الوجودية لأنيس منصور

 

الوجودية لأنيس منصور

"الوجودية" لأنيس منصور: رحلة في أغوار الوجود الإنساني

يعتبر كتاب "الوجودية" للكاتب والفيلسوف المصري الراحل أنيس منصور أحد أهم الكتب التي قدمت الفكر الفلسفي العميق للقارئ العربي بلغة مبسطة وشيقة، بعيدًا عن التعقيد الأكاديمي الجاف.

 لا يكتفي منصور في هذا الكتاب بسرد تاريخ المدرسة الوجودية أو أفكار روادها فقط، بل ينطلق منه ليغوص في أسئلة الوجود الكبرى التي تشغل الإنسان: من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ما معنى الحياة؟ ما الحرية؟ وما الموت؟

يتميز أسلوب أنيس منصور بالسرد القصصي، والحوار الذاتي، والنكات العميقة، والاستشهادات المكثفة من تراث الفلسفة والأدب العالمي، مما يجعل رحلة القارئ مع هذا الكتاب أشبه برحلة استكشافية داخل عقله هو قبل عقول الفلاسفة.

الفصل التمهيدي: ما هي الوجودية؟ ولماذا؟

يبدأ أنيس منصور بتعريف الوجودية ليس كمدرسة فلسفية مغلقة، بل كموقف إنساني من الحياة. هي فلسفة تهتم بـ "الوجود الإنساني الفردي" الملموس، وليس بالمفاهيم المجردة أو المطلقة.

 الفرق الجوهري الذي يؤكده هو أن الوجودية تُقدم الوجود على الماهية، بمعنى أن "الإنسان يوجد أولاً، ثم يحدد ماهيته بعد ذلك" عبر خياراته وأفعاله. 

هذا على عكس الشيء المصنوع (مثل المقص أو القلم) الذي تُحدد ماهيته ووظيفته مسبقًا قبل وجوده الفعلي.

الوجودية، إذن، هي فلسفة الحرية والمسؤولية والقلق. إنها تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع نفسه، دون أعذار أو وساطة من الله، أو المجتمع، أو التقاليد، أو الماضي. هذا المواجهة هي مصدر القلق الوجودي العميق، ولكنها أيضًا مصدر العظمة الإنسانية.

الأجواء التاريخية والفكرية لنشأة الوجودية

يشرح منصور أن الوجودية لم تظهر من فراغ، بل كانت رد فعل على حالة التمزق والضياع الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين. ساهمت عدة عوامل في بروزها:

  • انهيار اليقينيات القديمة: تأثيرات الحروب العالمية، والكساد الاقتصادي، وأزمة القيم.

  • تراجع سلطة الكنيسة والدين التقليدي كمصدر وحيد للمعنى.

  • صعود الفلسفات المادية والعلوم التي قدمت تفسيرًا آليًا للكون، لكنها أهملت العالم الداخلي للإنسان ومشاعره.

  • تأثير بعض الفلاسفة الذين مهدوا الطريق مثل سورين كيركغور (الذي ركز على الذات الفردية والإيمان)، وفريدريك نيتشه (صاحب مقولة "موت الله")، ودوستويفسكي (الذي عالج الإرادة الحرة والمعاناة في رواياته).

أقطاب الوجودية: سارتر وألبير كامو

يخصص أنيس منصور مساحات كبيرة للحديث عن عملاقي الوجودية الفرنسية، اللذين أصبحا رمزين لها:

  1. جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre):

    • هو فيلسوف الوجودية بامتياز، وصاحب المقولة الشهيرة "الوجود يسبق الماهية".

    • يرى سارتر أن الإنسان "محكوم عليه أن يكون حرًا". هذه الحرية ليست نعمة، بل عبء ثقيل لأنها تعني أننا لا نملك أعذارًا. نحن مسؤولون بشكل كامل عن خياراتنا، وعن الصورة التي نصنعها لأنفسنا وللعالم.

    • مفهوم "القلق" عنده ليس خوفًا من شيء محدد، بل هو إحساس بالمسؤولية المطلقة تجاه الذات والإنسانية جمعاء.

    • يقدم سارتر أيضًا مفهوم "الآخر" وكيف أن نظرته إلينا يمكن أن تحولنا إلى "شيء"، مما يسرق حريتنا ويولد صراعًا بين الوعيين.

  2. ألبير كامو (Albert Camus):

    • يختلف كامو عن سارتر، ورغم أنه رفض تصنيفه كوجودي، إلا أن أفكاره تتقاطع معها بشكل عميق.

    • فكرته المركزية هي "العبث". يشرح كامو أن الحياة inherently عبثية، لأن هناك صراعًا بين رغبة الإنسان الجامحة في البحث عن معنى وهدف، وصمت الكون المطبق وعدم مبالاته. الكون لا يعطي إجابات.

    • السؤال الجوهري عند كامو هو: "لماذا لا ننتحر؟" إذا كانت الحياة عبثية وبلا معنى مسبق، فما الذي يمنعنا من إنهائها؟

    • الإجابة ليست في الانتحار، وليست في "القفزة الإيمانية" كما عند كيركغور، بل في "التمرد". التمرد على هذا العبث بقبولنا له، ثم تمردنا المستمر ضده من خلال خلق معانينا الخاصة بنا. إنه تمرد يخلق القيمة والكرامة. البطل العبثي هو من يواصل دفع الصخرة إلى أعلى الجبل مثل سيزيف، رغم علمه أنها ستهوي مرة أخرى، مُحولاً معاناته إلى انتصار إرادي.

