"منطق البحث العلمي" لكارل بوبر
أسس فلسفة العلم النقدي
كارل بوبر (1902-1994) فيلسوف نمساوي-بريطاني يُعد أحد أعمدة فلسفة العلم في القرن العشرين. وُلد في فيينا لعائلة مثقفة، حيث تأثر بمكتبة والده الغنية وبالبيئة الموسيقية لأمه .
درس الفيزياء والرياضيات قبل أن يتجه للفلسفة، وهاجر إلى نيوزيلندا ثم بريطانيا هرباً من النازية.
صدر "منطق البحث العلمي" بالألمانية عام 1934 تحت عنوان Logik der Forschung، ثم نُقح وأضيف
إليه على مدى 60 عاماً، ليصدر بالعربية عام 2006 بترجمة محمد البغدادي عن المنظمة العربية للترجمة . يُعتبر العمل ثورة في فهم منهج العلم، حيث يري أن جوهر العلم لا يكمن في "إثبات" النظريات بل في "دحضها" .
فلسفة بوبر
يرفض المنهج الاستقرائي التقليدي الذي يعتمد على:
الملاحظة التراكمية: كتجميع مشاهدات عن طيور البجع البيضاء لاستنتاج أن "كل البجع أبيض" .
- العموميات من الجزئيات: الانتقال من حالات فردية إلى قوانين عامة .يُبيّن بوبر أن هذا المنهج يعاني من مشكلتين جوهريتين:
مشكلة التبرير المنطقي: لا يمكن استخلاق اليقين من ملاحظات محدودة، فمشاهدة ألف بجعة بيضاء لا تثبت عدم وجود بجعة سوداء .
تأثر الملاحظة بالنظرية السابقة: الباحث لا يلاحظ بذهن خالٍ، بل توجّهه توقعاته وثقافته. كما يوضح: "حين ترى شيئاً لا تستعمل عينيك فقط، بل أداة فهم تتشكل بثقافتك السابقة" .
"الاستقراء يجرّ وراءه تقهقراً لا نهاية له من الأسئلة" .
العلم واللاعلم
يقدم حلاً بديلاً للاستقراء عبر "معيار القابلية للتكذيب" (Falsifiability)، الذي ينص على:
النظرية علمية إذا كانت قابلة للدحض بتجارب قابلة للتكرار .
الفرق الجوهري: بين القابلية للتحقق (الوضعية) والقابلية للدحض (البوبرية):
الوضعيون: يعتبرون النظرية علمية إذا أمكن تأييدها بالتجربة.
بوبر: النظرية علمية إذا أمكن تفنيدها بالتجربة .
أمثلة تطبيقية للمعيار:
النظرية | قابلية التكذيب | تصنيف بوبر |
---|---|---|
النسبية العامة | عالية: تتنبأ بانحناء الضوء بالقرب من الشمس، ويمكن دحضها إذا لم يحدث الانحناء في الرصد | علمية |
الماركسية | منخفضة: تفسر أي حدث تاريخي (ثورة أو استقرار) كتأكيد لها | غير علمية |
التحليل النفسي (فرويد) | معدومة: تفسر كل سلوك بشري (حتى التناقضات) دون اختبار محدد | غير علمية |
"ما لا يمكن دحضه ليس علماً" .
التخمين والدحض
يصف بوبر العلم كعملية ديناميكية في أربع خطوات:
طرح المشكلة: مثل عدم اتساق نظريات نيوتن مع نتائج رصد مدار عطارد.
الحلول التخمينية: اقتراح نظريات جريئة (النسبية) لحل المشكلة.
التفنيد النقدي: اختبار النظريات عبر تجارب صارمة (كالرصد أثناء كسوف الشمس 1919).
مشكلات جديدة: حتى النظريات الناجحة تولّد أسئلة جديدة (كإشكاليات الزمكان في النسبية) .
آليات ضمان النزاهة العلمية:
نقد الذات: تشجيع العلماء على البحث عن أخطاء نظرياتهم.
