"كيف تموت الديمقراطيات" لستيفن ليفتسكي ودانيال زيبلات: تحليل شامل
مقدمة: لماذا هذا الكتاب مهم؟
في عالم يشهد تراجعًا ديمقراطيًا ملحوظًا، يبرز كتاب "كيف تموت الديمقراطيات" (How Democracies Die) للمؤلفين ستيفن ليفتسكي ودانيال زيبلات كعمل بالغ الأهمية.
يستند هذا الكتاب إلى أبحاث عقود طويلة حول انهيار الديمقراطيات في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ويقدم تحذيرًا صارخًا من المخاطر التي تهدد الديمقراطية في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان.
يُحذر المؤلفان من أن الديمقراطيات لم تعد تموت دائمًا عبر انقلابات عسكرية عنيفة، بل غالبًا ما تموت ببطء وبصمت على يد قادة منتخبين أنفسهم، مما يجعل عملية الانهيار أصعب في التعرف عليها ومقاومتها.
الطرق الحديثة لموت الديمقراطيات
النموذج التقليدي: الموت بالانقلاب العسكري
تاريخيًا، ارتبكت فكرة موت الديمقراطيات بانقلابات عسكرية عنيفة وثورات مسلحة. خلال الحرب الباردة، حدث ثلاثة من كل أربعة انهيارات ديمقراطية بهذه الطريقة، كما حدث في تشيلي (1973) والأرجنتين والبرازيل واليونان.
في هذه السيناريوهات، يكون انهيار الديمقراطية واضحًا وجليًا: دبابات في الشوارع، وقصف القصور الرئاسية، وتعليق الدستور.
النموذج الحديث: الموت البطيء على يد القادة المنتخبين
يشير ليفتسكي وزيبلات إلى أن الصورة تغيرت بعد نهاية الحرب الباردة. اليوم، الطريق الانتخابي نحو الانهيار أصبح أكثر شيوعًا.
يصل القادة إلى السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية، ثم يشرعون بشكل منهجي في تقويض المؤسسات الديمقراطية من الداخل لإضفاء الشرعية على سلطتهم وتوسيعها.
غالبًا ما يتم ذلك تحت غطاء من الشرعية القانونية، حيث تتم المصادقة على الإجراءات من قبل الهيئات التشريعية أو تقبلها المحاكم.
الحفاظ على مظاهر الديمقراطية: لا تزال الانتخابات تُجرى، لكنها قد لا تكون نزيهة. لا تزال الدساتورات سارية، لكنها قد تُفرغ من محتواها. تبقى المؤسسات الرسمية قائمة، لكنها تُستولى عليها وتُوجه لخدمة القائد الحاكم.
التآكل التدريجي: يشبه المؤلفان هذه العملية بـ الغليان البطيء للضفدع؛ فالتغييرات الصغيرة المتتالية لا تنبه المجتمع إلى الخطر قبل فوات الأوان. يصبح من الصعب تمييز اللحظة التي "تعبر" فيها البلاد إلى الديكتاتورية.
دراسة حالة: فنزويلا تحت حكم هوغو شافيز
يقدم المؤلفان حالة هوغو شافيز في فنزويلا كمثال كلاسيكي على هذا المسار الحديث. انتخب شافيز ديمقراطيًا في عام 1998، وشرع في البداية في عملية ديمقراطية لوضع دستور جديد. ومع تراجع شعبيته، بدأ في اتخاذ خطوات نحو الاستبداد: تأجيل الاستفتاءات، وتعبئة المحكمة العليا، وإسكات وسائل الإعلام، واعتقال المعارضين. استغرقت هذه العملية عقدين من الزمن حتى أُعلن على نطاق واسع أن فنزويلا لم تعد ديمقراطية.
الإنذارات المبكرة: كيف نتعرف على الزعماء الاستبداديين؟
يحدد ليفتسكي وزيبلات أربع علامات إنذار رئيسية يجب أن تساعد الناخبين والأحزاب السياسية في التعرف على السياسيين الذين يحملون نزعات استبدادية حتى قبل وصولهم إلى السلطة.
رفض القواعد الديمقراطية (أو الالتزام الضعيف بها): يشكك السياسي علنًا في شرعية القواعد الديمقراطية أو قد يرفض الالتزام بها إذا خسر. على سبيل المثال، التشكيك في نزاهة النظام الانتخابي نفسه أو التلميح بعدم القبول بنتائج الانتخاب في حال الخسارة.
إنكار شرعية الخصوم السياسيين: يرفض السياسي الاعتراف بأن خصومه هم منافسون شرعيون. Instead, he mayوصفهم بأعداء الوطن، أو الإرهابيين، أو المجرمين الذين لا يحق لهم المشاركة في الحياة السياسية.
