الطريق إلى انعدام الحرية: روسيا وأوروبا وأمريكا
"The Road to Unfreedom: Russia, Europe, America" لتيموثي سنايدر
مقدمة عامة عن الكتاب وأهميته
يعد كتاب "طريق العبودية: روسيا، أوروبا، أمريكا" (2018) للمؤرخ الأمريكي تيموثي سنايدر، أستاذ التاريخ في جامعة ييل، تحليلاً عميقاً للتحولات الأيديولوجية والجيوسياسية التي شكلت المشهد السياسي العالمي في القرن الحادي والعشرين.
يركز على صعود الاستبداد في روسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين، وتأثير ذلك على أوروبا والولايات المتحدة، مع تركيز خاص على أحداث مثل الثورة الأوكرانية (2014) والتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية (2016). يستند سنايدر في تحليله إلى خبرته الطويلة في دراسة التاريخ الأوروبي، خاصة فترتي النازية والستالينية، كما يظهر في كتابه السابق "Bloodlands".
يقدم سنايدر في هذا الكتاب إطاراً مفاهيمياً مكوناً من مصطلحين رئيسيين: "سياسة الحتمية" (Politics of Inevitability) و"سياسة الأبدية" (Politics of Eternity)، اللذين يستخدمهما لشرح كيف تفقد المجتمعات الديمقراطية قدرتها على المقاومة وتنزلق نحو الاستبداد.
يعتبر الكتاب مرجعاً مهماً لفهم التحديات المعاصرة التي تواجه الديمقراطية الليبرالية، مثل الحرب الهجينة والتلاعب بالمعلومات واستغلال أوجه القصور داخل المجتمعات المفتوحة.
الخلفية الفكرية والمفاهيم الأساسية: سياسة الحتمية وسياسة الأبدية
يبدأ سنايدر كتابه بتفكيك فكرتين رئيسيتين تحكمان تصورنا للزمن والتاريخ، وتشكلان أساس الممارسة السياسية الحديثة:
- سياسة الحتمية (Politics of Inevitability): تصور خطي للتاريخ، يعتبر أن انتصار الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق هو نهاية التاريخ، وأن المستقبل سيكون مجرد استمرار للحاضر.هذه السياسة تُفقد الأفراد والإجراءات السياسية معناها، وتؤدي إلى السلبية والرضا عن الذات. كانت هذه السياسة مهيمنة في الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث ساد اعتقاد بأن التقدم نحو الديمقراطية والسوق الحرة أمر لا مفر منه.
- سياسة الأبدية (Politics of Eternity): تصور دائري للزمن، تركز فيه الدولة على الماضي الأسطوري وادعاءات الضحية الدائمة، وتصور نفسها ككيان بريء يتعرض باستمرار للتهديد من أعداء خارجيين.هذه السياسة تمنع التخطيط للمستقبل وتحول السياسة إلى إدارة مستمرة للأزمات المصطنعة. وفقاً لسنايدر، هذه هي السياسة التي تتبناها روسيا بوتين وتصدرها إلى الخارج.
يشرح سنايدر كيف أن انهيار سياسة الحتمية بسبب عدم المساواة الاقتصادية والفشل في تحقيق الوعود أدى إلى ظهور سياسة الأبدية كبديل خطير. يكتب: "يظهر الأبدية من الحتمية مثل شبح من جثة".
الفردية أم الشمولية؟ تأثير إيفان إيلين على الأيديولوجية البوتينية
يوثق سنايدر كيف أعاد بوتين إحياء إيلين وجعله فيلسوف الدولة الروسي الرسمي:
في عام 2005، أعاد بوتين رفات إيلين من سويسرا لدفنها في موسكو بمراسم رسمية.
تم توزيع أعمال إيلين الكاملة على الموظفين المدنيين الروس كقراءة إلزامية.
أصبحت أفكار إيلين عن "الروح الروسية" الفريدة، وضرورة القائد القوي، وبراءة روسيا ودورها الضحية، أساس الخطاب السياسي البوتيني.
