"بنية الثورات العلمية" لتوماس كون
الفرضيه الأساسية
"هو أحد أكثر الأعمال تأثيرًا في فلسفة العلوم وتاريخها. يتحدى كون الفكرة السائدة أن التقدم العلمي خطي وتراكمي، ويقدم نموذجًا جديدًا قائمًا على "التحولات النموذجية" (Paradigm Shifts). يجادل كون أن العلم يتطور عبر ثورات جذرية تقطع استمرارية "العلم العادي"، حيث تُستبدل النماذج الإرشادية القديمة بأخرى جديدة لا تتوافق معها.
نشأة الكتاب:
حيرة كون عند قراءة فيزياء أرسطو، حيث أدرك أن المفاهيم العلمية القديمة ليست "نيوتنية رديئة"، بل تنتمي لنموذج فكري مختلف.
تأثر كون بأعمال لودفيغ فليك في علم اجتماع المعرفة، خاصة فكرة أن العلم نشاط جماعي.
الأفكار الأساسية
1. النموذج الإرشادي (Paradigm):
هو إطار مفاهيمي يحدد للمجتمع العلمي:
ما هي المشكلات الجديرة بالدراسة؟
كيف تُجرى التجارب؟
- ما هي الحلول المقبولة؟مثال: سيطر نموذج نيوتن في الفيزياء (القرن 17-20) الذي نظر للكون كآلة تحكمها قوانين رياضية.
2. مراحل تطور العلم عند كون:
المرحلة | الوصف | مثال تاريخي |
---|---|---|
العلم السابق للنماذج (Pre-paradigm) |
تعدد المدارس الفكرية وتنافسها دون إجماع (مثل علم الفلك قبل كوبرنيكوس) | تنافس نموذج بطليموس (مركزية الأرض) مع نموذج تايكو براهي ونموذج كوبرنيكوس |
العلم العادي (Normal Science) |
يهيمن نموذج واحد، والعلماء يحلون "ألغازًا" ضمنه دون شك في أساساته | فيزياء نيوتن: حساب مدارات الكواكب، تحسين دقة القياسات |
ظهور الشواذات (Anomalies) |
ظواهر لا يفسرها النموذج القائم (تُهمل أولاً أو تُعدّ أخطاء تجريبية) | الحركة التراجعية للمريخ لا تتوافق مع مركزية الأرض، وزيادة وزن المعادن بعد الاحتراق تناقض نظرية الفلوجستون |
الأزمة (Crisis) |
تراكم الشواذات يزعزع ثقة العلماء بالنموذج، وتظهر نظريات بديلة | أزمة فيزياء القرن 19: فشل اكتشاف الأثير، تناقضات حول طبيعة الضوء |
الثورة العلمية (Revolution) |
انتصار نموذج جديد يقدم حلولاً أفضل (لا يتم عبر التراكم بل بقطع مع القديم) | نسبية أينشتاين تحل محل نيوتن، ونظرية الأكسجين للافوازييه تحل محل الفلوجستون |
3. اللا قياسية (Incommensurability):
أكثر أفكار كون إثارة للجدل. تعني أن النماذج العلمية المتعاقبة لا يمكن مقارنتها مباشرة لأنها:
تُعرف المفاهيم الأساسية بشكل مختلف (مثل "الكتلة" عند نيوتن vs "الكتلة" عند أينشتاين).
تطرح أسئلة مختلفة وتعتبر معايير مختلفة للحلول.
تُحدث تغييرًا في رؤية العالم (World-View).
4. الثورة كتغيير في الرؤية للعالم:
عند حدوث التحول النموذجي، "يرى العلماء عالماً جديداً" وفق تعبير كون:
مثال: من اعتاد مركزية الأرض لم يستطع تخيل دورانها، لكن نموذج كوبرنيكوس جعل ذلك طبيعيًا.
مثال: فيزياء نيوتن ترى الزمان والمكان مطلقين، أما النسبية فتراهما نسبيين ومترابطين.