التسامح مع العنف أو التشجيع عليه: قد يتغاضى السياسي عن أعمال الشغف التي يرتكبها مؤيدوه، أو حتى يشجع بشكل علني على العنف ضد المعارضين أو وسائل الإعلام. هذه علامة خطيرة على عدم الاحترام الكامل للحياة المدنية والسلمية.
الاستعداد لتقييد الحريات المدنية للخصوم: يظهر السياسي استعداده لاستخدام سلطات الدولة لتقييد حريات الآخرين، وخاصة وسائل الإعلام والنقاد، تحت ذرائع مثل "الأمن القومي" أو "مكافحة الفساد".
تطبيق على دونالد ترامب
يذكر المؤلفان أن دونالد ترامب، حتى قبل انتخابه رئيسًا في 2016، أظهر جميع العلامات الأربع:
شكك في نزاهة الانتخابات ورفض القول بأنه سيقبل نتائجها.
أنكر شرعية باراك أوباما (بادعاء أنه غير مولود في الولايات المتحدة) ووصف هيلاري كلينتون بـ "المجرمة".
شجع مؤيديه على استخدام العنف ضد المتظاهرين في تجمعاته.
هدد بشكل متكرر وسائل الإعلام ووعد بتغيير قوانين التشهير لقمع النقاد.
حراس البوابة: الدور الحاسم للأحزاب السياسية
يؤكد الكتاب على أن الأحزاب السياسية هي حراس البوابة الأساسيين للديمقراطية. مهمتهم الأولى والأهم هي منع الشخصيات الاستبدادية من الوصول إلى ترشيحات الأحزاب الكبيرة وبالتالي الوصول إلى السلطة.
كيف تمنع الأحزاب الاستبداديين؟
يمكن للأحزاب ممارسة دور الحارس بعدة طرق:
منعهم من الترشح: رفض ترشيح أشخاص غير ملائمين تحت لواء الحزب.
عزلهم: رفض التحالف مع الأحزاب أو المرشحين المتطرفين ومنحهم الشرعية.
التضامن: تشكيل جبهة موحدة مع الخصوم الإيديولوجيين (مثل اليسار واليمين) للدفاع عن الديمقراطية ضد تهديد مشترك.
أمثلة تاريخية على فشل ونجاح حراس البوابة
نجاح: هنري فورد (الولايات المتحدة، 1924): على الرغم من ثروته وشعبيته الهائلة، تم رفض فورد، المعادي للسامية والمتطرف، من قبل قادة الحزب الجمهوري الذين اعتبروه غير لائق للرئاسة.
فشل: أدولف هتلر (ألمانيا، 1933): اعتقد المحافظون الألمان أنهم يمكن أن يتحالفوا مع هتلر ويضبطوه ويكسبوا من شعبيته. لقد أساؤا تقديره تمامًا، وكانت النتيجة كارثية.
فشل: هوغو شافيز (فنزويلا، 1994): قام الرئيس السابق رافائيل كالديرا، في محاولة يائسة لتعزيز شعبيته، بإسقاط جميع التهم against شافيز الذي كان مسجونًا بعد محاولة انقلاب. هذا منح شافيز الشرعية والشعبية التي قادته في النهاية إلى الرئاسة.
إضعاف حراس البوابة في الولايات المتحدة
يشير المؤلفان إلى أن النظام الأمريكي أصبح أكثر عرضة للخطر بسبب إضعاف دور النخب الحزبية. التغيير الجذري حدث في السبعينيات عندما تم اعتماد الانتخابات التمهيدية الإلزامية على نطاق واسع كآلية لاختيار المرشحين.
نقل هذا السلطة من قادة الحزب إلى الناخبين الأساسيين، مما قلل من قدرة "الحراس" على منع مرشحين غير تقليديين وخطيرين مثل ترامب من الفوز بترشيح الحزب.
القواعد غير المكتوبة: التسامح المتبادل والاحتراز المؤسسي
يكمن قلب الحجة التي يقدمها الكتاب في أن الديمقراطية لا تعمل بمجرد وجود دستور جيد. فهي تحتاج إلى قواعد غير مكتوبة (أعراف) تحكم السلوك السياسي. أهم قاعدتين هما:
1. التسامح المتبادل (Mutual Toleration)
هذا هو المبدأ القائل بأن الخصوم السياسيين ليسوا أعداء، بل منافسون شرعيون في لعبة سياسية مشتركة. يعني هذا أن الأحزاب تقبل بحق بعضها البعض في الحكم إذا فازت في انتخابات نزيهة، دون التشكيك في ولاء الآخر للوطن أو الدستور.
