رسول عالمٍ قلق

رسول عالمٍ قلق: كيف جلب هنري برغسون الفلسفة إلى الناس

 

 "رسول عالمٍ قلق: كيف جلب هنري برغسون الفلسفة إلى الناس" لإيميلي هيرينغ

مقدمة: فيلسوف اللحظة والجماهير

يقدم كتاب إيميلي هيرينغ "رسول عالمٍ قلق" سردًا ثريًا ومحوريًا لإعادة اكتشاف أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا وإثارة للجدل في أوائل القرن العشرين: الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941)

لا يكتفي الكتاب بأن يكون سيرة ذاتية فكرية تقليدية، بل هو تحليل عميق لظاهرة ثقافية واجتماعية فريدة، حيث تحول فيلسوف أكاديمي إلى نجمٍ عالمي، تتسابق الجماهير على حضور محاضراته حتى إنها تكسر أبواب القاعات، وتُباع كتبه كأكثر الروايات مبيعًا.

 العنوان الفرعي "كيف جلب برغسون الفلسفة إلى الناس" يلخص الهدف الرئيسي للكتاب: وهو تفكيك كيفية تحول مفاهيم فلسفية معقدة حول الزمن، والذاكرة، والروح، والتطور إلى مادة حيوية للخطاب العام، تؤثر على الفنون والأدب والسياسة وحتى الحياة اليومية للناس في عالم يمر بتحولات مضطربة.

 العالم في حالة قلق – السياق التاريخي والثقافي

تبدأ هيرينغ بوضع القارئ في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه "البرغسونية".

 أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانا حقبة تسودها الاضطرابات العميقة: ثورة أينشتاين في الفيزياء التي هزت مفاهيم الزمان والمكان المطلقين، صعود علم النفس الحديث مع فرويد ويونغ الذي كشف عن تعقيدات العقل الباطن، التصنيع السريع والتحضر الذي غيّر إيقاع الحياة، والاستعداد لحرب عالمية مدمرة.

 في هذا الجو من اليقينيات المتزعزعة، شعر الكثيرون بأن الفلسفات السائدة، سواء كانت المادية العلموية الصارمة أو المثالية العقلانية المجردة، قد فشلت في الإجابة على الأسئلة الوجودية الملحة حول معنى الحياة، وطبيعة الوعي، وحرية الإرادة.

هنا، يبرز برغسون ليس كمُنظّر منعزل في برجه العاجي، بل كـ"رسول" يلمس هذا القلق ويقدم له إجابات بديلة. فلسفته لم تكن هروبًا من الواقع، بل انغماسًا فيه، معترفًا بـ"الحيوية" (Élan Vital) والتغير المستمر كجوهر الوجود.

 قلب الفلسفة رأسًا على عقب – المفاهيم البرغسونية الأساسية

تخصص هيرينغ جزءًا كبيرًا من الكتاب لشرح المفاهيم المركزية في فلسفة برغسون بطريقة واضحة، موضحة كيف أن بساطتها الظاهرية (ولكن عمقها) هي ما جعلتها جذابة للجمهور غير المتخصص:

  1. الزمن الحقيقي (المدة La Durée): هذا هو حجر الزاوية في فلسفة برغسون. يميز بين الزمن العلمي (الكمي، القابل للقياس بالثواني والدقائق، والمكاني) والزمن النفسي الداخلي أو "المدة".
    المدة هي تدفق مستمر، غير قابل للتجزئة، حيث تندمج الحالات النفسية السابقة والحالية في حياة داخلية ديناميكية.
     هي تجربتنا الحية للزمن، حيث تتراكم الذكريات وتشكل حاضرنا بشكل مستمر. هذه الفكرة حررت الزمن من قيود الساعة وردته إلى التجربة الإنسانية الذاتية.

  2. الذاكرة والوعي: بالنسبة لبرغسون، الذاكرة ليست أرشيفًا ميتًا للماضي، بل هي قوة حية تشارك باستمرار في إدراكنا للحاضر.
    هو يميز بين "الذاكرة-العادة" (أي تذكر معلومات آلية مثل رقم الهاتف) و"الذاكرة-الروح" التي تحفظ كل تجاربنا السابقة بشكل حدسي وتلقائي. هذا الربط بين الذاكرة والهوية كان مفتاحًا لفهم الذات.

  3. الحدس (L'Intuition): في مواجهة هيمنة العقل التحليلي الذي يمزق العالم إلى أجزاء، قدم برغسون "الحدس" كوسيلة معرفية أعلى. الحدس هو ذلك التعاطف الفكري الذي يسمح لنا بالدخول إلى داخل الشيء وفهم طبيعته الجوهرية، وليس مجرد تحليله من الخارج. كان هذا تمجيدًا للمعارف غير المنطقية المباشرة التي يتعامل بها الفنان والشاعر.

  4. الحيوية (Élan Vital): في نظرية التطور، عارض برغسون التفسير الميكانيكي الدارويني. وبدلاً من ذلك، قدم فكرة "الحيوية" أو "الدافع الحيوي"، وهي قوة خلاقة وديناميكية داخل الحياة نفسها تدفعها نحو التعقيد والابتكار والتجديد المستمر. هذا أعطى للتطور غاية وطابعًا إبداعيًا، مما عزز نظرة تفاؤلية تجاه المستقبل.

