن زواجهما بائس، فـ ألكسندرا تعيش في خوف دائم من زوجها .
الرسالة المدفونة: بالصدفة، تعثر نيتوتشكا على رسالة حب قديمة مخبأة في كتاب، موجهة لألكسندرا من عاشق سابق. تكشف الرسالة أن بيوتر تزوجها رغم علمه بحبها لآخر، لـ"إنقاذ سمعتها" بعد فضيحة، ثم عاقبها باللامبالاة والبرود العاطفي طوال الزواج .
المواجهة والانهيار: تواجه نيتوتشكا بيوتر غاضبةً: "أنت قتلتِها بطيئاً!". يؤدي الكشف إلى انهيار ألكسندرا عاطفياً، بينما تنطلق نيتوتشكا إلى الشارع في لحظة تحرر نسوي مبكر، تنتهي بلقاء غامض مع أوفروف (سكرتير بيوتر)، الذي يشير إلى استمرار القصة لو اكتملت .
عوالم نفسية معقدة
نيتوتشكا نزفانوفنا: بحث اليتيمة عن الانتماء
الهوية الضائعة: اسم "نزفانوفنا" (غير المدعوة) يعكس وضعها الوجودي كـ"دخيلة" في كل العوالم التي تعبرها: بيت زوج الأم، قصر الأمير، منزل ألكسندرا .
الجروح المبكرة: علاقتها بإيفيموف تُشكّل نموذجاً مبكراً لعقدة إلكترا؛ فهي تتعلق به رغم فظاعته، لأنّه الشخص الوحيد الذي يمنحها اهتماماً ولو مشوّهاً .
الحب كملاذ: انتقالها من التعلق بإيفيموف إلى كاتيا ثم ألكسندرا يكشف عن بحث مرضي عن بديل للأم، جاعلاً كل علاقاتها تحمل طابع الهوس والتعويض.
إيفيموف: الموهبة التي التهمها الواقع
عبقري أم واهم؟: إيفيموف يعتقد أنه "موسيقي بارع" لكن الكحول يقتله، وهو تجسيد لـصراع الفن مع القبح الاجتماعي. مشهد إدراكه أنه "لا شيء" بعد سماع عازف حقيقي، هو لحظة انهيار الأنا المتضخمة .
جنون العظمة: رفضه العمل كعازف جوال رغم فقر عائلته يكشف ازدراءه للجمهور، في إشارة مبكرة لموضوع "الإنسان الزائد" الذي سيطوره دوستويفسكي لاحقاً في "الإخوة كارامازوف".
كاتيا وألكسندرا: وجهان للأنوثة البائسة
كاتيا: الابنة المدللة التي تتحول قسوتها إلى حب، تمثل البراءة الملوثة بوعي الطبقة. مشاهد اللقاءات بينها وبين نيتوتشكا في الحديقة ليلاً تحمل تلميحات جمالية مثيرة للجدل عن الحب المثلي .
ألكسندرا: الضحية الصامتة لزواجها، تجسد المرأة كملكية اجتماعية. اكتشاف نيتوتشكا لرسالتها هو كشف لزيف مؤسسة الزواج الأرستقراطي.
ما وراء السرد
الطفولة كجحيم تأسيسي
تقدم الرواية تحليلاً سيكولوجياً متقدماً لجراح الطفولة:
عقدة إلكترا: تعلق نيتوتشكا بإيفيموف رغم سوء معاملته، يعكس حاجة الطفلة لـ"الأب" حتى لو كان مستبداً .
الصدمة المؤجلة: مشهد مقتل الأم لا تُروى تفاصيله، لكنه يظهر في ذكريات نيتوتشكا ككابوس متقطع، وكأن دوستويفسكي يلمح لـالذاكرة المكبوتة.
التحويل العاطفي: انتقال نيتوتشكا من حب إيفيموف إلى حب كاتيا ثم ألكسندرا، يكشف عن آلية إبدال المفقود (الأب، الأم، الحبيب).
الفن بين العبقرية والجنون
شخصية إيفيموف تطرح أسئلة جوهرية:
الموهبة الحقيقية أم الوهم؟: إيفيموف يعتقد أن قطعة موسيقية ألّفها تُثبت عبقريته، لكن الرواية لا تؤكد إن كان حقاً عبقرياً أم ضحية أوهام.