2. الاحتراز المؤسسي (Institutional Forbearance)
هذا هو المبدأ القائل بأن السياسيين يجب أن يمارسوا سلطاتهم باعتدال. يعني تجنب استخدام الصلاحيات الدستورية إلى أقصى حد ممكن، حتى لو كان ذلك قانونيًا تقنيًا، لأن الإفراط في استخدامها يمكن أن يضر بالنظام بأكمله. إنه يتعلق باحترام روح القانون وليس فقط نصه.
الاحتراز: يعني التريث وضبط النفس.
المقابل: "Hardball" الدستوري: هو العكس تمامًا - وهو دفع الصلاحيات إلى أقصى حدودها القانونية لممارسة السلطة، مثل تعطيل التعيينات أو التلاعب بقواعد الانتخاب للحصول على مكاسب حزبية ضيقة.
كيف يقتل "الهاردبول" الدستوري الديمقراطية؟
عندما يختفي التسامح المتبادل وينظر كل طرف إلى الآخر على أنه تهديد وجودي، يصبح من المغري التخلي عن الاحتراز وممارسة "الهاردبول" الدستوري. هذا يخلق دوامة موت من التصعيد:
يتخلى الحزب "أ" عن الاعتدال لتحقيق مكاسب.
يرد الحزب "ب" بإجراءات أكثر تطرفًا.
- يبرر الحزب "أ" ذلك بردة فعل أكثر تطرفًا.هذه الدورة تدمر الثقة والتعاون وتجعل النظام السياسي غير فعال ومستقطبًا بشكل خطير، مما يمهد الطريق لقائد منقذ يعد بكسر الجمود، حتى لو كان ذلك يعني كسر القواعد.
التآكل التدريجي للأعراف في الولايات المتحدة
يؤكد ليفتسكي وزيبلات أن أزمة الديمقراطية الأمريكية لم تبدأ مع دونالد ترامب. لقد كان ترامب نتيجة أكثر من كونه سببًا. لقد وصل إلى السلطة على خلفية تآكل بطيء ولكن ثابت للأعراف الديمقراطية على مدى عدة عقود.
نقطة التحول: حركة الحقوق المدنية وإعادة الاصطفاف الحزبي
بعد إقرار قوانين الحقوق المدنية في الستينيات، حدث إعادة اصطفاف حزبي كبرى. انجذب الناخبون البيض في الجنوب، الذين كانوا تقليديًا ديمقراطيين، إلى الحزب الجمهوري، بينما انجذب الأمريكيون من أصل أفريقي والأقليات الأخرى إلى الحزب الديمقراطي.
أدى هذا إلى إنشاء نظام حزبي مستقطب عرقيًا وجغرافيًا بشكل أكبر، حيث أصبح كل حزب يمثل هوية اجتماعية متميزة وليس فقط مجموعة من السياسات.
صعود "الهاردبول" الدستوري
في هذا المناخ الجديد من الاستقطاب الهوياتي، بدأ التسامح المتبادل في الانهيار. يشير المؤلفان إلى نيوت جينجريتش، رئيس مجلس النواب في التسعينيات، كشخصية محورية.
لقد جلب عقلية الحرب إلى الكونغرس، وشجع الجمهوريون على النظر إلى الديمقراطيين ليس كمنافسين بل كأعداء أخلاقيين يجب تدميرهم. أدى هذا إلى:
زيادة استخدام العرقلة (Filibuster): تحويلها من أداة نادرة إلى سلاح اعتيادي لعرقة التشريعات.
إساءة استخدام عملية العزل (Impeachment): تحويلها من أداة قانونية استثنائية إلى سلاح سياسي عادي (كما في حالة بيل كلينتون).
رفض التعاون: رفض الكونغرس منح الرئيس الشرعية أو التعاون معه، كما حدث مع التهديد برفض منح شرعية أوباما ومحاولات عرقة برنامجه بشكل منهجي.
هذا التآخل التدريجي للقواعد غير المكتوبة هو الذي أزال القيود وسمح لشخصية مثل ترامب، الذي رفض كل هذه الأعراف علانية، بالظهور والنجاح.
كيف يهاجم القادة المنتخبون الديمقراطية؟
بمجرد وصول الزعيم الاستبدادي إلى السلطة، يحدد المؤلفان ثلاث استراتيجيات رئيسية يستخدمها لتركيز السلطة وإضعاف المعارضة:
- الاستيلاء على "الحكام" (Capturing the Referees): تحويل المؤسسات المحايدة مفترض إلى أسلحة حزبية.وهذا يشمل جهاز القضاء، ووكالات إنفاذ القانون (مثل FBI)، والهيئات الإدارية. يتم تعيين الموالين في مناصب رئيسية واستخدام هذه المؤسسات لمكافحة الفساد بشكل انتقائي لمهاجمة الخصوم السياسيين وحماية الحلفاء.
