عقول أخرى - الأخطبوط والبحر والأصول العميقة للوعي

 
عقول أخرى - الأخطبوط والبحر والأصول العميقة للوعي

 "Other Minds: The Octopus, the Sea, and the Deep Origins of Consciousness" لبيتر جودفري-سميث

المقدمة: لقاء مع كائنات "غريبة"

يقدم الفيلسوف وعالم الأحياء بيتر جودفري-سميث في كتابه "Other Minds" (2016) رحلة استثنائية تستكشف تطور الوعي من خلال عدسة الكائنات الأكثر غرابة في المحيط: الرخويات الرأسية (cephalopods) مثل الأخطبوط والحبار.

 يدلل الكاتب بأن هذه الكائنات تمثل "تجربة تطورية مستقلة" لظهور الذكاء المعقد، مما يجعلها أقرب ما سنعرفه إلى "كائنات فضائية ذكية" على الأرض.

"عندما تغوص في البحر، فإنك تغوص في أصلنا جميعاً".

البنية الفريدة للكتاب

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء مترابطة:

  1. الأصول التطورية: تتبع تاريخ الحياة من الكائنات وحيدة الخلية إلى ظهور الجهاز العصبي.

  2. عقل الأخطبوط: تحليل التركيب العصبي والسلوكي للرخويات.

  3. الآثار الفلسفية: استكشاف طبيعة الوعي و"التجربة الذاتية".

 الأصول العميقة للوعي

من البكتيريا إلى الجهاز العصبي

  • الحياة المبكرة: بدأت الحياة قبل 3.8 مليار سنة، لكن الحيوانات ظهرت منذ 600 مليون سنة فقط. حتى الكائنات وحيدة الخلية مثل بكتيريا الإيكولاي تظهر سلوكاً معقداً:

    • تستشعر المواد الكيميائية (شبيهة بالذوق والشم).

    • تتحرك نحو الغذاء باستخدام الأسواط (flagella).

  • التعاون الخلوي: تطورت الكائنات متعددة الخلايا من خلال "إشارات كيميائية" بين الخلايا، مثل بكتيريا الضياء الحيوي (bioluminescence) في الحبار التي تضيء عندما تشعر بوجود أعداد كبيرة من نظيراتها.

  • الانفجار الكامبري: قبل 542 مليون سنة، أدى سباق التسلح التطوري بين المفترس والفريسة إلى ظهور:

    • أجسام معقدة.

    • أول أنظمة عصبية بدائية في قناديل البحر.

تطور الأدمغة: ثلاث مسارات

يُظهر شجرة الحياة أن الذكاء المعقد تطور بشكل مستقل في ثلاث مجموعات:

  1. الفَقَارِيات (مثل البشر والطيور).

  2. المفصليات (مثل الحشرات والعناكب).

  3. الرخويات الرأسية (مثل الأخطبوط).

"تطور العقل استجابةً لعقول أخرى.

 الأخطبوط  "كائن فضائي أرضي"

التركيب العصبي الثوري

  • الدماغ المركزي: يحتوي دماغ الأخطبوط على 500 مليون خلية عصبية، مماثل لكلب أو طفل عمره 3 سنوات.

  • الأذرع الذكية: تحتوي الأذرع وحدها على ضعف عدد الخلايا العصبية في الدماغ (ما يقرب 350 مليون خلية عصبية)، مما يمنحها:

    • استقلالية جزئية في الحركة واللمس والتذوق.

    • قدرة على حل المشكلات (مثل فتح البرطمانات) دون تدخل الدماغ المركزي.

  • غياب الفصل بين الدماغ والجسم: يعيش الأخطبوط "خارج التقسيم التقليدي للجسم والدماغ"، حيث يكون الجسد نفسه جزءاً من النظام الإدراكي.

سلوكيات مذهلة: أكثر من مجرد غرائز

  • الدهاء: في مختبرات نيوزيلندا، تعلم أخطبوط إطفاء الأضواء المزعجة برش الماء عليها.

  • الهروب: حالات هروب أخطبوطات من أحواضها لسرقة أسماك من أحواض مجاورة ثم العودة وتغطية نفسها.

  • التلاعب بالأشياء: استخدام قشور جوز الهند كأدوات أو "لعب" لأغراض استكشافية.

  • التواصل اللوني:

    • تحتوي جلد الأخطبوط على خلايا حاملات الألوان (chromatophores) تسمح بتغيير اللون والنمط في أجزاء من الثانية.

    • الغريب أن الأخطبوط أعمى للألوان (لديه مستقبل ضوئي واحد فقط)! الحل: مستقبلات ضوئية في جلده تسمح له "بالرؤية" عبر الجلد.