أمثلة تاريخية من الكتاب
1. الثورة الكوبرنيكية:
النموذج القديم: نموذج بطليموس (الأرض مركز الكون) استخدم أفلاكًا تدور في أفلاك (Epicycles) لتفسير حركة الكواكب.
الشواذات: الحركة التراجعية للمريخ (Retrograde Motion) تطلبت تعقيدات حسابية متزايدة.
الثورة: نموذج كوبرنيكوس (الشمس مركز الكون) قدم تفسيرًا أبسط، لكنه لم يكن أكثر دقة في البداية! قبوله ارتبط بتطويره لاحقًا على يد كبلر وغاليليو ونيوتن .
2. الثورة الكيميائية (لافوازييه):
النموذج القديم: نظرية الفلوجستون (مادة تطلقها الأجسام عند الاحتراق).
الشواذات: بعض المعادن تزداد وزنًا بعد الاحتراق (يناقض فكرة خروج مادة).
الثورة: أثبت لافوازييه أن الاحتراق تفاعل مع الأكسجين، ولم تطلق فلوجستون.
3. من نيوتن إلى أينشتاين:
شواذات نيوتن: سرعة الضوء الثابتة، حزمة الإلكترون في تجربة ميكلسون-مورلي.
الثورة: النسبية العامة قدمت مفهوم الزمكان المنحني بدلاً من الجاذبية النيوتنية.
تعليقات وردود
الانتقادات الرئيسية:
النسبية المفرطة: اُتهم كون بنفي التقدم الحقيقي للعلم (إذا كانت النماذج "لا قياسية" فكيف نقول إن العلم يتقدم؟).
اللاعقلانية: وصف الثورات بأنها تحولات "سيكولوجية-اجتماعية" لا منطقية.
إهمال دور التجربة: التركيز على النماذج جعله يقلل من دور الواقع التجريبي.
ردود كون (خاصة في الملحق 1969):
أكد أن النماذج الجديدة تتفوق في حل المشكلات، وهذا معيار تقدم موضوعي.
أوضح أن "اللا قياسية" لا تعني عدم المقارنة مطلقًا، بل صعوبة الترجمة الدقيقة للمفاهيم بين النماذج.
نبه إلى أن كتابه ركز على الديناميكية الاجتماعية للعلم، ولم ينكر دور الطبيعة.
تأثير الكتاب
في فلسفة العلوم:
هزيمة الوضعية المنطقية (التي ترى العلم تراكميًا ومنطقيًا بحتًا).
تعزيز النزعة التاريخية في فلسفة العلوم (مثل أعمال إمري لاكاتوش).
إلهام نظريات الصراع الفكري في علم اجتماع العلم (مثل برنامج "المعرفة القوية").
خارج الفلسفة:
"تحول نمذجي" أصبح مصطلحًا دارجًا في السياسة والاقتصاد والفن.
أثر في علم النفس الإدراكي عبر فكرة أن النماذج تشكل الإدراك (مثل تجارب تحول الجشطالت).
أثار جدلاً في التربية العلمية حول ضرورة تدريس تاريخ العلم كصراع أفكار لا كحقائق جاهزة.
الإحصائيات الدالة:
من أكثر الكتب الأكاديمية استشهاداً في القرن العشرين.
تُرجم لأكثر من 25 لغة، وباع ملايين النسخ.
رؤية كون المتوازنة
يختتم بأن العلم "يتقدم عبر الثورات" لكن ليس نحو "حقيقة مطلقة"، بل نحو أدوات أكثر فاعلية لحل الألغاز. قارن تطور العلم بالتطور البيولوجي: كلا المسارين لا هادف (غير تيليولوجي)، لكنهما يولدان تنوعًا وتعقيدًا متزايدًا.
"إن الانتقال من نموذج إلى نموذج جديد ليس تراكمًا، إنه إعادة بناء للمجال من أساسه، تغيير لما هو أساسي في المفاهيم والتقنيات والتطبيقات" — توماس كون.
رغم الانتقادات، يظل كتاب كون مرجعًا لإدراك أن العلم نشاط إنساني، يجمع بين المنطق والتجربة، والإبداع والمجتمع، والثورة والاستقرار
0 تعليقات