هذه الأيديولوجية، كما يوضح سنايدر، لا تبرر الاستبداد الداخلي فحسب، بل also تُستخدم كأداة في السياسة الخارجية لروسيا، حيث يتم تصوير التوسع الغربي (مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي) كتهديد وجودي للهوية الروسية، مما يستدعي رداً عدوانياً.
الفشل في التوارث السياسي وانهيار الديمقراطية في روسيا
يركز هذا الفصل على كيفية تدمير بوتين لمبدأ التوارث السلمي للسلطة، الذي يعتبره سنايدر أساسياً لأي ديمقراطية وظيفية
. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت روسيا تحاول بناء ديمقراطية هشة، لكن بوتين، الذي وصل إلى السلطة في عام 2000، عمل على تفكيك هذه المؤسسات واستبدالها بما يسمى "الديمقراطية المدارة" (Managed Democracy)
. في هذا النظام، تظهر الديمقراطية شكلياً من خلال انتخابات، لكن نتائجها محددة مسبقاً، والسلطة الحقيقية تتركز في يد بوتين وحلفائه الأوليغارشيين.
يقدم سنايدر مثالاً على ذلك أحداث عام 1999، عندما وقعت تفجيرات في موسكو وألقى النظام الروسي باللوم على الانفصاليين الشيشان.
يشير سنايدر إلى أن الكثيرين يشتبهون في تورط المخابرات الروسية نفسها في هذه التفجيرات (أو على الأقل التلاعب بها) لخلق ذريعة لبدء الحرب الشيشانية الثانية ولتعزيز شعبية بوتين، الذي كان آنذاك رئيساً للوزراء، كزعيم قوي وحازم.
هذا التلاعب بالمخاوف والأزمات هو سمة أساسية لـ "سياسة الأبدية".
التكامل أم الإمبراطورية؟ مشروع "أوراسيا" الروسي مقابل الاتحاد الأوروبي
يحلل في هذا الفصل التحول في السياسة الخارجية الروسية من محاولة الاندماج مع الغرب إلى السعي لبناء إمبراطورية جديدة تحت مسمى "أوراسيا". بعد نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تخلت روسيا عن فكرة الشراكة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واعتمدت استراتيجية "المجموع السلبي" (Negative Sum Strategy): إذا لم تستطع روسيا أن تكون قوية ومحترمة بنفس درجة الغرب، فستعمل على إضعاف الغرب وجعله يفشل أيضاً.
مشروع "أوراسيا" هو رؤية استعمارية جديدة تهدف إلى الهيمنة على الجوار الروسي (الخارج القريب) ورفض القيم الليبرالية الغربية. يستند هذا المشروع إلى أفكار مفكرين قوميين متطرفين مثل ليف جوميليف وألكسندر دوغين، الذين يرون أن روسيا تمثل حضارة مميزة ومنفصلة عن أوروبا.
لمواجهة نموذج التكامل السلمي للاتحاد الأوروبي، قامت روسيا بـ:
دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية في أوروبا (مثل حزب الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان في فرنسا).
شن حملات تضليل إعلامي لزعزعة الثقة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
استخدام الطاقة والعلاقات الاقتصادية كأداة للضغط السياسي.
الصراع على أوكرانيا بين الجدة والأبد
تعتبر أوكرانيا، في تحليل سنايدر، ساحة المعركة المركزية بين نموذجين: نموذج "الجدة" (Novelty) الذي ترمز إليه الطموح أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ونموذج "الأبدية" الروسي الذي يسعى إلى إعادتها إلى مجال النفوذ الإمبراطوري.
يروي سنايدر بالتفصيل أحداث ثورة الميدان (Maidan) في 2013-2014، التي اندلعت عندما رفض الرئيس الأوكراني الموالية لروسيا فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي تحت الضغط الروسي.
كانت الثورة، التي بدأت سلمية، تعبيراً عن رغبة المجتمع المدني الأوكراني في الديمقراطية والانتماء إلى أوروبا. قمعت الحكومة الاحتجاجات بعنف، مما أدى إلى سقوطها وهروب يانوكوفيتش إلى روسيا.
