في مهب الريح لجورج أورويل


 

في مهب الهواء – Coming Up for Air

 (1939) لجورج أورويل

 الرواية وأهميتها

 رواية "الصعود إلى الهواء" (بالإنجليزية: Coming Up for Air) العمل الروائي الرابع لجورج أورويل، نُشرت في يونيو 1939 قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة. 

كُتبت خلال فترة نقاهة أورويل في مراكش بالمغرب (سبتمبر 1938 - مارس 1939)، حيث كان يتعافى من إصابة في الحلق لحقت به خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ومن مرضٍ خطير أُصيب به لاحقًا. 

تميزت هذه الفترة بتشاؤم أورويل العميق إزاء التغيرات الاجتماعية في إنجلترا وتهديد الحرب الوشيك، وهو ما انعكس بوضوح في ثيمات الرواية .


 رحلة البحث عن الماضي

تدور الرواية حول جورج بولينغ، بائع تأمين في منتصف العمر (45 عامًا)، يعيش حياة رتيبة في ضواحي لندن مع زوجته الهزيلة "هيلدا" وطفليه. تبدأ الأحداث عندما يفوز بـ 17 جنيهًا إسترلينيًا في سباق خيول، ويخفي المال عن عائلته. يحضر لاحقًا اجتماعًا لنادي الكتاب اليساري (Left Book Club) حيث يصاب بالرعب من خطاب كراهية مناهض للفاشية، ويسخر من الثرثرة الماركسية للحضور. هذه التجربة، إلى جانب اكتئابه من رتابة الحياة، تدفعه لاستخدام المال في رحلة إلى مسقط رأسه، قرية "بينفيلد السفلى" (Lower Binfield)، أملاً في استعادة ذكريات طفولته .

الذكريات المفقودة: إنجلترا قبل الحرب العظمى

  • الجنة المفقودة: يتذكر بولينغ طفولته في بينفيلد السفلى (قرية خيالية بأكسفوردشاير) كعالمٍ مثالي: أيام الصيد في نهر التايمز، حقول القمح، البرك الطبيعية، والحياة الهادئة. كان والده تاجر بذور متواضع، وأمه ربة منزل تقليدية. الصيد كان شغفه الأكبر، خاصةً بركة سرية مليئة بسمك الشبوط العملاق، وعد نفسه بأن يصطادها يومًا ما .

  • تحولات قاسية: عند عودته، يكتشف أن القرية تحولت إلى مدينة صناعية قبيحة: منزله القديم أصبح متجر شاي، الحانة تحولت لفندق فاخر، والحبيبَة القديمة "إلسي" صارت امرأةً عجوزًا بائسة لم تعرفه. الأسوأ أن البركة الأسطورية أصبحت مكبًا للنفايات، رمزًا لانتصار التصنيع على الجمال الطبيعي .

"أنا أعود إلى بينفيلد السفلى، والعام 1900... لكن كل شيء اختفى. لقد أصبحت بحرًا من القرميد!" — جورج بولينغ .


 التحليل والنقد الاجتماعي

1. الحنين كفخٍّ وخيبة

  • استحالة العودة: تتعامل الرواية مع فكرة أن "لا يمكنك العودة إلى الماضي" (You can’t go home again). ذكريات بولينغ تُظهر إنجلترا الإدواردية (1901-1910) كعصر ذهبي، لكن زيارته تكشف أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية دمرت هذا العالم. النقد هنا موجه للرأسمالية والاستغلال العقاري (Speculative Builders) الذي حوّل الريف إلى ضواحي رمادية .

  • التناقض بين الذاكرة والواقع: الذكريات مشرقة ودافئة (الصيف الدائم، الحقول الخضراء)، لكن الواقع بارد ومليء بالخردة. هذا يعكس رؤية أورويل بأن الحنين قد يكون هروبًا من مواجهة الحاضر .

2. تهديد الحرب والانهيار الوجودي

  • ظلال الحرب العالمية الثانية: طوال الرواية، يُذكّر أورويل القارئ بقرب الكارثة: طائرات القصف تحلق فوق لندن، خطابات الكراهية في النادي اليساري، وحتى نهاية الرواية عندما تُسقط طائرة قنبلة بالخطأ على بينفيلد السفلى. بولينغ يتنبأ بأن الحرب ستجعل الحياة "طوابير طعام، ودمار، وطغاة" .

  • المقارنة مع الحرب العالمية الأولى: يُظهر بولينغ كيف أن "الحرب العظمى" سرقت شبابه، والحرب القادمة ستسرق ما تبقى من إنسانيته. مشهد إصابته في الحرب عام 1916 (مستوحى من تجربة أورويل في إسبانيا) يؤكد عبثية الصراعات .