الاختبارات "المخاطِرة": تجارب قد تدمر النظرية إذا فشلت، كاختبار انحناء الضوء للنسبية .
رفض "الفرضيات المساعدة": التي تُضاف لإنقاذ نظريات من التفنيد (كإدخال تعديلات غير قابلة للاختبار على الماركسية) .
الجذور الفلسفية
تتشابك أفكاره مع تيارات فلسفية وعلمية:
تأثير آينشتاين: ألهمته جرأة النسبية في تقديم تنبؤات قابلة للدحض .
نقد الوضعية المنطقية: رغم اتفاقه معها على أهمية الوضوح، يرفض معيارها "القابلية للتحقق" .
توظيف المنطق الاستنباطي: حيث تُستنتج نتائج محددة من النظريات العامة لاختبارها، خلافاً للاستقراء .
العلاقة مع الميتافيزيقا:
يرى أن النظريات غير القابلة للتكذيب (كالميتافيزيقا) ليست عديمة القيمة، بل قد تلهم علماء المستقبل (كما ألهمت ذرة ديمقريطس الفيزياء الحديثة) .
التطبيقات خارج العلوم الطبيعية
يمتد منهج بوبر إلى مجالات أخرى:
العلوم الاجتماعية: رفض "الحتمية التاريخية" (كما في الماركسية)، لأن التاريخ لا يُختبر في معمل .
السياسة: دعوته لـ "المجتمع المفتوح" الذي يسمح بالنقد والتجريب، مقابل المجتمعات المغلقة القائمة على اليقين المطلق .
نمو المعرفة: يشبّه تقدم العلم بـ "التطور الدارويني"، حيث تنجو النظريات الأكثر قابلية للبقاء من خلال الانتخاب الطبيعي للأفكار .
"العلم لا ينبني على أساس من الصخر، بل على أرض موحلة يقيم عليها نظرياته الجسورة" .
تأثيره على العلماء: أشاد به علماء حاصلون على نوبل مثل جون إيكلس وجاك مونو كمرشد منهجي .
مقولة هيرمان بوندي الشهيرة: "ليس العلم شيئاً أكثر من منهجه، ومنهجه ليس شيئاً أكثر مما قاله بوبر" .
نقد لاحق: اتهمه بعض الفلاسفة (مثل توماس كون) بتجاهل دور "البرادايمات" والعوامل الاجتماعية في العلم .
في العالم العربي:
تُعد ترجمة البغدادي (2006) الأكثر اكتمالاً، لكن أفكار بوبر لا تزال مهمشة في الخطاب الأكاديمي العربي، رغم حاجتنا لفهم منهج العلم قبل نتائجه .
ا لماذا يظل الكتاب أساسياً؟
يقدم "منطق البحث العلمي" رؤية متواضعة للعلم:
النظريات ليست "حقائق مطلقة" بل حلول مؤقتة قابلة للتفنيد.
الخطأ ليس عيباً بل ضرورة لتقدم المعرفة.
العلمانية كمنهج: فصل العلم عن الإيمان بالتركيز على القابلية للاختبار .
"الذين يرفضون تعريض أفكارهم لخطر التفنيد لا يشاركون في اللعبة العلمية" .
في عصر انتشار "العلم الزائف" (Pseudoscience) والمعلومات المغلوطة، يظل كتاب بوبر دليلاً لإعادة اكتشاف روح العلم النقدية: الشك المنظم، والجرأة في التساؤل، والشجاعة في تغيير المسار عند مواجهة الأدلة
_________________________
المصادر
١. منطق البحث العلمي (ويكيبيديا)
٢. مراجعة كتاب منطق البحث العلمي (نور بوك)
٣. تحليل معيار التمييز بين العلم واللاعلم (بلوق تسايف)
٤. منطق الكشف العلمي (مجلة عربية)
٥. مناقشة فلسفة العلم والوضعية (جريدة الرياض)
٦. أهمية فلسفة العلم عند بوبر (هنداوي)
0 تعليقات