صعود المال - تاريخ مالي للعالم

 
صعود المال - تاريخ مالي للعالم

The Ascent of Money: A Financial History of the World

"صعود المال: تاريخ مالي للعالم" لنيل فرغسون

مقدمة: لماذا تاريخ المال مهم؟

يبدأ نيل فرغسون كتابه الرائد "صعود المال" بتذكير قوي: غالبًا ما يُنظر إلى العالم المالي على أنه برج عاجي معقد وممل، يسكنه خبراء يتحدثون بلغة غامضة.
 لكن فرغسون يجادل بأن التمويل هو، في جوهره، أساس التقدم البشري. لا يمكن فهم صعود الحضارة الإنسانية – من العصور القديمة إلى العولمة الحديثة – دون فهم التطور الموازي للنظام المالي.

 العنوان نفسه "صعود المال" (The Ascent of Money) هو يلعب علي الكلمات مقصود على عنوان كتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع" (The Origin of Species)، مما يشير إلى أن النظام المالي قد تطور وتكيف وانتقى بطريقة داروينية ليكون الدعامة الأساسية لعالمنا الحديث.

الكتاب ليس مجرد تاريخ للنقود، بل هو تاريخ للبشرية من خلال عدسة التمويل. يوضح فرغسون كيف ولدت الأدوات المالية لتحقيق احتياجات بشرية أساسية: لتمويل المشاريع، لإدارة المخاطر، ولتقليل عدم اليقين. الرحلة من نقود المقايضة إلى المشتقات المالية المعقدة هي قصة الابتكار البشري في أبشع وأجمل تجلياته.


الفصل الأول: أحلام الاقتراض (من المرابين إلى الرهون العقارية)

يستكشف هذا الفصل الجذور القديمة للائتمان والدين، والتي سبقت ظهور النقود المعدنية نفسها. في بلاد ما بين النهرين، كانت السندات (شكل من أشكال الائتمان) مسجلة على ألواح طينية. يشرح فرغسون كيف أن ظهور النقود المعدنية سهل التداول، لكن النظام الائتماني ظل العمود الفقري للاقتصاد.

  • المرابون والربا: يناقش الوصمة الأخلاقية والدينية المرتبطة بالإقراض بفائدة (الربا)، والتي كانت موجودة في الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية. هذه الوصمة جعلت من الصعب تلبية الطلب المتزايد على الائتمان.

  • ابتكار البنوك: ظهرت الحلول مع ظهور المصرفيين الإيطاليين في عصر النهضة (مثال عائلة ميديشي). قاموا بتحويل الأموال وتحويل العملات وتطوير نظام المحاسبة ذات القيد المزدوج، مما جعل الإقراض أكثر أمانًا وفعالية.

  • السندات الحكومية: كانت الخطوة التالية الكبرى هي قدرة الحكومات على الاقتراض على نطاق واسع. يروي فرغسون قصة "الثورة المالية" في إنجلترا بعد ثورة 1688، حيث أنشأ وليام الثالث بنك إنجلترا لتمويل الحروب ضد لويس الرابع عشر. سمح إصدار السندات الحكومية طويلة الأجل (المضمونة بسلطة الضرائب المستقبلية) لإنجلترا، دولة صغيرة، بهزيمة فرنسا، العملاق الديموغرافي. كانت هذه "قوة التمويل" في أعظم تجلياتها.

  • الرهون العقارية والأزمة المالية 2008: يربط فرغسون هذه الدروس التاريخية بالأزمة المالية لعام 2008. يشرح كيف أدى تحويل الرهون العقارية إلى أوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري (MBS) ومن ثم مشتقات الديون (CDOs) إلى إنشاء سلسلة من الديون غير الشفافة والمحفوفة بالمخاطر. لقد نسى العالم أن الائتمان، بدون تقييم صحيح للمخاطر، هو مجرد وهم للثروة يؤدي حتمًا إلى الانهيار. كانت الأزمة نتيجة مباشرة لفصل الإقراض عن المخاطرة.

الخلاصة: الائتمان هو شريان الحياة للنمو الاقتصادي، ولكن عندما يفقد اتصاله بالواقع، يصبح سلاح دمار شامل.