- إبعاد الخصوم (Sidelining Opponents): يستهدف هذا الإستراتيجية وسائل الإعلام المستقلة، والمعارضة السياسية، وقادة المجتمع المدني (مثل النقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية).يتم ذلك عبر قانون التشهير، والتهديدات القانونية، وحملات التشهير، وفي الحالات القصوى، الاعتقال أو العنف.
إمالة ميدان اللعب (Tilting the Playing Field): تغيير القواعد لصالح الحزب الحاكم. يشمل هذا تغيير القوانين الانتخابية، وتغيير التقسيم الجغرافي للدوائر الانتخابية (Gerrymandering) بشكل متطرف، وتقييد حقوق التصويت (مثل إلغاء تسجيل الناخبين تلقائيًا أو فرض متطلبات هوية صارمة) التي تستهدف بشكل غير متناسب ناخبي المعارضة.
استغلال الأزمات
تكمن الخطورة بشكل خاص في حقيقة أن هذه الإستراتيجيات تتسارع وتصبح أسهل خلال الأزمات الوطنية (هجمات إرهابية، أوبئة، انهيارات اقتصادية).
في مثل هذه الأوقات، يكون الجمهور والمؤسسات أكثر قبولًا للإجراءات الاستثنائية التي تزيد من سلطة التنفيذ، مما يوفر للزعيم ذريعة مثالية لتجميع السلطة.
ما الذي يمكننا فعله؟ توصيات للحفاظ على الديمقراطية
يختتم ليفتسكي وزيبلات كتابهما بتقديم توصيات لكيفية تجنب أسوأ السيناريوهات وإصلاح الديمقراطية الأمريكية. تؤكد هذه التوصيات على أن إنقاذ الديمقراطية هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق النخب السياسية والمواطنين على حد سواء.
1. استعادة الأعراف ورفض "الهاردبول" (للجميع)
2. بناء تحالفات واسعة من أجل الديمقراطية
3. معالجة عدم المساواة الاقتصادية والاستقطاب
4. إصلاح الحزب الجمهوري
5. جعل الديمقراطية شاملة للجميع
أخيرًا، يجب أن تصبح الديمقراطية حقيقة يعيشها جميع المواطنين. إذا شعرت مجموعات كبيرة من السكان أن النظام غير عادل ولا يخدمهم، فسيفقد الشرعية ويكونون أكثر انجذابًا إلى الشعبويون الذين يعدون بإسقاطه. لذلك، فإن تعزيز الديمقراطية يعني أيضًا الدفاع عن العدالة الاجتماعية وضمان المشاركة المتساوية للجميع.
مستقبل الديمقراطية الأمريكية
لا يقدم ليفتسكي وزيبلاط تنبؤًا حاسمًا، لكنهما يقدمان ثلاثة سيناريوهات محتملة للمستقبل:
الانتعاش الديمقراطي: يهزم ترامب، وتتعافى الأعراف السياسية تدريجيًا، وتعود أمريكا إلى حالة أكثر استقرارًا.
الاستبداد الكامل: يستخدم الحزب الجمهوري تكتيكات "الهاردبول" للاستيلاء على السلطة وإحكام السيطرة بشكل دائم، مما يؤدي إلى تراجع ديمقراطي كامل.
الديمقراطية بدون حواجز حامية (السيناريو الأرجح): يستمر النظام في العمل كديمقراطية من الناحية الفنية، ولكن مع استمرار انهيار الأعراف، يصبح "الهاردبول" الدستوري هو القاعدة، مما يؤدي إلى جمود سياسي وعسكرة الحياة الحزبية واستمرار التدهور البطيء.
هذا هو المسار الذي كانت فيه العديد من الدول، مثل فنزويلا في بدايتها، وهو ما يشبه بالفعل ما يحدث في ولايات مثل نورث كارولينا.
الرسالة الأساسية للكتاب هي أن مصير الديمقراطية يعتمد في النهاية على اختيارنا نحن كمواطنين، وعلى استعداد قادة للتضحية بمكاسبهم السياسية قصيرة المدى من أجل الحفاظ على النظام الديمقراطي تفسه.
التاريخ لا يحكم على أمريكا، ولكنه يحمل دروسًا ثمينة يجب أن نتعلمها إذا أردنا تجنب مصير العديد من الديمقراطيات التي ماتت من قبل
0 تعليقات