البيان والتبيين للجاحظ


 

البيان والتبيين للجاحظ

 رحلة في تشريح الكلام وتأريخ البلاغة

"والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجُب دون الضمير، حتى يُفضي السامع إلى حقيقته" — الجاحظ 


 في حضرة إمام البيان

في مدينة البصرة عام 159 هـ، حيث كانت الثقافة العربية تزهر تحت ظل الدولة العباسية، وُلِدَ عمرو بن بحر الكناني، الذي سيعرفه التاريخ بلقب "الجاحظ" لجحوظ عينيه. 

عاش تسعة عقود (توفي 255 هـ) ترك خلالها نحو 360 مؤلفًا، لم ينجُ منها سوى نزر يسير، كان "البيان والتبيين" جوهرتها المتلألئة. هذا الكتاب ليس مجرد مصنف أدبي؛ بل هو كونٌ مصغرٌ يُدشّن فلسفةً للغة، ويُؤرخ للبلاغة، ويُؤسس لعلم النقد الأدبي. 

يقول ابن خلدون في المقدمة: إنه أحد أركان الأدب الأربعة إلى جانب "أدب الكاتب" و"الكامل" و"النوادر" .


البنية الفكرية للكتاب: ثلاثية البيان

يُقسَّم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، كل منها عالم قائم بذاته، لكنها تشتبك في نسيج واحد:

الجزء الأول: تشريح آلة الكلام

  • باب عيوب البيان: يسرد الجاحظ عشر آفات للّسان:

    "العي، واللثغة، والفأفأة، والتمتمة، والجلجة، والحبسة، والحكلة، والنحنحة، والسعلة" .
    هذه العيوب ليست عضوية فحسب؛ بل هي انعكاس لاضطراب الفكر أو ضعف التربية.

  • باب البيان: يطرح نظرية "أدوات البيان الخمس":

    1. اللفظ: الأداة الظاهرة.

    2. الإشارة: لغة الجسد التي "تنوب عن اللفظ وتغني عن الخط" .

    3. العَقد (الحساب): الذي مدحه القرآن: "والشمس والقمر حسبانًا" .

    4. الخط: "القلم أحد اللسانين وهو أبقى أثرًا" .

    5. الحال (النصبة): السياق الذي يُغني عن التصريح.

  • باب البلاغة: يُقارن بين مفهومها عند العرب والهنود وصولاً إلى سهل بن هارون الذي وصف البيان بأنه "ترجمان العلم" .

الجزء الثاني: متحف الخطب والشعر

  • تراجم الخطباء: يسرد سير أبلغ الخطباء مثل قس بن ساعدة (خطيب العرب في الجاهلية)، وهند بنت الخس التي حوّلت خطبتها هزيمةً إلى نصر، وأبي الأسود الدؤلي مؤسس علم النحو .

  • الخطب المؤسسة: يوثق خطبة الوداع للنبي محمد ﷺ، وخلافة أبي بكر الصديق، ووصية عمر بن الخطاب، وخطب علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وكأنه يؤرخ لبلاغة السلطة والروح .

  • طبقات الشعراء: يُصنِّفهم بحسب تأثيرهم الاجتماعي، مقدماً الشعر كـ"قطعة من كلام الرجل" و"عماد العلم" .

الجزء الثالث: بيان الزهد والسياسة

  • سنن الخطابة: يحلل خصائص الخطاب العربي، ويرد على "الشعوبية" (التي طعنت في لغة العرب) بإبراز قوة خطب الأعراب .

  • الأزياء والرمز: يربط بين المظهر والبيان؛ فـ"المخصرة والقلائد والعمامة" ليست زينةً بل أدوات إشارة تُعزز الخطاب .

  • الزهد والشعر السياسي: يجمع وصايا الزهاد كأدب حِكمي، ويُظهر كيف يُوظف الشعر سياسيًا للإقناع أو النقد .


الفلسفة الجاحظية: اللغة كائن حي

يرى الجاحظ أن البيان ليس مهارةً بل فلسفة وجود:

  • اللغة وعاء الفكر: "المعاني القائمة في صدور العباد مستورة خفية، وإنما تحيا بالذكر والإخبار" .

  • البلاغة بين الإيجاز والإطناب: يرفض التكلف، فـ"حسن البيان هو البساطة التي تلامس الأعماق" .

  • النقد الذاتي: يسخر من المغالين في الزخرفة اللفظية:

    "تعرف حماقة الرجل في ثلاث: كلامه فيما لا يعنيه، وجوابه عما لا يُسأل، وتهوره في الأمور" .


المنهجية: الفوضى الخلاقة

يُتهم الكتاب بـ"الفوضى التأليفية"؛ فالخطب تتخللها حكايات الحمقى، ونقد الشعر يمتزج بنوادر الأعراب. لكن هذه "الفوضى" مقصودة:

"وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يداوي مؤلفه نشاط القارئ... بأن يخرجه من شيء إلى شيء، ومن باب إلى باب" .
هنا يصبح الكتاب لوحة سوريالية تجمع بين الجد والهزل، لتحقيق التوازن النفسي للقارئ.


الجاحظ ناقدًا: دفاعًا عن جوهر الأدب

  • دور المعلم: يهاجم من يستهينون بالمعلمين:

    "كيف يُقال إن الكسائي وقطرب حمقى؟!" .

  • اللغة وسيلة لا غاية: يحذر من انفصال اللفظ عن المعنى:

    "إذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض يعمي عن المحاسن" .

  • الإيجاز أعلى البلاغة: يروي كيف أفحمت أعرابية ابنها بثلاث جمل:

    "أما كان بطني لك وعاء؟ أما كان حجري لك فناء؟ أما كان ثدي لك سقاء؟" .


جدل العنوان: "التبيين" أم "التبيين"؟

ظل العنوان مثار جدل؛ فالمشهور "التبيين" (بالياءين)، لكن المحقق عبد السلام هارون أثبت بالنسخ الخطية القديمة (مثل مخطوطة كوبريلي 684 هـ) أنه "التبيُّن" (بالياء والضم) . والفرق جوهري:

  • البيان: الإفصاح عن المعنى.

  • التبيُن: التثبت والفهم (عملية استقبال البيان).
    هكذا يصبح الكتاب حوارًا بين إنتاج المعنى وتأويله.


 لماذا يعود العالم إليه اليوم؟

لو عاش الجاحظ في عصرنا، لكان حلل تغريدات تويتر وخطب TED! فالكتاب يقدم دروسًا خالدة:

  1. البيان سلطة: خطب عبد الله بن الزبير وقس بن ساعدة تثبت أن الكلمة تُغيّر مصائر الأمم.

  2. اللغة هوية: دفاعه عن العربية ضد الشعوبية تذكيرٌ بأن اللغة حصن الوجود .

  3. الاتصال فن مركب: أدواته الخمس (من الإشارة إلى الحساب) تُناسب عصر الذكاء الاصطناعي.

يقول الجاحظ:

"البيان من نتاج العلم، والعِي من نتاج الجهل" .
فهو كتابٌ لا يُختزل في تاريخ الأدب؛ بل هو مرآةٌ لعقل عربيٍّ أدرك أن الكلام كالنبات: جذوره في الفكر، وأزهاره على اللسان.

إرسال تعليق

0 تعليقات