الفصل الثاني: سوق الأسهم (من شركات الهند الشرقية إلى الرأسمالية للجميع)

ينتقل فرغسون إلى تطور أسواق الأسهم وكيف مكنت تجميع رأس المال للمشاريع الضخمة والمحفوفة بالمخاطر.

  • شركات الأسهم المشتركة: كانت شركات مثل شركة الهند الشرقية الهولندية (VOC) هي أولى الشركات الحديثة التي أصدرت الأسهم للس العامة . سمح بيع حصص في أرباح الشركة المستقبلية بجمع أموال هائلة لتمويل رحلات استكشافية خطرة ولكنها مربحة للغاية. كانت أمستردام هي مركز هذا الابتكار.

  • التقلبات والفقاعات: لم تكن الأسواق عقلانية أبدًا. يروي فرغسون قصة فقاعة بحر الجنوب في إنجلترا و فقاعة ميسيسيبي لجون لو في فرنسا، مما يظهر كيف يمكن للتفاؤل الجامح والاحتيال أن يفصل سعر السهم عن قيمته الأساسية، مما يؤدي إلى انهيار مالي مدمر.

  • نظرية المحفظة الحديثة: يشرح كيف حاول الاقتصاديون مثل هاري ماركويتز وويليام شارب فهم وإدارة مخاطر السوق من خلال التنويع واختراع نماذج مثل نموذج تسعير الأصول الرأسمالية (CAPM). لقد حاولوا جعل الاستثمار علمًا وليس مقامرة.

  • دمقرطة الأسهم: يتابع فرغسون انتشار ملكية الأسهم من خلال صناديق الاستثمار المشتركة وصناديق المؤشرات، مما جعل الرأسمالية في متناول الشخص العادي. ومع ذلك، يحذر من أن التنويع لا يلغي المخاطر النظامية (مخاطر السوق بأكمله)، كما رأينا في أزمات مثل انهيار عام 2008.

الخلاصة: سوق الأسهم هو أقوى آلة على الإطلاق لخلق الثروة وتوجيه رأس المال إلى أفكار عظيمة، لكنه أيضًا مسرح للجشع الجماعي والذعر الذي يجب فهمه وإدارته.


الفصل الثالث: سوق السندات (من عصر النهضة إلى حكام العالم الخفي)

هذا الفصل مخصص للطرف الآخر من سوق رأس المال: سندات الدين. إذا كانت الأسهم تملك الشركات، فإن السندات تقرض لها.

  • قوة السندات: يكرر فرغسون نقطة أساسية: من يستطيع إصدار السندات الموثوقة لديه قوة مالية هائلة. سمحت سندات الحرب ("Consols" في بريطانيا) للدول بتمويل الصراعات الطويلة. جعلت سندات الحكومة الأمريكية ("Treasury Bonds") من الولايات المتحدة قوة عظمى.

  • الملوك مقابل الأسواق: يحكي قصة كيف أجبرت أسواق السندات حتى أقوى الملوك على الخضوع. عندما أعلن فيليب الثاني ملك إسبانيا إفلاسه بشكل متكرر، دمر مصداقيته الائتمانية. في المقابل، التزمت بريطانيا بسداد ديونها، مما منحها تكلفة اقتراض أقل وميزة حاسمة في الحروب.

  • سندات اليانصيب والديون عالية المخاطر: يناقش ظهور سندات "اليانصيب" وأسواق سندات القمامة (Junk Bonds) في الثمانينيات، حيث جعل مايكل ميلكن من الممكن للشركات الخطرة أن تقترض، بمعدلات فائدة مرتفعة تعكس المخاطر.

  • السندات كأداة تنبؤ: يشرح كيف يمكن لعائد السندات أن يكون مؤشرًا قويًا على ثقة المستثمرين. إذا ارتفع العائد على سندات حكومة ما، فهذا يعني أن المستثمرين يشعرون بالقلق بشأن مخاطر التخلف عن السداد. إنه مقياس لصحة الاقتصاد.

الخلاصة: سوق السندات هو "الكلب البطيء" والهادئ ولكن القوي الذي يسحب اقتصاد العالم. إنه يحكم الحكومات، ويكافئ المسؤولية المالية ويعاقب التهور.


