مواجهة شهوة الإنتقام

 

مواجهة إلهات الانتقام

 مواجهة إلهات الانتقام: الانتحار، الإغريق القدماء، وأنا - إديث هول

 شبكة معقدة من الماضي والحاضر

"مواجهة إلهات الانتقام" أو مواجهة الغضب Facing Down the Furies: Suicide, the Ancient Greeks, and Me هو ليس مجرد كتاب أكاديمي آخر عن الثقافة اليونانية القديمة. إنه عمل هجين عميق، سيرة ذاتية مؤثرة، واستقصاء فلسفي وجريء في واحدة من أكثر التابوهات (المحرمات) الاجتماعية إثارة للقلق: الانتحار.

 تنسج البروفيسورة إديث هول، إحدى أبرز المتخصصين في العالم في الدراسات الكلاسيكية، خيوطاً معقدة بين تجربتها الشخصية المأساوية مع انتحار والدتها، وتحليلها الثاقب لكيفية نظر الإغريق القدماء إلى فعل إنهاء الحياة بوعي.

العنوان نفسه يحمل ثقلاً رمزياً هائلاً. "الإيرينيات" أو "Furies" هن إلهات الانتقام في الميثولوجيا الإغريقية، كائنات قديمة مخيفة تطارد أولئك الذين ارتكبوا جرائم أسرية، وخاصة قتل الأقارب.

 بالنسبة لهول، أصبحن تجسيداً للعار، والذنب، والصراع النفسي المدمر الذي يخلفه انتحار شخص عزيز، خاصة من قبل أحد الوالدين. الكتاب هو رحلتها لـ "مواجهتهن"، أي لفهم هذا الإرث، ونزع سلطتهن عليها، وإيجاد معنى في ظل هذه المأساة من خلال حكمة القدماء.

 الصدمة والتراث - انتحار الأم

تفتتح هول الكتاب بوصف صادم وواقعي للّحظة التي اكتشفت فيها أن والدتها، التي كانت تعاني من مشاكل نفسية عميقة طويلة الأمد، قد انتحرت.

 لا تقدم هذه التفاصيل لإثارة الشفقة، بل لتأسيس الأساس العاطفي للكتاب. إنها تصف الموجة الأولى من الصدمة، والإنكار، ثم المد المتلاطم من المشاعر الذي يليه: الحزن الهائل، والغضب الشديد من هجران والدتها لها، والشعور الساحق بالذنب ("هل كان بإمكاني فعل المزيد؟")، والعار الاجتماعي الملحوظ الذي يرافق انتحار أحد أفراد الأسرة.

هذا العار، كما توضح، هو أحد الفروق الرئيسية بين تجربتنا الحديثة وتجربة الإغريق. في مجتمعنا، غالباً ما يكون الانتحار سراً ملوثاً، شيئاً يتم تناقسه همساً.

 شعرت هول بأنها حُكم عليها ليس فقط بالفقد، ولكن بوصمة عار صامتة. هذا الدافع لفهم هذا الخليط من المشاعر هو ما قادها إلى العودة إلى مجال تخصصها: العالم اليوناني القديم. 

تسأل: كيف تعاملوا هم مع هذه الظاهرة؟ هل كان لديهم نفس المخاوف الأخلاقية والدينية؟ كيف نظروا إلى أولئك الذين ماتوا بهذه الطريقة وإلى عائلاتهم؟

الانتحار في الفكر الإغريقي: تنوع لا يُختزل إلى حكم واحد

هنا، تظهر براعة هول كعالمة كلاسيكية. بدلاً من تقديم إجابة واحدة مبسطة، تغوص في تعقيد وثراء المواقف الإغريقية من الانتحار، مُظهرة أنها لم تكن أحادية البعد.

