جورباتشوف - حياته وعصره لـ ويليام توبمان
رحلة استكشاف لغز تاريخي
يقدم ويليام توبمان في سيرته الضخمة "جورباتشوف: حياته وعصره" (2017) دراسة شاملة عن آخر قادة الاتحاد السوفيتي، مستنداً إلى 12 عاماً من البحث الدقيق، بما في ذلك مقابلات متعددة مع جورباتشوف نفسه وأرشيفات لم تُنشر من قبل.
يسلط توبمان - الحائز على جائزة بوليتزر لسيرته عن خروتشوف - الضوء على التناقض المحيط بشخصية جورباتشوف الذي حير المؤرخين: كيف استطاع رجل ينتمي للنظام أن يكون أداة تفكيكه؟ وكيف حظي بإعجاب العالم بينما يكرهه شعبه؟
التكوين (1931-1985)
1. الجذور الريفية وتأثير الطفولة
وُلد ميخائيل جورباتشوف عام 1931 في قرية بريفولنوي الفقيرة بمنطقة ستافروبول. عاش طفولة قاسية تحت ظل ستالين والحرب العالمية الثانية، حيث شهد المجاعة والاحتلال النازي.
تأثر بشدة بوالده سيرجي، الذي وصفه توبمان بـ "نموذج اللطف والعمل الدؤوب" (مستشهداً بصورة له في الزي العسكري وهو يبتسم). بينما كانت والدته ماريا "باردة وقاسية"، لكنها أدخلت له الإيمان المسيحي سراً.
عمله في الزراعة الجماعية مع والده غرس فيه إدراكاً لـ إخفاقات النظام الستاليني، بينما أعطاه جده الأُمي (مدير المزرعة الجماعية) إيماناً بالعدالة الاجتماعية.
2. الجامعة: بوتقة التغيير الفكري
التحق بجامعة موسكو عام 1950 لدراسة القانون، وهي الفترة التي وصفها توبمان بأنها "انفتاح على عوالم الفكر المحظورة". اطلع على أعمار ماركس وإنجلز، لكنه تأثر أيضاً بكتابات "يسارية غربية" مثل غرامشي.
هناك التقى رائدة تيتارينكو، "الشريك الفكري والحب الذي غير حياته". تزوجا عام 1953 وباتا ثنائياً لا ينفصل، حيث كانت رائدة "تساهم في صياغة خطاباته وتحلل مواقفه السياسية".
3. الصعود في دهاليز الحزب
بدأ مسيرته في الحزب الشيوعي بستافروبول، حيث برز بفضل ذكائه وجرأته. في حادثة كاشفة، واجه رئيسه ليونيد يفريموف صارخاً: "أرفض اتهاماتك!" عندما اتهمه "بالتعالي".
جذبه رئيس الكي جي بي يوري أندروبوف الذي أصبح "راعيه السياسي". نصحه أندروبوف: "أنت المضيف هنا، فخذ زمام المبادرة"، وهي نصيحة طبّقها جورباتشوف لاحقاً في الدبلوماسية.
بحلول 1978، انتقل إلى موسكو كعضو في السكرتارية المركزية، مستفيداً من موت جيل القادة العجزة (بريجنيف، أندروبوف، تشيرنينكو) ليصبح أصمر أمين عام في تاريخ الاتحاد السوفيتي (54 عاماً) عام 1985.
القمة والسقوط (1985-1991)
1. رؤية الإصلاح: البريسترويكا والغلاسنوست
أطلق جورباتشوف سياساته الشهيرة كـ "محاولة لإضفاء إنسانية على الاشتراكية":
البريسترويكا (إعادة الهيكلة): سمح بالملكية الخاصة المحدودة وأراد تقليل بيروقراطية الدولة.
الغلاسنوست (الشفافية): حرر الإعلام، وحرر السجناء السياسيين، وسمح بانتقاد النظام علناً.
لكن توبمان يوضح أن تناقضاً جوهرياً لازم رؤيته: "كان يؤمن بإصلاح النظام مع بقائه شيوعياً مخلصاً". في 1987 قال لمساعده أناتولي تشيرنيايف: "لقد أفشلنا الاشتراكية: لم يبقَ منها شيء"، لكنه كان يعيد قراءة خطابات لينين بحثاً عن حلول.
2. الثورة الدبلوماسية: إنهاء الحرب الباردة
يُعد توبمان جورباتشوف وريغان "شريكين مثاليين رغم اختلافهما":
انسحاب سلمي من أفغانستان عام 1989 (وصفه توبمان بأنه "نجاح نسبي" لا هزيمة).
توقيع معاهدة الصواريخ المتوسطة (INF) عام 1987 مع ريغان بعد مفاوضات شابها توتر بشري (كادت النكتة غير المقصودة أن تفشلها).
خطابه التاريخي في الأمم المتحدة 1988: أعلن فيه سحب 500,000 جندي من أوروبا الشرقية.
الموقف من أوروبا الشرقية: "عزلة روسية" ضد الأممية السوفيتية. عندما سقط جدار برلين (1989)، لم يعقد جورباتشوف اجتماعاً للبوليتبرو، بل أرسل رسائل تأييد لقادة الغرب.
3. الاقتصاد والقوميات
الاقتصاد المُنهار: فشلت إصلاحاته في تحسين حياة المواطنين:
نقص الغذاء: "لماذا كانت المحلات فارغة؟" (سؤال يطرحه توبمان دون إجابة شافية).