الفصل الرابع: التأمين (إدارة مخاطر الحياة)

هنا، يتحول فرغسون إلى واحدة من أعظم الابتكارات المالية: التأمين. إنها الآلية التي تسمح للمجتمع بتخفيف المخاطر الكارثية على الأفراد.

  • الجذور القديمة: يبدأ بنوادي الدفن الرومانية وأخويات النقابات في العصور الوسطى، التي جمعت الأموال لدفن الموتى ورعاية الأرامل.

  • الرياضيات والمخاطر: كانت القفزة الكبرى هي تطبيق الإحصاء ونظرية الاحتمالات على طول العمر. في إنجلترا، أنشأ عالم الفلك إدموند هالي أول جدول للوفيات، مما سمح بحساب أقساط التأمين بدقة بناءً على العمر.

  • من التأمين على الحياة إلى التأمين على الممتلكات: انتقل المبدأ من التأمين على الأشخاص إلى التأمين على السفن والمباني، وهو أمر بالغ الأهمية للتجارة العالمية.

  • التأمين الاجتماعي والدولة: يشرح كيف أدت فكرة التأمين إلى ظهور دولة الرفاهية في ألمانيا تحت قيادة بسمارك، حيث كان التأمين ضد الشيخوخة والمرض والبطالة إلزاميًا ويديره الدولة. لقد كان عقدًا اجتماعيًا جديدًا.

  • المشكلة الأخلاقية والمخاطر النظامية: يناقش فرغسون "المخاطر الأخلاقية" – وهي فكرة أن التأمين يمكن أن يشجع على السلوك المتهور (مثل حرق متجرك المؤمن عليه). على نطاق أوسع، يجادل بأن التأمين الضمني من الحكومة (مثل إنقاذ البنوك) يمكن أن يشجع المؤسسات على المخاطرة المفرطة، مما يخلق مخاطر نظامية تهدد الاقتصاد بأكمله.

الخلاصة: التأمين هو تعبير عن التضامن الاجتماعي والإحصاءات الذكية. لقد جعل الحياة الحديثة أقل خطورة، لكنه يخلق أيضًا حوافز خطيرة يجب إدارتها بعناية.


الفصل الخامس: العقارات (المنزل كاستثمار)

يركز هذا الفصل على أكبر أصل مالي لمعظم الناس: منازلهم. يتتبع فرغسون تطور فكرة أن المنزل ليس مجرد مأوى، بل هو أداة استثمار.

  • من الإيجار إلى التملك: يصف كيف شجعت الحكومات، وخاصة في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ملكية المنازل من خلال قروض الرهن العقاري المضمونة (عبر مؤسسات مثل فاني ماي و فريدي ماك) وإعانات الضرائب (خصم الفائدة على الرهن العقاري). أصبح "الحلم الأمريكي" مرتبطًا بامتلاك منزل.

  • خلق الثروة والديون: أدى هذا إلى إنشاء طبقة وسطى مالكية، ولكن أيضًا إلى ارتفاع هائل في مستويات الديون الخاصة. أصبح المنزل ماكينة صراف آلي، حيث يعيد أصحابه التمويل لسحب حقوق الملكية لتمويل الاستهلاك.

  • الجانب المظلم: الفقاعة والانهيار: يربط هذا مباشرة بأزمة 2008. أدى الطلب المتزايد على الرهون العقارية إلى تخفيف معايير الإقراض ("الرهون العقارية subprime")، وتم تحويل هذه القروض السيئة إلى MBS و CDOs وبيعها للمستثمرين في جميع أنحاء العالم. عندما بدأ المقترضون في التخلف عن السداد، انفجرت الفقاعة، وكاد النظام المالي العالمي أن ينهار.

  • المخاطرة والتمويل: تكمن المشكلة، كما يرى فرغسون، في أن الناس نسوا أن أسعار المساكن يمكن أن تنخفض أيضًا. لقد بالغوا في تقدير المكافأة وقللوا من شأن المخاطرة.

الخلاصة: تحول المنزل من كونها مسكنًا إلى أصل مالي كان محوريًا في النمو الاقتصادي وفي الأزمات. إنه يذكرنا بأن تقييم الأصول يجب أن يستند إلى أساسيات وليس إلى تفاؤل أعمى.