الوجودية بين الإلحاد والإيمان

يتعامل أنيس منصور مع تنوع التيارات داخل الوجودية بموضوعية. يفرق بين:

  • الوجودية الملحدة (Atheistic Existentialism): ويمثلها سارتر بشكل أساسي. حيث يرى أن عدم وجود إله يعني أن الإنسان هو الذي يخترع قيمه وأخلاقه من العدم. هذا يزيد من عبء المسؤولية.

  • الوجودية المؤمنة (Christian Existentialism): ويمثلها كيركغور وغابرييل مارسيل وكارل ياسبرز. هم لا يرون تناقضًا بين الإيمان والحرية. الإيمان عند كيركغور، مثلاً، هو "قفزة" شخصية، علاقة فردية مع الله، وليس مجرد الألتزام إلى عقيدة أو طقوس جماعية. هو اختيار حر ومخيف يتخذه الفرد في مواجهة الشك.

مفاهيم مركزية في الوجودية كما يقدمها أنيس منصور

يطوف الكتاب حول عدة مفاهيم أساسية تكررت في فكر الوجوديين:

  • الحرية: ليست حرية سياسية فحسب، بل هي جوهر الإنسان. نحن أحرار حتى في القيود، لأننا نستطيع أن نختار موقفنا من هذه القيود. حرية الاختيار هي التي تصنع مصيرنا.

  • المسؤولية: الوجه الآخر للحرية. لأنك حر، أنت مسؤول عن كل ما تفعله. بل أنت مسؤول عن كل البشر، لأن خياراتك تقدم نموذجًا للإنسانية عما يمكن أن يكون عليه الإنسان.

  • القلق والرهبة (Angst): هو الشعور المصاحب لإدراك الحرية والمسؤولية. هو قلق إيجابي، دافع على الفعل وعدم الركود.

  • الموت: الموت هو الذي يعطي الحياة قيمتها.
     إدراك حتمية الموت (Being-towards-death عند هيدجر) هو ما يدفعنا لعدم إضاعة حياتنا والعيش بصدق وأصالة.

  • الوجود الأصيل والوجود الزائف: الوجود الأصيل هو حياة الشخص الذي يعيش وفقًا لحريته واختياراته، مقبولاً مسؤوليته وقلقه. أما الزائف فهو من يهرب من حريته، ويختبئ وراء الأدوار الاجتماعية (كأن يكون موظفًا، أبًا، ابنًا فقط) ويتصرف كما يتوقعه الآخرون، مُنكرًا لذاته الحقيقية.

الوجودية والحب والفن

لا يغفل أنيس منصور، بكونه أديبًا، عن الربط بين الوجودية وبقية جوانب الحياة.

 يتحدث عن مفهوم الحب في الفكر الوجودي، الذي يمكن أن يكون وسيلة للهروب من الذات (حب تملكي) أو يمكن أن يكون علاقة بين حريتين متكاملتين.

 كما يركز على الفن والأدب كأهم وسائل التعبير عن الوجود، حيث أن الرواية والمسرحية هما اللتان استطاعا تجسيد حالة الإنسان الوجودية بشكل أقوى من أي مقال فلسفي (مثل مسرحية "الذباب" لسارتر أو رواية "الغريب" لكامو).

نقد أنيس منصور وتقييمه للوجودية

ينتهي أنيس منصور من شرحه إلى تقديم نقده الشخصي للفلسفة الوجودية. يشيد بها كفلسفة شجاعة ترفض الوهم وتواجه الحقائق المرة، وتعيد للإنسان كرامته وإرادته. لكنه في الوقت نفسه ينتقد بعض جوانبها:

  • إغفالها للبعد الاجتماعي والتاريخي: حيث تركز بشكل مفرط على الفرد، متجاهلة إلى حد كبير تأثير البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على خيارات الفرد وحريته.

  • الشعور باليأس والعبثية: يمكن أن تؤدي قراءة سطحية للوجودية إلى حالة من السوداوية واليأس، رغم أن هدفها (خاصة عند كامو) هو العكس: إيجاد المعنى within العبث.

  • صعوبة التطبيق: من الصعب جدًا على الإنسان العادي أن يعيش بمستوى القلق والمسؤولية المطلقة التي تطلبها الوجودية.

الوجودية كرسالة للإنسان العربي والعالم

يخلص أنيس منصور إلى أن قيمة الوجودية لا تكمن في تبنيها كعقيدة جديدة، بل في الأسئلة التي تطرحها.

 إنها دعوة للاستيقاظ، للتوقف عن العيش على القيم الجاهزة، للتفكير بحرية، وتحمل تبعات هذه الحرية.

الكتاب، في مجمله، هو أكثر من مجرد ملخص لفلسفة وجودية. إنه دعوة وجودية بحد ذاتها من أنيس منصور إلى قارئه.

 دعوة ليعيش حياته بوعي، أن يكون "أصيلاً"، أن يثور على اللامعنى، أن يخلق فنه الخاص، وأن يواجه مصيره بوجهٍ عابسٍ أحيانًا، ولكن برأس مرفوع دائمًا.

 إنها رحلة داخل الذات الإنسانية، بكل غموضها، تناقضاتها، وحريتها التي لا تُسلب

إرسال تعليق

0 تعليقات