 الجهاز العصبي البشري والأخطبوطي

المعيارالبشرالأخطبوط
عدد الخلايا العصبية86 مليار500 مليون
توزيع الخلايامركزية (في الدماغ)لا مركزية (65% في الأذرع)
الإدراك الحسيمنفصل (لمس، تذوق، بصري)موحد (الأذرع تلمس وتتذوق)
مدة الحياة70-80 سنة1-2 سنة (معدل نمو سريع)

لغز العمر القصير

يعيش الأخطبوط فقط 1-2 سنوات، مما يطرح سؤالاً محيراً: لماذا يطور جهازاً عصبياً معقداً مكلفاً في وقت قصير؟ الإجابة المحتملة:

  • التخلي عن القوقعة جعله فريسة سهلة، مما تطلب استراتيجية "عش بسرعة ومت شاباً".

  • التركيز على التكاثر السريع بدلاً من البقاء طويلاً.

"أوكتوبوليس" مختبر طبيعي تحت الماء

قبالة سواحل أستراليا، يصف جودفري-سميث موقع غوص فريداً أسماه "أوكتوبوليس" (Octopolis)، حيث:

  • يتجمع عدد غير معتاد من الأخطبوطات.

  • يظهرون سلوكيات اجتماعية مثل التواصل اللوني والمنافسة على المساحات.
    يشكك هذا الموقع في الفكرة التقليدية أن الأخطبوط كائن انعزالي، ويفتح الباب لفهم تطور الذكاء في سياق اجتماعي.

 الفلسفة والوعي

ما هي "التجربة الذاتية"؟

يميز الكاتب بين:

  • الوعي (Consciousness): شكل متقدم من التجربة الذاتية المرتبط بالتفكير المتسلسل.

  • الإحساس (Sentience): التجربة الذاتية الأساسية (مثل الشعور بالألم أو المتعة).
    ويجادل أن الإحساس نتج عن التفاعل بين الإدراك الحسي والفعل:

"الشكل العام لعلاقات السبب والنتيجة يشبه هذا: ما تشعر به بعد ذلك له مصدران: ما فعلته للتو، وما يفعله العالم من حولك.

هل يشعر الأخطبوط بالألم؟

  • عند إصابة أذرعهم، يظهرون سلوكيات وقائية.

  • يشير هذا إلى وجود شكل من "الإحساس" حتى بدون وعي شبيه بالبشر.

معضلة العقول الأخرى

يستحضر الكاتب سؤال الفيلسوف توماس ناجل: "ما هو الشعور بأن تكون خفاشاً؟" ويطبقه على الأخطبوط:

  • الذكاء البشري: يعتمد على اللغة والتمثيل الداخلي للعالم.

  • ذكاء الأخطبوط: مبني على الجسد المتغير والإدراك الموزع، مما يجعله "أكثر العقول غرابة".

الفصل الخامس: الانعكاسات الأخلاقية والإيكولوجية

  • الأخلاق: ذكاء الأخطبوط يدفع للتساؤل عن أخلاقية أكله أو احتجازه.

  • التأثير البشري: يربط جودفري-سميث في كتاباته اللاحقة بين وعي هذه الكائنات ومسؤوليتنا تجاه المحيطات.

  • مستقبل الوعي: إذا تطور الذكاء مرتين على الأرض، فهل قد يتطور على كواكب أخرى؟.

تقييم نقدي للكتاب

الإسهامات الرئيسية

  • جسر بين التخصصات: دمج الفلسفة وعلم الأحياء وعلم الأعصاب.

  • تحدي المركزية البشرية: إظهار أن الذكاء ليس مساراً تطورياً واحداً.

  • كتابة أدبية: أوصاف شعرية مثل "مصباح ضبابي" لوصف الجهاز العصبي الأول.

الانتقادات المحتملة

  • غياب الانتخاب الجنسي: كيف أثر التزاوج على تطور ذكاء الأخطبوط؟.

  • معضلة الوعي: يبقى سؤال "ما هو الشعور بأن تكون أخطبوطاً؟" بدون إجابة قاطعة.

درس في التواضع التطوري

يختتم جودفري-سميث بأن دراسة الأخطبوط ليست مجرد فضول علمي، بل هي تذكير بتواضعنا التطوري. ففي أعماق المحيط، حيث بدأت الحياة، نلتقي بكائنات تذكرنا بأن الوعي ليس حكراً على البشر، وأن الطبيعة قادرة على إبداع حلول لا نهائية لألغاز الوجود.

"هذه الكائنات الغريبة الجميلة تشبهنا أكثر مما تسمح به غطرستنا. فقط الصدفة التطورية هي التي تفصل بيننا.

 كتب مقترحة للقراءة المتعمقة

  1. "روح الأخطبوط" لـ سي مونتغمري: استكشاف عاطفي لشخصية الأخطبوط.

  2. "إمبراطورية الحبار" لـ دانا ستاف: تاريخ تطور الرخويات.

  3. "Metazoa" لـ جودفري-سميث: تتمة فلسفية عن تطور الوعي في الحيوانات.

هذا الملخص يغطي جوهر الكتاب مع الحفاظ على العمق الفلسفي والعلمي الذي يميز عمل جودفري-سميث، مقدماً رؤية شاملة لعالم يعيد فيه الأخطبوط تعريف مفهوم "الذكاء" نفسه

إرسال تعليق

0 تعليقات