الفصل السادس: من الإمبراطورية إلى Chimerica (العولمة المالية)

في الفصل الأخير، يجمع فرغسون كل الخيوط معًا ليروي قصة العولمة المالية.

  • دور التمويل في الإمبريالية: يجادل بأن التمويل كان أداة حاسمة للإمبريالية الأوروبية. سمح لبريطانيا، على سبيل المثال، ببناء شبكة عالمية من السكك الحديدية والمناجم، وربط العالم بأسواق المال في لندن.

  • انهيار وارتفاع: يتتبع انهيار العولمة بعد الحرب العالمية الأولى، والكساد العظيم، وقيود رأس المال في فترة ما بعد الحرب. ثم يصف إحياءها التدريجي تحت قيادة ريغان وتاتشر في الثمانينيات، مع تحرير الأسواق وإلغاء القيود.

  • ظاهرة "Chimerica": هذا هو مفهوم فرغسون المركزي. يصف كيف أصبح الاقتصاد العالمي في أوائل القرن الحادي والعشرين يعتمد على علاقة تكافلية بين الصين (المدخر والمنتج) والولايات المتحدة (المستهلف والمقترض).
    كانت الصين تشتري سندات الخزانة الأمريكية باحتياطياتها الهائلة من الدولارات، مما أبعد أسعار الفائدة منخفضة وسمح للأمريكيين بالاستمرار في الاقتراض والإنفاق بتهور لشراء البضائع الصينية. لقد كانت دورة كانت مربحة للطرفين ولكنها غير متوازنة بشكل خطير وكانت أحد الأسباب الجذرية لأزمة 2008.

  • مستقبل التمويل: يتنبأ فرغسون بتحول القوة المالية من الغرب إلى الشرق، ويتساءل عما إذا كانت الديمقراطيات الغربية القديمة ستظل قادرة على المنافسة في عالم من التدفقات المالية العالمية الفائقة السرعة.

الخلاصة: العولمة المالية هي قوة لا يمكن وقفها تقريبًا، ولها القدرة على خلق ثروة غير مسبوقة وعدم استقرار غير مسبوق. إن فهم ديناميكياتها، مثل علاقة Chimerica، هو مفتاح فهم العالم الحديث.


من البربرية إلى الحضارة والعودة مرة أخرى؟

يختتم فرغسون بأن التمويل هو، في النهاية، مقياس للثقة في المستقبل. إنه شبكة الأمان التي تسمح للمجتمع بالتقدم. ومع ذلك، فإن هذا التقدم ليس خطيًا. 

إنه يتقدم في دورات من الابتكار، والازدهار، والثقة المفرطة، والأزمة، والإصلاح.

يحذر من أن تعقيد النظام المالي الحديث يجعل من الصعب على الجمهور وحتى الخبراء فهمه، مما يخلق خطر العودة إلى "البربرية" المالية حيث تنهار الثقة وتنهار الأسواق. 

مفتاح منع ذلك هو التربية المالية – فهم المبادئ الأساسية التي تم تحديدها في الكتاب.

يدعو فرغسون إلى نظام مالي أكثر مرونة وشفافية، حيث يتم تحمل المخاطر من قبل أولئك الذين يسعون إلى تحقيق مكاسب منها، وحيث تدرك الحكومات أن إنقاذ كل مؤسسة فاشلة يخلق مخاطر أخلاقية هائلة.

 صعود المال هو قصة رائعة للتقدم البشري، لكنها أيضًا تذكير دائم بأن الأشياء الجيدة – الائتمان والأسواق والتأمين – يمكن أن تتحول إلى سيئة إذا أسئ استخدامها أو فهمها.


في النهاية، الكتاب هو دعوة للتواضع والفهم. إنه يذكرنا بأن الأسواق هي ظواهر بشرية، تعكس كل من عقلانيتنا وعواطفنا، وكبريائنا وخوفنا. إن فهم تاريخها هو أفضل دفاع لدينا ضد تكرار أخطاء الماضي وأفضل أمل لنا في بناء مستقبل مالي أكثر استقرارًا وازدهارًا للجميع

إرسال تعليق

0 تعليقات