يرفض سنايدر الرواية الروسية التي تصف الثورة بأنها "انقلاب فاشي" مدبر من الغرب، مؤكداً أنها كانت حركة شعبية حقيقية متعددة اللغات والأعراق.
رداً على الثورة، قامت روسيا بغزو شبه جزيرة القرم وضمها في مارس 2014، ثم دعمت تمرداً انفصالياً في دونباس.
يوضح سنايدر كيف صاحب هذا الغزو حرب معلوماتية شرسة، حيث أنكرت روسيا بشكل صارخ وجود قواتها في أوكرانيا على الرغم من الأدلة الواضحة، وروجت لنظريات مؤامرة معقدة، مثل الادعاء بأن تحطم طائرة الخطوط الجوية الماليزية (MH17) (التي أسقطتها قوات موالية لروسيا) كان عملية استخباراتية أوكرانية أو غربية.
الحرب الهجينة وتزييف الواقع: إنكار الغير معقول وتصدير الفوضى
يتعمق سنايدر في هذا الفصل في آليات حرب المعلومات التي تشنها روسيا، والتي يسميها "الإنكار غير المعقول" (Implausible Deniability)
. لا تهدف هذه الإستراتيجية إلى إقناع العالم برواية بديلة متماسكة، بل إلى إغراق الفضاء المعلوماتي بعدد لا يحصى من الروايات المتناقضة، مما يؤدي إلى إرباك المتلقي وزعزعة إيمانه بإمكانية الوصول إلى الحقيقة من الأساس. يصبح كل شيء نسبياً، وتضيع الحقيقة في الضجيج.
يناقش سنايدر كيف يتم تصدير هذه الإستراتيجية إلى الخارج:
وسائل الإعلام الحكومية مثل RT وSputnik.
الروبوتات والوحوش على وسائل التواصل الاجتماعي التي تثير الاستقطاب وتنشر الأخبار المزيفة.
استغلال الانقسامات الموجودة مسبقاً في المجتمعات الغربية (مثل العرق والهجرة والمساواة) لتغذيتها وتعميقها.
الهدف النهائي، كما يراه سنايدر، هو تقويض النموذج الديمقراطي الغربي ذاته بإظهاره على أنه غير مستقر وفاسد وغير فعال، وبالتالي إضعاف الجاذبية البديلة التي يمكن أن يشكلها للشعوب داخل روسيا ودول النفوذ السابق.
التهديد للديمقراطيات الغربية: التدخل في الانتخابات الأمريكية وارتباط ترامب
يربط سنايدر في هذا الفصل بين الإستراتيجية الروسية والأحداث السياسية في الغرب، لا سيما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (Brexit) وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في عام 2016. يوضح كيف عملت آلة التضليل الروسية على:
اختراق وإطلاق رسائل البريد الإلكتروني للجنة الوطنية الديمقراطية.
شن حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تستهدف ناخبين محددين وتعمق الانقسامات الاجتماعية في أمريكا.
دعم ترامب بشكل صريح ومباشر، بينما تم تشويه خصمه هيلاري كلينتون.
يشير سنايدر إلى أن ترامب لم يكن هدفاً ماضي فحسب، بل كان شريكاً فعالاً، عن قصد أو دون قصد، في هذه الإستراتيجية.
يذكر على سبيل المثال أن بوتين نفسه كان أول من روج لنظرية المؤامرة حول شهادة ميلاد أوباما المزيفة، والتي أصبحت لاحقا واحدة من الشعارات المركزية لترامب.
بالإضافة الي, فإن خطاب ترامب المعادي للناتو والاتحاد الأوروبي، والمعادي للمهاجرين والإسلام، كان يتماشى نماما مع الأهداف الجيوسياسية والدعاية الروسية.
يكشف سنايدر أيضاً عن الروابط المالية المشبوهة بين ترامب ومحيطه وبين الأوليغارشية الروسية، مما جعله، حسب التحليل، عرضة للتأثير والابتزاز. يقدم مثالاً صارخاً على ذلك هو بول مانافورت، مدير حملة ترامب، الذي كان مستشاراً سابقاً للرئيس الأوكراني المخلوع يانوكوفيتش الموالي لروسيا، وحكم عليه لاحقاً بتهم فساد متعلقة بعمله في أوكرانيا.