  1. الملاحم والأساطير: تبدأ بملاحم هوميروس. في الإلياذة والأوديسة، الموت في ساحة المعركة هو الموت المثالي، أما الانتحار فشبه معدوم، ربما لأن الحياة كانت تُقدّر حتى في معاناتها. لكن في الأساطير، توجد أمثلة مؤثرة: أجاكس البطل الذي يطعن نفسه بغروره بعد خسارته في منافسة، وهو مثال على الانتحار الناتج عن العار والخزي. هيراكليس الذي يختار الموت حرقاً على جنازة نارية لإنهاء آلامه، وهو عمل إرادي بطولي تقريباً. أوديب الذي لم ينتحر بعد اكتشاف جرائمه، بل عاقب نفسه بالعمى وواصل الحياة، مما يطرح سؤالاً عن تحمل تبعات الأفعال بدلاً من الهروب منها.

  2. الفلاسفة: هذا هو أغنى قسم في التحليل. تناقش هول مواقف الفلاسفة الرئيسيين:

    • أفلاطون: كان ناقداً صريحاً للانتحار. في "فيدون" (أو حول النفس)، على لسان سقراط، يصف الانتحار بأنه غير مقبول، لأن البشر "ممتلكات" الآلهة، وليس من حقهم التصرف في هذه "الممتلكات". الاستثناء الوحيد هو عندما يأتي الموت بأمر إلهي مباشر (كما في حالة سقراط نفسه الذي أُجبر على شرب السم).

    • أرسطو: كان أكثر صرامة، واعتبر الانتحار عمل جبن وخيانة للدولة ("البوليس")، لأنه يحرم المجتمع من مواطن. في نظريته الأخلاقية، الانتحار هو النقيض المطلق للحياة الفضلى والنشطة.

    • الرواقيون (الزنائيون): هنا نجد أكثر وجهات النظر تساهلاً وتعقيداً. الفلاسفة مثل سينيكا وإبيكتيتوس آمنوا أن الحكيم يجب أن يعرف متى "يغادر غرفة الحياة" إذا أصبحت الظروف غير محتملة ولا تطاق، وتتعارض مع الفضيلة والعقل. كان الانتحار المقبول بالنسبة لهم هو الخيار العقلاني الهادئ عندما تصبح الحياة شراً أكبر من الموت. لم يكن فعل يأس، بل قرار حكيم لإنهاء المعاناة. هذا الموقف كان له صدى عميق لدى هول في تأملها لمعاناة والدتها.

  3. الممارسة الاجتماعية: توضح هول أن الإغريق، عملياً، كانوا عمليين. في أثينا، على سبيل المثال، كان هناك عقاب مدني للجثة: تُقطع يد الشخص الذي مات منتحراً ودفنها منفصلة عن الجسد. لكن هذا لم يكن بدافع التدنيس الديني بقدر ما كان عقاباً مادياً، لأنه كان يُعتقد أن الشخص قد حرم الدولة من خدماته. ومع ذلك، كان هناك تعاطف مع أولئك الذين انتحروا بسبب مرض لا يُحتمل أو عار لا يُطاق.

إلهات الانتقام الداخلي: الذنب، العار، والغضب

هذا هو قلب الكتاب العاطفي. تربط هول بين مطاردة الإيرينيات للقتلة في الأساطير (مثل أوريستes) ومطاردة "إيرينياتها" الداخلية – مشاعر الذنب والعار التي لا تتركها. كانت الإيرينيات في الأساطير يمثلن ضمير المجتمع البدائي، اللواتي يعاقبن على انتهاك القوانين الطبيعية، خاصة روابط الأسرة.

انتحار والدتها كان بمثابة انتهاك لتلك الرابطة الأسرية، مما أطلق إيرينياتها الشخصية. كانت هذه المشاعر هي "الإلهات" التي كان عليها أن تواجهها وتصارعها. من خلال سردها، نرى كيف استخدمت الأساطير والمسرحيات (مثل مسرية "الأوريستيا" لإسخيلوس) كإطار لفهم مشاعرها. كما تشرح كيف أن عملية الحداد نفسها، في التراجيديا الإغريقية، كانت جماعية وعلنية، وهو ما ساعد المجتمع على التئام جراحه، على عكس صمتنا وعزلتنا الحديثة.