انتشار السوق السوداء: "أصبحت طاغية".
فشل التعاونيات الصغيرة كبداية لاقتصاد السوق.
انفجار القوميات: تجاهل تحذيرات عن صعود النزعات الانفصالية في دول البلطيق وأوكرانيا. عندما أعلنت ليتوانيا الاستقلال (1990)، استخدم القوة (خلافاً لمبادئه) مما أسفر عن سقوط ضحايا.
4. الصراع مع يلتسين ونهاية الاتحاد
العلاقة مع بوريس يلتسين: "كراهية متبادلة" تحولت لصراع وجودي. يوثق توبمان كيف "أهان جورباتشوف ومساعدوه يلتسين علناً"، بينما رد يلتسين بـ"استعراضات استفزازية" (كالصعود على دبابة أثناء الانقلاب).
انقلاب أغسطس 1991: حاول المحافظون الإطاحة بجورباتشوف. توبمان يروي تفاصيل درامية:
جورباتشوف يهدد بالانتحار إذا أجبر على الاستقالة.
عودته من الإقامة الجبرية في القرم ليجد يلتسين قد استولى على السلطة.
خطيئة عدم ذكره للمتظاهرين الذين دافعوا عن الديمقراطية.
تفكيك الاتحاد: بحلول ديسمبر 1991، وقّع يلتسين مع زعماء أوكرانيا وبيلاروس "اتفاقية بيلوفيج" التي أعلنت نهاية الاتحاد السوفيتي. قدم جورباتشوف استقالته يوم 25 ديسمبر قائلاً: "لن أموت تماماً... روحي ستبقى".
الأبعاد الإنسانية والفكرية
1. رائدة: القوة الخفية
تبرز رائدة في السيرة كـ "المستشارة السياسية غير الرسمية". كانا "يتناقشان في كل شيء"، حتى إنها كانت تساهم في صياغة خطبه. توبمان ينفي أنها "سيطرت عليه" كما أشاع خصومه، بل كانت "حليفته الأكثر ثقة".
تأثير موتها بالسرطان عام 1999: "تحطّم قلبه" وغرق في كآبة طويلة.
2. التناقضات النفسية: بين لينين والضمير
يصور توبمان جورباتشوف كـ "بطل تراجيدي" تغلبه تناقضاته:
الوفاء للينين: رغم فضحه لجرائم ستالين، ظل يقدس لينين ("رجل عظيم")، بل قرأ أعماله الكاملة (55 مجلداً) أثناء الأزمات.
اللغة البذيئة: في لحظات الغضب، كان يطلق ألفاظاً نابية ("لا يمكنني إطلاق هذا الكلب المسعور").
الواقعية المفقودة: "تصور أنه يستطيع إصلاح النظام دون هدمه".
3. الدين: الإيمان الخفي
يكشف توبمان أن جورباتشوف "عُمّد سراً في طفولته" على يد أمه وجدته، لكنه أهمل هذا الجانب رغم أدلة لاحقة (مثل زيارته لقبر القديس فرنسيس في إيطاليا 2008 حيث قال: "قادني إلى الكنيسة").
الإرث والتقييم
1. ما أنجزه وما أخفق فيه
الإنجازات | الإخفاقات |
---|---|
إنهاء الحرب الباردة دون إراقة دماء | انهيار الاقتصاد السوفيتي |
إطلاق حرية التعبير والديمقراطية التعددية | تفكك الاتحاد السوفيتي |
الانسحاب من أفغانستان | صعود القوميات دون استعداد |
رفض استخدام القوة في أوروبا الشرقية | فشل تحويل الحزب إلى ديمقراطي اجتماعي |
2: التناقض في التقييم
في الغرب: بطل (نوبل للسلام 1990)، "الرجل الذي حرر أوروبا".
في روسيا: "كاره على نطاق واسع" (حصل على 0.5% في انتخابات 1996). بوتين رأى في سقوط الاتحاد "مأساة جيوسياسية".
3. رؤية توبمان: البطل التراجيدي
يخلص توبمان إلى أن جورباتشوف كان "مثاليًا نبيلاً لكنه واقعي ضعيف":
"قواه جعلت كل شيء ممكناً، لكن نقاط ضعفه قوّضت مشروعه بالكامل... كان شكسبيرياً في تراجيدية مصيره: حاول أن يجعل الشيوعية جديرة بالثناء، فدفنها".
الغموض الدائم
يختتم توبمان بالقول إن جورباتشوف ظل "لغزاً حتى لنفسه".
الكتاب، رغم ضخامته (880 صفحة)، يحافظ على إيقاع سردي جذاب، لكنه يترك أسئلة دون إجابة:
لماذا لم يطور برنامجاً اقتصادياً سريعاً عند توليه السلطة؟
كيف وافق على توحيد ألمانيا في الناتو دون ضمانات؟
هل كان من الممكن حقاً إنقاذ الاتحاد؟
يظل هذا العمل المرجع الأساسي لفهم جورباتشوف، ليس كقائد فقط، بل كفلاح أصبح مصنعاً للتاريخ، ثم ضحيته الأكثر إثارة للدهشة.
"لو نجح، لكان حول روسيا إلى نموذج لاشتراكية ديمقراطية... لكن التاريخ يعامله بلطف أكبر من شعبه
0 تعليقات