سياسة الحتمية وسياسة الأبدية
المنaspect | 🤖 سياسة الحتمية (Politics of Inevitability) | سياسة الأبدية (Politics of Eternity) |
---|---|---|
نظرة إلى الزمن | خطي (تقدم نحو المستقبل) | دائري (عودة إلى الماضي الأسطوري) |
الهدف السياسي | تحقيق الرفاهية الفردية | حماية الأمة من الأعداء الخارجيين |
الدور الفردي | مستهلك pasivo | جندي في معركة دائمة |
نظرة إلى الحقيقة | شيء يمكن اكتشافه | شيء يمكن (ويجب) التلاعب به |
نمط القيادة | تقني manager | زعيم منقذ (مسيحاني) |
مثال واقعي | الغرب بعد الحرب الباردة | روسيا البوتينية، الخطاب الشعبوي |
الحلول والمقترحات لمواجهة طريق العبودية
يختتم سنايدر كتابه بدعوة إلى اليقظة والمقاومة الفعلية. يؤكد أن الحرية ليست حتمية، بل هي نتيجة للاختيار والنضال اليومي. لمواجهة "سياسة الأبدية" و"طريق العبودية"، يقترح:
الدفاع عن الحقيقة: من خلال دعم الصحافة المستقلة والاعتماد على المصادر الموثوقة ومحاربة المعلومات المضللة.
تعزيز المساواة الاقتصادية: لأن عدم المساواة هو الذي يخلق اليأس والاستياء اللذين تغذيهما الشعبوية.
حماية المؤسسات الديمقراطية: عن طريق المشاركة النشطة في الحياة العامة والتصويت والدفاع عن سيادة القانون.
تبني الفردية المسؤولة: حيث يتحمل الأفراد مسؤولية أفعالهم ويدركون أن التاريخ ليس محتوماً، بل يصنعه الناس[علي اساس التوليف].
تقييم نقدي للكتاب
على الرغم من الإشادة الواسعة التي استقبلها الكتاب، إلا أنه واجه أيضاً بعض الانتقادات:
المبالغة في تأثير روسيا: يرى بعض النقاد أن سنايدر يبالغ في تقدير تأثير روسيا وقدرتها على التلاعب بالغرب، مما يقلل من العيوب الداخلية والتحديات الذاتية التي تواجهها الديمقراطيات الغربي.
الطابع الإطار النظري rígido: يجادل البعض أن الثنائية بين "الحتمية" و"الأبدية" قد تكون مبسطة أكثر من اللازم ولا تستطيع التقاط التعقيد الكامل للواقع السياسي.
نغمة إنذارية: يعتبر البعض أن نغمة الكتاب تشاؤمية جداً وقد تثير اليأس بدلاً من الحافز للتغيير.
مع ذلك، يظل "طريق العبودية" مرجعاً أساسياً ومهماً لفهم الديناميكيات السياسية في العصر الحالي، خاصة في ضوء الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في عام 2022، الذي توقعه سنايدر بشكل غير مباشر في كتابه.
الكتاب ليس تحذيراً من تهديد خارجي فحسب، بل also دعوة للاستيقاظ والنظر في المرآة لمواجهة نقاط الضعف الداخلية التي تجعل الديمقراطيات عرضة للخطر.
ملخصا : يعتبر كتاب "طريق العبودية" تحليلاً عميقاً وصارخاً للطريقة التي تقوض بها روسيا بقيادة بوتين الديمقراطيات الغربية من خلال حرب المعلومات واستغلال الانقسامات الداخلية.
من خلال المفاهيم الثاقبة لـ "سياسة الحتمية" و"سياسة الأبدية"، يقدم تيموثي سنايدر إطاراً لفهم التحديات المعاصرة للاستبداد ويقدم دعوة ملحة للدفاع عن الحرية والحقيقة
0 تعليقات