 التطهير والخلاص: دور التراجيديا

تتوسع هول في دور المسرح التراجيدي الإغريقي كآلة للتطهير ("الكاثارسس"). كانت المسرحيات تقدم للجمهور أسوأ السيناريوهات الممكنة (القتل، الزنا، الانتحار، الجنون) في إطار طقسي وآمن. بمشاهدتها، كان المتفرجون يفرغون مشاعر الخوف والشفقة لديهم.

بالنسبة لها، أصبحت إعادة قراءة هذه النصوص وشروحاتها عليها شكلاً من أشكال العلاج. من خلال الانغماس في مآسي الآخرين (الحقيقية والخيالية)، وجدت مساحة لتطهير مشاعرها الخاصة. 

تشرح كيف أن نهايات بعض المسرحيات، حيث تأتي آلهة مثل أثينا لإقامة محكمة عادلة وتضع حداً لدورة العنف والانتقام (في الأوريستيا)، قدمت لها أملاً في إمكانية المصالحة والسلام، حتى بعد الفعل الذي لا يمكن الرجوع عنه.

 العثور على المعنى ووراثة الحكمة

 ليس استسلاماً للحزن، بل هو رحلة نحو التقبل. تشرح هول كيف ساعدها الفهم الأكثر دقة وتعددية للإغريق في تفكيك وصمة العار التي أحاطت بموت والدتها. لقد أدركت أن الإغريق لم يحكموا حكماً واحداً قاطعاً، بل قدموا مجموعة من الإجابات، من الإدانة إلى التسامح التعاطفي.

هذا التنوع منحها حرية اختيار الإطار الذي يساعدها على الشفاء.

 ربما لم تكن والدتها مقاتلة جبانة (كما قد يقول أرسطو)، ولكنها أكثر شبهاً بالحكيم الرواقي الذي اتخذ قراراً – وإن كان مأساوياً ومعيباً – لإنهاء عذابها هي (من وجهة نظرها). هذا الفهم لا يبرر الفعل، ولكنه يسمح لها بفصل حبها لوالدتها عن الطريقة التي ماتت بها، وأن ترثي المرأة التي عرفتها، وليس فقط ظروف موتها.

حوار عبر العصور

تنتهي بأن الحكمة القديمة ليست قطعة أثرية متحفية، بل هي مورد حيوي يمكنه، بل ويجب، أن يستشار في أعمق أزماتنا الإنسانية. 

الانتحار ظاهرة إنسانية عالمية، والإغريق، بكل تعقيدهم وتناقضاتهم، قدموا لنا لغة وأفكاراً للتعامل معها بصدق وشجاعة أكبر مما تسمح به ثقافتنا الحديثة التي غالباً ما تتسم بالإحراج والصمت.

"مواجهة إلهات الانتقام" هو عمل شجاع بشكل استثنائي. إنه يجمع بين الصرامة الأكاديمية والانكشاف العاطفي العميق. 

 لا تقدم إجابات سهلة، ولكنها تقدم شيئاً أكثر قيمة: سياقاً، تعقيداً، وتعاطفاً. من خلال حوارها مع الماضي، تخلق مساحة للقراء الذين قد يكونون قد تأثروا بشكل مباشر أو غير مباشر بالانتحار، للتفكير في هذه القضية بعمق أكبر، وربما يبدؤون في مواجهة "إيرينياتهم" الخاصة، ليس بهدف القضاء عليها، ولكن لفهمها، والتكيف معها، وفي النهاية، إسكات صراخها.

أنه شهادة على قوة العلوم الإنسانية، ليس كمجال أكاديمي منعزل، ولكن كأداة ضرورية للبقاء والفهم في عالم مليء بالألم والمعاناة. إنه دعوة لإجراء محادثة أكثر انفتاحاً وإنسانية حول الصحة العقلية، والمعاناة، والخيارات الصعبة التي يواجهها البعض، والإرث الثقيل الذي يتركونه وراءهم

إرسال تعليق

0 تعليقات