3. النقد الطبقي والاستهلاكية

  • الطبقة الوسطى كسجناء: يصف بولينغ ضواحي لندن كـ "زنازين في صفٍّ واحد"، حيث الموظفون يعانون من طغيان الرؤساء وزوجاتهم. حتى منازلهم مملوكة لشركات البناء (مثل جمعية السير هيوبرت كروم) التي تستغلهم .

  • الاستهلاكية المرضية: يهاجم أورويل الثقافة المادية الحديثة: المطاعم اللامعة، الحانات البلاستيكية، الإعلانات الزائفة. بولينغ يسخر من مصطلح "انسيابي" (Streamlined) كرمز للزيف .


الشخصيات: رموز التشيؤ والضياع

الشخصيةالدور الرمزيالتحول في الرواية
جورج بولينغالإنسان العادي المقهورمن الحالم إلى اليائس
هيلداالزوجة المتسلطة، تمثل الاختناق الزواجيثابتة كشبح يطارده
إلسيالحبيبة القديمة، رمز النقاءتتحول لامرأة شاحبة لا تعرفه
بورتيوسالمعلم المتقاعد، يمثل الثقافة الجافةيزيد اكتئاب بولينغ بحديثه العقيم

الأسلوب والأدبية: بين السخرية والحنين

  • السرد الذاتي: الرواية مكتوبة بصيغة الأولى، مما يعمق التعاطف مع بولينغ. أورويل يستخدم لغة بسيطة لكنها قوية، تمزج بين السخرية من الواقع (مثل هوس المجتمع بالرشاقة) ولوحات شاعرية عن الطفولة .

  • التأثيرات الأدبية:

    • هربرت جورج ويلز: وصف الناقدان بيتر ستانسكي وويليام إبراهامز الرواية بأنها "ويلزية" (Wellsian) في تصويرها لإنجلترا الريفية قبل الحرب .

    • هنري ميلر: يرى الناقد مايكل ليفنسون أن الصيد في الرواية يمثل "نقيض الحرب"، تمامًا كما مثل الجنس في أعمال ميلر (Tropic of Cancer) .


الخلفية التاريخية والسياسية

  • تأثير الحرب الأهلية الإسبانية: إصابة أورويل في الحلق (1937) جعلته يدرك وحشية الحروب التوتاليتارية، وهو ما ظهر في خوف بولينغ من القناصين والتفجيرات .

  • الصراع مع الناشر: حاول الناشر فيكتور جولانكز (يساري) رفض الرواية لأنها تسخر من نادي الكتاب اليساري وتصوره كمجموعة من المتعصبين. لكنه نشرها أخيرًا دون تعديلات جذرية .


الاستقبال النقدي والإرث

  • التقييم الأولي: بيعت 3,000 نسخة عند الإصدار، وهي نسبة جوية وقتها. وصفها Sunday Times بأنها "هزلية وواقعية"، لكن بعض النقاد رأوا أن جوانبها "المضحكة" مبالغ فيها .

  • المقارنة مع أعمال أورويل اللاحقة: تعتبر الرواية الجذور السياسية لـ مزرعة الحيوان (1945) و*1984* (1949). ففيها يهاجم أورويل لأول مرة:

    • الدعاية السياسية المفرطة (الاجتماع اليساري).

    • تدمير الرأسمالية للبيئة (تحول البركة لمزبلة).

    • فقدان الفردية في العالم الحديث .

  • النقد النسوي: يُلام أورويل على تصوير النساء (مثل هيلدا وإلسي) كشخصيات أحادية البعد، لكن هذا لا يقلل من قيمة النقد الاجتماعي .


خاتمة: لماذا لا تزال الرواية مهمة؟

"الصعود إلى الهواء" ليست مجرد حكاية عن رجل منتصف العمر، بل هي نبوءة عن العالم الحديث:

  1. الحرب الدائمة: تنبأت بصعود الديكتاتوريات والحروب غير المحدودة.

  2. الاغتراب البيئي: قدمت نقدًا مبكرًا للرأسمالية التي تدمر الطبيعة.

  3. اليقظة الوجودية: عنوان الرواية استعارة للخروج من الاختناق اليومي، وهو دعوة للانتباه للحظة الراهنة قبل فوات الأوان.

"نحن نختنق في قاع سلة المهملات... لكنني وجدت طريقًا إلى السطح. العودة إلى بينفيلد السفلى!" — جورج بولينغ .


المصادر:

إرسال تعليق

0 تعليقات