ظاهرة البرغسونية – الفلسفة تلتقي بالجماهير

هذا هو لب إسهام العمل ، حيث تتحول من شرح الفلسفة إلى تحليل ظاهرة انتشارها. تشرح الكاتبة كيف تجاوز تأثير برغسون حرم الجامعة:

  • المحاضرات كأحداث ثقافية: كانت محاضرات برغسون في "الكوليج دو فرانس" ظواهر اجتماعية. كان الحضور من جميع الطبقات: طلاب، أساتذة، كتاب، فنانون، سيدات المجتمع، وحتى السياح.
     كانت القاعات تضيق بالحضور حتى أن البعض كان يكسر الأبواب للدخول. كانت هذه المحاضرات أداءً خطابيًا بليغًا، حيث كان برغسون، بذكائه وبلاغته، يجسد الأفكار المعقدة ويجعلها محسوسة.

  • الكتب الأكثر مبيعًا: لم تكن كتبه مثل "مقال في المعطيات المباشرة للوعي" و"التطور الخلاق" حكرًا على الأكاديميين. لقد بيعت بآلاف النسخ وترجمت إلى عشرات اللغات، وتمت مناقشتها في الصالونات الأدبية والمقاهي.

  • تأثيره على الفنون والأدب: وجد الفنانون الطليعيون في برغسون ملهمًا عظيمًا. كتابات مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود) مشبعة بمفهوم "المدة" واستعادة الماضي عبر الذاكرة اللاإرادية.
     الشعراء الرمزيون، والمستقبليون، والسرياليون (مثل أندريه بريتون) استلهموا تركيزه على الحدس والحلم والتدفق الحر للوعي. في الرسم، يمكن رؤية تأثيره في محاولات تجسيد الحركة والزمن، كما في أعمال دوشامب.

  • التأثير على الفكر الديني والسياسي: أعطت فلسفة برغسون، برغم علمانيتها، دفعة جديدة للفكر الديني من خلال تأكيدها على الروح والحياة الداخلية والخَلق المستمر، مما وفر بديلاً عن الصراع بين العلم والدين. سياسيًا، تم تبنيه من قبل تيارات متناقضة؛ الليبراليون رأوا في حرية الإرادة التي نادى بها أساسًا للديمقراطية، بينما استخدمه القوميون المتطرفون (مثل شارل موراس) بشكل مشوه، واستلهمه بعض المفكرين الاشتراكيين.

 الانحسار والإرث – لماذا اختفى برغسون ثم عاد؟

تتتبع كذا أسباب انحسار شعبية برغسون بعد العشرينات والثلاثينات:

  1. انتقادات الفلاسفة: هاجمه فلاسفة التيار العقلاني (مثل جوليان بندا) لتقديمه الحدس على حساب العقل، واتهموه بـ "عداء الفكر". من اليسار، هاجمه الماركسيون باعتباره مثاليًا ومضللًا للبروليتاريا.

  2. صعود البنيوية والوجودية: جاءت البنيوية مع كلود ليفي شتروس التي ركزت على البنى الثابتة واللغة، لتعاكس تمامًا فكر برغسون الديناميكي والفرادي. كما أن الوجودية مع سارتر، رغم تقاسمها بعض الاهتمامات، قدمت نفسها بوجه أكثر تشاؤمًا وعنفوة.

  3. الملاحقات السياسية: كون برغسون يهوديًا (رغم أنه لم يعلن يهوديته بشكل صارخ) جعله عرضة لهجوم النظام النازي والفاشي في أوروبا. تم وضع كتبه في "القائمة السوداء" من قبل النظام النازي.

  4. وفاته: توفي برغسون في عام 1941، في باريس المحتلة، مما أنهى فصلًا من التاريخ الفكري.

لكن الكتاب لا ينتهي عند هذا الحد. تؤكد هيرينغ على عودة برغسون القوية في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.

 فمع تقدم علوم الأعصاب والدراسات المعرفية، عاد الاهتمام بفكرته عن الزمن والوعي. مع ظهور ما بعد البنيوية، وجد مفكرون مثل جيل دولوز في برغسون حليفًا ضد البنى الثابتة، معتبرًا إياه "أكبر مفكر في القرن". مفهوم "المدة" أصبح أساسيًا في فهم التجربة الإنسانية في عصر الرقمنة المتسارع.

برغسون والقرن الحادي والعشرين

تختتم إيميلي هيرينغ كتابها بتأمل مكانة برغسون اليوم. في عالمنا الحالي، الذي يتسم بقدر أكبر من القلق والتسارع التكنولوجي والبحث عن المعنى، تبدو فلسفة برغسون أكثر راهنية من أي وقت مضى.

 تساؤلاته عن طبيعة الوعي في عصر الذكاء الاصطناعي، وقيمة الحدس في عالم غارق في البيانات، ومعنى الزمن الحقيقي في زمن الوسائط الاجتماعية الفورية، كلها أسئلة حية. لقد كان برغسون نبيًا للقلق الحديث، وقدم فلسفة لا تنفصل عن نسيج الحياة itself.

تقييم :

"رسول عالم قلق" ليس مجرد سرد تاريخي، بل هو عمل تحليلي عميق يستخدم الأرشيف والمراسلات وكتابات المعاصرين لبناء صورة حية لظاهرة البرغسونية. 

قوة الكتاب تكمن في ربطه المتقن بين الأفكار المجردة والسياق الاجتماعي الثقافي الذي انتشرت فيه، مُظهرًا كيف أن الفلسفة، عندما تلامس هموم الإنسان الأساسية، يمكن أن تتحول إلى قوة ثقافية جماهيرية هائلة.

 الكتاب إعادة تأهيل ضرورية لفيلسوف كان تأثيره هائلاً ثم طُويَ ظلمًا، وهو يقدم درسًا مهمًا عن كيفية جعل الفلسفة ذات صلة بحياة الناس، دون التضحية بعمقها أو دقتها

إرسال تعليق

0 تعليقات