هؤلاء علموني

هؤلاء علموني

 

 "هؤلاء علموني" لسلامة موسى: رحلة في تشكيل عقل تنويري

المقدمة: سياق الكتاب وأهميته التاريخية

صدر كتاب "هؤلاء علموني" عام ١٩٥٣ عن دار المعارف، ويقع في 190–256 صفحة، وهو سيرة فكرية للمفكر المصري سلامة موسى (1887–1958)، يوثق فيه تأثير أبرز رموز الفكر الغربي في تشكيل وعيه. كُتب في مرحلة نضجه الفكري (الستينيات من عمره)، ليقدم للقارئ العربي خلاصة "مصادره الفكرية" مجانًا عبر مؤسسة هنداوي (2011) بعد دخول النص الملكية العامة.

الكتاب ليس سردًا سيرذاتيًا تقليديًا، بل جولة في النهضة الأوروبية الحديثة عبر عيون مثقف مصري عايش تحولات القرن العشرين، ودعا للاشتراكية والعلمانية وتمكين المرأة، مما جعله أحد رواد التنوير في العالم العربي.


البنية الفكرية للكتاب: منهجية التلقي وتصنيف التأثيرات

قسم موسى معلميه إلى ثلاث فئات بناءً على طبيعة تأثيرهم:

الفئةالدورأبرز الأسماء
أصحاب الرؤى المتطرفةتحدّي الثوابت ودفع الحدودنيتشه، دستويفسكي، غاندي
أصحاب المناهج الحياتيةتقديم نماذج للتكامل الفكريجوته، برنارد شو، هـ.ج. ويلز
مقدمي الأفكار المؤسسةتغيير المفاهيم الجوهريةداروين، فرويد، إليوت سميث

رحلة التكوين: من الزقازيق إلى أوروبا

يبدأ الكتاب بتجربته الشخصية في الفرار إلى أوروبا عام 1906 هربًا من "الوسط العائلي المتعقب بالعذاب"، حيث اكتشف عالمًا جديدًا:

  • الحرية السياسية: برلمانات تنتخب حكوماتها، وصحافات تناقش الساسة بجرأة.

  • النهضة الاجتماعية: مكتبات مجانية، شوارع نظيفة، ومشاركة المرأة في الحياة العامة "كإنسان حر يواجه الدنيا بشجاعة".

  • الصدمة الحضارية: دفعتة لتبني هدف "التمدن" عبر تعلّم الفرنسية والإنجليزية والاختلاط بالمجتمعات الأوروبية.


تحليل أبرز الشخصيات وتأثيرها (حسب تصنيف موسى)

١. أصحاب الرؤى المتطرفة: تحدّي السائد

  • نيتشه:
    وصفه موسى بـ "فتنة الشباب"، حيث اكتشفه عام 1909 أثناء انغماسه في نظرية التطور. أعجب بفكرة "الانسلاخ من خرافات الماضي" وتولّي مصير الذات، لكنه حذر من تطرف أتباعه الذين "يتعصبون لمذهب القوة كما لو كان دينًا جديدًا".

  • فولتير:
    رآه "محطم الخرافات" ونموذجًا لمحاربة الاستبداد الديني. أشاد بمقولته الشهيرة "اسحقوا الخزي" في الدفاع عن حرية الفكر، وربط بين وضوح الفكرة والمنطق السليم الذي تميز به الفرنسيون.

  • غاندي:
    اعتبره نموذجًا للكفاح الأخلاقي، حيث "أخجل العالم" بمقاومته السلمية فاستقلت الهند. رغم إعجابه، لم يتبن موسى فكرة اللاعنف كمنهج شامل.

٢. أصحاب المناهج الحياتية: بناء الشخصية المتكاملة

  • جوته:
    رفض تصنيفه كأديب فقط، بل رأى فيه "عبقرية الشخصية". أشاد باهتمامه بتطوير ذاته على حساب أدبه، قائلًا: "من حقي أن أعني بشخصيتي، وهي أكبر من أدبي". هذا التأكيد على "التحفة الأولى للإنسان المثقف" (أي الشخصية) أصبح أحد مرتكزات موسى.

  • برنارد شو:
    تأثر به خلال إقامته في إنجلترا، حيث انضم للجمعية الفابية الاشتراكية. استلهم منه تحويل الأدب إلى أداة لكفاح الظلم، وخاصة في قضايا المرأة والعدالة الاجتماعية.

  • هنريك إبسن:
    رآه "داعية الشخصية المستقلة" للمرأة، خاصة في درامته "لعبة البيت" التي نادت بتحررها من حبس الزواج والأمومة إلى آفاق التعليم والعمل.