الفنان كضحية للمجتمع: رفض النظام الأرستقراطي دعمه يرمز لـاستغلال المجتمع للفن ثم التخلي عن أصحابه.
الموسيقى كعلاج: صوت نيتوتشكا الجميل الذي تكتشفه ألكسندرا يُقدّم كـخلاص فني ممكن، لو اكتملت الرواية.
الأبعاد الاجتماعية: هشاشة الإنسان تحت القيصرية
الطبقات واللاعدالة: انتقال نيتوتشكا من كوخ الفقراء إلى قصر الأمير يكشف الانفصال الطبقي في روسيا القيصرية.
المرأة كضحية مزدوجة: أم نيتوتشكا وألكسندرا تجسدان معاناة المرأة بين فقر النظام الذكوري وقسوة التقاليد.
النقد الديني: مشهد موت إيفيموف دون اعتراف أو طقس ديني يُلمح لـأزمة الإيمان، ثيمة سيطغى عليها دوستويفسكي لاحقاً.
الرواية ذات أهمية رغم عدم اكتمالها!!
المختبر الفني المبكر: هنا يجرب دوستويفسكي لأول مرة تقنيات ستُصبح علاماته: السرد الذاتي، التحليل النفسي، تعدد الأصوات. مشهد مواجهة نيتوتشكا لبيوتر يُعلن عن شخصيات "المتمردين" في أعماله اللاحقة .
استباق الوجودية: شخصية إيفيموف التي ترفض مصيرها كـ"عازف جوال" تُشبه تمرّد بطل "مذكرات قبو" ضد قوانين العقل والطبيعة.
جرأة الموضوعات: العلاقة بين نيتوتشكا وكاتيا كانت سبّاقة في تصوير المثلية الأنثوية بأسلوب غير إباحي، مركزاً على البعد النفسي .
التأثير في التحليل النفسي: كتب المحلل النفسي إيريك برن أن شخصية نيتوتشكا تقدم نموذجاً مبكراً لـ"حالة التعلق المرضي" (Attachment Disorder).
نيتوتشكا
الجذور المبكرة: إذا كانت "الجريمة والعقاب" (1866) و"الإخوة كارامازوف" (1880) تمثل قمة نضجه، فإن نيتوتشكا هي المختبر الأول لفكرة "الجريمة بلا عقاب" (قتل إيفيموف لزوجته) و"الصراع الأبوي" (في علاقة نيتوتشكا ببيوتر) .
الرواية المنسية: رغم مكانتها، تُهمل "نيتوتشكا" مقارنةً بروائعه الكبرى، ربما لأنها الأكثر غموضاً وحزناً. الكاتب المصري يحي الرخاوي يصفها في تحليله بـ"الطفلة الأم" التي تتحمل أعباء لا تطيق .
الجسر بين مرحلتين: تُظهر الرواية الانتقال من واقعية "الفقراء" (1846) إلى تعقيد "مذكرات قبو" (1864)، حيث تختلط الواقعية بالرمزية النفسية.
اللغز الدائم
رواية "نيتوتشكا نزفانوفا" تظل كياناً أدبياً غريباً: جثة غير مكتملة، لكنها تحمل في طياتها حيوات كاملة.
ربما كان عدم اكتمالها مصادفة تاريخية، لكنه صار جزءاً من جماليتها؛ فكما بقيت نيتوتشكا "اليتيمة غير المدعوة" في عوالم الرواية، بقيت الرواية نفسها يتيمة في عالم دوستويفسكي، تنتظر قارئاً يُكملها بخياله.
في رسالة من المنفى، كتب دوستويفسكي: "الأفكار لا تموت إذا قُتل حاملوها"، وهذه الرواية خير دليل؛ فمن بين ركام المشروع الضائع، نهضت شخصيات لا تزال تسألنا عن معنى الحب، الجنون، والانتماء.
لكل هذا، تظل "نيتوتشكا" ضرورية لفهم مسار عبقريّة دوستويفسكي؛ فهي البذرة التي لم تُثمر شجرة كاملة، لكنها أوراقها الأولى كانت تحمل كل وعود العظمة.
اقرأ ايضا
ملخص لكل أعمال فيدور دوستويفسكي الروائية
0 تعليقات