٣. مقدمي الأفكار المؤسسة: تغيير المفاهيم الجوهرية

  • داروين:
    كان التأثير الأعمق في حياة موسى، حيث غيّرت نظرية التطور "وجهاده الثقافي الطويل" نظرته للكون والإنسان. وصف كتاب "أصل الأنواع" (1859) بأنه أحدث "مصادمات ذهنية" بين التقليديين والمجددين، وجعله يرى الحياة كـ "استطلاع دائم".

  • فرويد:
    اعتبره مؤسسًا لـ "تشريح النفس البشرية"، حيث دفعه لقراءة عشرات الكتب في علم النفس. لكن موسى انتقده لتركيزه على الغرائز الجنسية بشكل مفرط.

  • فيسمان:
    سماه "المؤلف الذي أفسد ذهني" لتركيزه على وراثة الصفات المكتسبة. أعاد هذا الإيمان تشاؤمه 40 عامًا، قبل أن يتبنى دور الوسط الحضاري في تطوير الإنسان، قائلًا: "الغرائز ما هي إلا عادات تبلورت بتعاقب الأجيال".


المحاور الفكرية الرئيسية في الكتاب

  1. نظرية التطور كإطار تفسيري:
    حولها موسى إلى فلسفة حياتية، فوصف الإنسان بأنه "قمة التطور"، ودعا لتطبيق منهج داروين في فهم التغير المستمر للمجتمعات.

  2. تحرير العقل من الثنائيات التقليدية:

    • الدين vs. العلم: هاجم تحالف الدين مع الاستبداد: "أسوأ ما تصاب به أمة أن يتحد الدين مع الاستبداد... يضر الدين ويحطه".

    • التراث vs. الحداثة: دعا للاستفادة من التراث دون تمجيده.

  3. المرأة كشريك حضاري:
    رأى أن تحريرها شرط لتقدم المجتمعات، مستندًا إلى نماذج مثل إبسن الذي دفع المرأة الأوروبية لـ "تجرب التجارب واختبار الدنيا".

  4. النقد الاجتماعي والسياسي:
    هاجم الرقابة الفكرية: "الحكومة التي تمنع كتابًا قيمًا تخون الإنسانية... كأنها تحاول جعل الشعب أبلدَ أغبى".


الجدالات النقدية حول الكتاب

  • المركزية الأوروبية:
    تجاهل الكتاب تراث الشرق (إلا غاندي)، مما يعكس تحيز موسى للفكر الغربي كطريق وحيد للنهضة.

  • تبسيط الأفكار المعقدة:
    قدم قراءة انتقائية لنيتشه وفرويد، مركزًا على ما يخدم أيديولوجيته (كرفض الدين والتحرر الجنسي).

  • إشكالية الجمع بين المتناقضين:
    مثل تبني اشتراكية شو مع فردية نيتشه، مما يشير لعدم اكتراث موسى بالتماسك الفلسفي قدر اكتراثه بالتحرر من القيود.


الإرث الثقافي للكتاب وتأثيره

  • تأثير متعاقب على الأجيال:
    كان موسى معلمًا لنجيب محفوظ الذي نقل عنه قوله: "عندك موهبة كبيرة، لكن مقالاتك سيئة"، دافعًا إياه لصقل كتابته.

  • نموذج للسيرة الفكرية الذاتية:
    قدم طريقة جديدة للمثقفين العرب لتوثيق تشكل وعيهم عبر حوار مع التراث العالمي.

  • تواصل الإتاحة:
    يُنشر الكتاب مجانًا عبر "هنداوي" و"نور لايبراري" كجزء من المشاع الإبداعي، مع إصدار نسخة صوتية عام 2018 (13 ساعة).


لماذا يظل الكتاب ضروريًا؟

"هؤلاء علموني" ليس سجلًا تاريخيًا فحسب، بل خريطة لتشكيل الوعي التنويري التي تجاوزت عصرها:

  • كمّش نور التلقيح الثقافي: بين التراث المحلي والمنجز الغربي.

  • قدّمت نموذجًا للمثقف العضوي: الذي يحوّل المعرفة إلى مشروع مجتمعي.

  • حذرت من مخاطر القطيعة مع العصر: في قول موسى: "علينا أن ننشد الاستقلال حتى بعد التأثر".

رغم كل انتقادات التبسيط والتحيز، يبقى الكتاب شهادة على قوة الكلمة في تغيير المصائر، وكما يقول موسى: "هناك كتب غيرت نفوسنا كأنها ديانات جديدة". وهو ما جعل هذه "الجولة الموزاييكية" (كما وصفها أحد المراجعين) مرجعًا لمن يبحثون عن بصيرة في زمن الظلام

إرسال تعليق

0 تعليقات